تحالف قوى التغيير الجذري: من رفض اتفاقية استقلال السودان مرورًا بالسعي لحل الإدارات الأهلية وانتهاءً بمعاداة قوى الحرية والتغيير
تاريخ النشر: 26th, September 2024 GMT
تحالف قوى التغيير الجذري: من رفض اتفاقية استقلال السودان مرورًا بالسعي لحل الإدارات الأهلية وانتهاءً بمعاداة قوى الحرية والتغيير: ماذا يريد الحزب الشيوعي في السودان؟ (1 من 3)
د. عبد المنعم مختار
أستاذ جامعي متخصص في السياسات الصحية القائمة على الأدلة العلمية
تُعد مذكرة الشفيع أحمد الشيخ، الصادرة في بداية عام 1965، والمدعومة من الحزب الشيوعي السوداني وواجهاته النقابية والنسائية والطلابية، والتي دعت إلى حل الإدارات الأهلية وإلغاء الحكم القبلي في السودان، علامة بارزة في تاريخ الصراع بين نهج التغيير الجذري ومسار الإصلاح التدريجي في السودان.
تُعتبر هذه المذكرة محاولة لإضعاف الحزبين الكبيرين في السودان، حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي، عبر حل مؤسسات حكمهم غير المباشر للدولة من خلال إلغاء منظمات المجتمع المدني التقليدية ذات النفوذ المجتمعي والانتخابي الداعم للحزبين، أي عبر حل الإدارات الأهلية وتهميش القيادات القبلية.
قبل تلك المذكرة، كان الحزب الشيوعي قد رفض اتفاقية الحكم الذاتي الموقعة في فبراير 1953. إذ شكك الحزب في العديد من جوانب هذه الاتفاقية، حيث رأى في وجود الولايات المتحدة الأمريكية ضمن لجنة الانتخابات تسللًا استعماريًا جديدًا بديلًا للبريطانيين. واعتبر وجود باكستان في لجنة الحاكم العام محاولة لجر السودان نحو حلف الشرق الأوسط البريطاني الاستعماري. كما اعتبر أن إرجاء البت في قيادة الجيش لما بعد الجلاء يمثل تمريرًا لنفوذ بريطاني وأمريكي في القوات المسلحة الوطنية. وانتقد الحزب أيضًا سلطات الحاكم العام المتعلقة بإعلان الطوارئ ودوائر الانتخاب غير المباشر.
وفي هذا السياق، صرح كامل محجوب، أحد قيادات الحزب آنذاك والسكرتير السياسي للحزب في الجزيرة، بأن الحزب رفض الاتفاقية أيضًا لأن الحرية لا يمكن أن تأتي عبر اتفاق سلمي، بل فقط بثورة دموية. ومع ذلك، تراجع الحزب عن موقفه الرافض للاتفاقية أمام الضغط الجماهيري الكبير المؤيد لها بعد فترة قصيرة من الرفض. إلا أن زعيم الحزب، عبد الخالق محجوب، ألقى باللوم على الأحزاب الكبيرة لعدم تحالفها معه، مما ضيع، بحسب تعبيره، الفرصة على اتفاقية أكثر نضجًا وثمارًا.
من ناحية أخرى، عُرف عن الحزب الشيوعي مساندته لحركات السودان الجديد المسلحة. بدأ ذلك سرًا عبر التواصل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان عند تأسيسها في أواخر العام 1983، واستمر الدعم عبر واجهاته النقابية أثناء الفترة الانتقالية من 1985 إلى 1986. ثم أعلن الحزب دعمه بشكل علني من خلال تحالفه مع تلك الحركات عند انضمام الحركة الشعبية للتجمع الوطني الديمقراطي في عام 1990.
إذا قرأنا تلك المواقف في سياقها التاريخي، يمكن القول إن رفض الحزب لاتفاقية استقلال السودان، ودعوته لحل الإدارات الأهلية، ودعمه لتحالف السودان الجديد المسلح، تشكل برنامجًا لتحالف قوى التغيير الجذري الذي بدأ الحزب الشيوعي، ومعه واجهاته النقابية والنسائية والطلابية، العمل عليه منذ عام 1953. بالتالي، لم تكن دعوة التغيير الجذري وليدة الانتقال الذي تلا ثورة ديسمبر 2018. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار تدشين اسم "تحالف قوى التغيير الجذري"، الذي تم الإعلان عنه في مؤتمر صحفي قاده الحزب وحواضنه الاجتماعية في يوليو 2021 بمقر مركز الدراسات السودانية بالخرطوم، مجرد تجسيد لمشروع قديم ولكن في إطار جديد.
في الجزء الثاني من هذا المقال، سنتناول محاولات حل الحزب الشيوعي في السودان، سواء الفاشلة منها أو الناجحة.
في ملحق هذا المقال، نورد تفاصيل عن مذكرة الشفيع أحمد الشيخ التي قمنا باستلالها من مقالنا المنشور على موقع سودانايل يوم 20 سبتمبر 2024، تحت عنوان "الإدارات الأهلية والحكم القبلي في السودان: تحليل الأطر النظرية، الأدوار والمسؤوليات، الفاعلية، الهيكل التنظيمي، التحديات والفرص، والتوصيات، مع مقارنات إقليمية منظمة وتحليل للعلاقات مع المجتمع والدولة والأحزاب السياسية".
المراجع
أحمد إبراهيم أبو شوك: "الدكتور عبد الله علي إبراهيم ومذكرة الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية (1 – 3)". سودانايل. 24 و28 أغسطس و1 سبتمبر 2009. تم الاطلاع عليها في 25 سبتمبر 2024.
فيصل عبد الرحمن علي طه: "في ذكرى استقلال السودان – حكومة الأزهري تستشير بريطانيا بشأن محاربة الشيوعية (2)". الراكوبة. 8 يناير 2017. تم الاطلاع عليها عبر الإنترنت في 25 سبتمبر 2024.
*ملحق: مذكرة الشفيع أحمد الشيخ لحل الإدارات الأهلية وإلغاء الحكم القبلي في السودان وتداعياتها*
مقدمة
تُعد مذكرة الشفيع أحمد الشيخ لحل الإدارات الأهلية وإلغاء الحكم القبلي في السودان واحدة من الوثائق البارزة التي شكلت جزءًا من الجدل السياسي والاجتماعي في فترة الستينيات. الشفيع أحمد الشيخ، أحد القيادات البارزة في الحزب الشيوعي السوداني، قدم هذه المذكرة كجزء من جهود الحزب لإحداث تغيير جذري في النظام الاجتماعي والسياسي في البلاد. تضمنت المذكرة انتقادًا للإدارات الأهلية باعتبارها عائقًا أمام التقدم الاجتماعي، ودعت إلى إلغائها واستبدالها بهياكل إدارية حديثة.
سياق المذكرة
التوقيت: صدرت مذكرة الشفيع أحمد الشيخ في أوائل عام 1965، بعد ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت بالنظام العسكري لحكومة إبراهيم عبود. جاءت المذكرة في وقت كان السودان يشهد تحولات سياسية كبيرة، بما في ذلك تصاعد التيارات اليسارية والحركات العمالية. كانت الفترة مليئة بالنقاش حول دور الإدارات الأهلية في المجتمع السوداني، لا سيما مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد.
الدوافع: رأى الشفيع أحمد الشيخ والتيارات الراديكالية التي شاركته الرأي أن الإدارات الأهلية، التي تشكلت على أسس قبلية، كانت تعزز الانقسام الاجتماعي وتعيق التطور الديمقراطي. كان يُنظر إلى هذه الإدارات على أنها وسيلة للحفاظ على الهيمنة الطبقية، حيث استغلها الاستعمار البريطاني لتعزيز سيطرته من خلال "الحكم غير المباشر". بعد الاستقلال، استمرت هذه الإدارات في لعب دور مهم، مما اعتبره الشفيع عقبة أمام تحقيق العدالة الاجتماعية.
مضمون المذكرة
تحليل الإدارات الأهلية: ركزت المذكرة على أن الإدارات الأهلية كانت تُستخدم كأداة للحكم التقليدي، معتبرة أنها تعزز الفوارق الطبقية وتتحكم في الموارد المحلية لصالح النخب القبلية. انتقدت المذكرة استمرار هذا النظام بعد الاستقلال، حيث اعتبرته امتدادًا لسياسة "فرق تسد" التي انتهجها الاستعمار البريطاني.
دور الدولة: دعت المذكرة إلى إلغاء الإدارات الأهلية واستبدالها بنظام إداري مركزي تديره الدولة. اقترحت إنشاء مجالس شعبية محلية منتخبة تتولى إدارة الشؤون المحلية والخدمات العامة، وتكون مسؤولة أمام الحكومة المركزية. كان الهدف تعزيز سيادة القانون والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية.
تغيير الأراضي: أحد المحاور الرئيسية في المذكرة كان تغيير نظام حيازة الأراضي. دعت إلى إعادة توزيع الأراضي بصورة عادلة، حيث كان النظام القبلي يُمكّن الزعماء من التحكم في الأراضي، مما أدى إلى تركز الثروة في أيدي فئات قليلة. اقترحت المذكرة تغييرًا زراعيًا شاملًا لضمان توزيع أكثر عدالة للموارد.
تفاصيل التطبيق الجزئي للمذكرة
التطبيق الجزئي: بعد إصدار المذكرة، اتخذت الحكومة الانتقالية بعد ثورة أكتوبر 1964 خطوات نحو تطبيق جزئي لمقترحات المذكرة، وفقًا لسلسلة مقالات أحمد إبراهيم أبو شوك. على سبيل المثال، في شمال كردفان ودارفور، بدأت الحكومة في تقليص صلاحيات الإدارات الأهلية، وبدأت في تشكيل مجالس محلية منتخبة لتحل محل بعض زعماء القبائل. وفقًا لأبو شوك، تم تقليص صلاحيات الإدارات الأهلية في شمال كردفان بشكل ملحوظ، ولكن التنفيذ كان غير متكامل، حيث واجهت الحكومة تحديات لوجستية وسوء تخطيط في التطبيق.
في دارفور، كانت جهود الحكومة لتطبيق المذكرة أكثر تعقيدًا بسبب المقاومة القوية من زعماء القبائل الذين اعتبروا التغييرات تهديدًا لسلطتهم التقليدية. على الرغم من الجهود المبذولة، فقد كانت التغييرات التي تم تنفيذها مقتصرة على مناطق معينة وكانت تواجه صعوبات في فرض التغييرات بشكل شامل.
أشار أحمد إبراهيم أبو شوك إلى أن التطبيق الجزئي للتغييرات لم يحقق نجاحًا ملموسًا بسبب افتقار الحكومة إلى الموارد والبنية التحتية الضرورية لإدارة التحولات في المناطق الريفية، حيث كان النظام القبلي متجذرًا بقوة. كما أن التحول نحو الإدارة الحديثة تطلب بناء مؤسسات جديدة وتغيير العادات والتقاليد السائدة، وهي عملية كانت تحتاج إلى وقت وجهد أكبر.
نجاح وفشل التطبيق
لم تكن الخطوات الجزئية نحو تطبيق المذكرة ناجحة بالكامل. فقد واجهت مقاومة شديدة من زعماء القبائل والطرق الصوفية التي اعتبرت النظام القبلي وسيلة للحفاظ على نفوذها. كما أن الحكومة لم تكن قادرة على فرض هذه التغييرات في جميع المناطق بسبب ضعف البنية التحتية وافتقارها إلى آليات التنفيذ الفعالة. تشير التقارير إلى أن التطبيق الجزئي لم يحقق الأهداف المنشودة بشكل كامل.
مواقف الأحزاب السياسية والقبائل والطرق الصوفية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني
الأحزاب السياسية: كان حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي من أبرز معارضي المذكرة، حيث اعتبراها تهديدًا للهيكل الاجتماعي التقليدي الذي كان يشكل جزءًا من قاعدتهما السياسية. في المقابل، أيد الحزب الشيوعي السوداني وعدد من الأحزاب اليسارية التغييرات المقترحة، ودافعوا عن ضرورة تحديث المجتمع السوداني.
القبائل: زعماء القبائل كانوا في الغالب معارضين للمذكرة، حيث رأوا فيها تهديدًا مباشرًا لسلطتهم ومكانتهم في المجتمع. العديد من القبائل، خاصة في مناطق مثل دارفور وكردفان، نظرت إلى الإدارات الأهلية باعتبارها جزءًا من هويتها وتقاليدها.
الطرق الصوفية: عارضت الطرق الصوفية المذكرة أيضًا، حيث كان لها دور تقليدي في الوساطة وحل النزاعات ضمن النظام القبلي. كانت هذه الطرق تعتمد على دعم زعماء القبائل للحفاظ على نفوذها الديني والاجتماعي.
النقابات ومنظمات المجتمع المدني: أيدت النقابات، خاصة نقابات العمال، وبعض منظمات المجتمع المدني التغييرات المقترحة في المذكرة، معتبرة أنها خطوة نحو تعزيز العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد.
الأثر على النظام الإداري
استمرار الإدارات الأهلية: على الرغم من الجهود المبذولة من قبل الشفيع أحمد الشيخ والحزب الشيوعي السوداني، استمر النظام القبلي والإدارات الأهلية في الوجود. تم تقليص بعض صلاحياتها، إلا أنها بقيت جزءًا مهمًا من الهيكل الإداري، خاصة في المناطق الريفية. لعبت الإدارات الأهلية دورًا حيويًا في إدارة النزاعات المحلية، وكان لها تأثير كبير على الحياة اليومية في المجتمعات المحلية.
الخلاصة
مذكرة الشفيع أحمد الشيخ لحل الإدارات الأهلية تعتبر مرجعًا مهمًا لفهم التحديات التي واجهت جهود التغيير الجذري في السودان. رغم أنها لم تنجح في إحداث تغييرات جذرية في النظام القبلي، فإنها فتحت الباب أمام النقاش حول كيفية تحقيق إدارة محلية أكثر عدالة ومساواة. كان لهذه المذكرة دورٌ في إبراز قضية الإدارات الأهلية باعتبارها عائقًا أمام التقدم، مما أثر على الفكر السياسي للعديد من الأجيال اللاحقة.
تبقى مذكرة الشفيع أحمد الشيخ لحل الإدارات الأهلية وإلغاء الحكم القبلي مثالًا على التحديات التي تواجه محاولات التغيير في المجتمعات ذات البنية التقليدية المعقدة. أظهرت التجربة السودانية أن التحديث يحتاج إلى توافق مجتمعي وسياسي، وأن تطبيق التغييرات الجذرية يتطلب خططًا مدروسة تأخذ في الحسبان تعقيدات الواقع المحلي.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحزب الشیوعی السودانی قوى التغییر الجذری استقلال السودان المجتمع المدنی هذه المذکرة فی المجتمع تغییر ا کانت ت
إقرأ أيضاً:
آبي أحمد وأفورقي: صراع الممرات البحرية يعيد شبح الحرب
تعيد تصريحات وتحليلات متقاطعة، سياسية وأكاديمية، تسليط الضوء على البحر الأحمر باعتباره ساحة صراع إقليمي مفتوح، في ظل تقارير عن تحوّل مدينة عَصَب الإريترية إلى قاعدة عسكرية ولوجستية رئيسية للإمارات خلال حرب اليمن، مقابل تلويح إثيوبيا بإمكانية الوصول إلى البحر حتى بالقوة. وبينما يحذّر خبراء من أن أي تصعيد محتمل سيجعل السودان الحلقة الأضعف والأكثر تأثراً بسبب هشاشته الأمنية وانتشار المليشيات العابرة للحدود،
التغيير:كمبالا
تشهد منطقة القرن الأفريقي تصاعدًا في التوتر بين إثيوبيا وإريتريا، وسط مخاوف إقليمية ودولية من عودة الصراع بين البلدين اللذين ظلا يتأرجحان لعقود بين الهدوء النسبي والانفجارات العسكرية في ظل خلافات مزمنة يتصدرها ميناء عصب والوصول إلى البحر الأحمر.
ويأتي هذا التصعيد في لحظة حرجة تمر بها المنطقة بأكملها، حيث تتشابك الأزمات في السودان والبحر الأحمر واليمن، بما يجعل أي شرارة جديدة قابلة للتمدد خارج الحدود التقليدية للصراع.
صراع الجغرافيا يتجدد
ويقع ميناء عصب على ساحل البحر الأحمر في أقصى جنوب إريتريا قرب الحدود الإثيوبية، وقد كان الميناء البحري الرئيسي لإثيوبيا قبل استقلال إريتريا عام 1993، الأمر الذي جعل أديس أبابا تعتمد اليوم بنسبة تفوق 90 في المئة على موانئ جيبوتي لتسيير تجارتها الخارجية.
ووفق تقارير نشرتها منصة «جيسيكا» المعنية بشؤون القرن الأفريقي، فقد شهد الخطاب الإثيوبي منذ خريف 2023 تصعيداً واضحاً، بعدما وصف رئيس الوزراء آبي أحمد الوصول إلى البحر بأنه “مسألة وجودية” لإنهاء ما سماه “السجن الجغرافي” لإثيوبيا.
ميناء عصب تحول إلى قاعدة عسكرية ولوجستية رئيسية للإمارات خلال حرب اليمن
منصة «جيسيكا»
وتوضح «جيسيكا» أن الجغرافيا المحيطة بالميناء تزيد حساسية المشهد العسكري المحتمل، إذ لا يبعد ميناء عصب سوى نحو ستين إلى سبعين كيلومتراً عن الأراضي الإثيوبية، ما يجعله كما تقول المنصة “نقطة احتكاك ذات خطورة عالية” في حال فشل المساعي الدبلوماسية. والحساسية الاستراتيجية للميناء لا تنبع من موقعه الجغرافي فحسب، بل أيضاً من تاريخه الحديث مع القوى الخارجية. فقد تحول بين عامي 2015 و2021 إلى قاعدة عسكرية ولوجستية رئيسية للإمارات العربية المتحدة خلال حرب اليمن، بموجب اتفاق منح أبوظبي حق استخدام الميناء وقاعدة جوية مجاورة لفترة طويلة. وتشير تقارير المنصة إلى أن الاستثمار الإماراتي شمل توسيع المدرج وبناء مرافق تخزين ومرافئ عميقة استخدمت لنقل الجنود والعتاد عبر البحر الأحمر.
علاقة لم تتعاف
الكاتب والمحلل السياسي النور حمد، يري أن جذور التوتر بين البلدين تعود إلى الحقبة التي استعمرت فيها إثيوبيا إريتريا، وهي فترة ألقت بظلالها الثقيلة على تاريخ العلاقة بين البلدين. فقد خاضت إريتريا حرب تحرير طويلة انتهت باستقلالها في مطلع تسعينيات القرن الماضي، عقب الدور المركزي الذي لعبته في دعم جبهة تحرير التقراي والتحالف الإثيوبي الذي أطاح بنظام منغستو هايلي مريام. وبرغم هذا الإسهام، لم تنجح الدولتان في بناء علاقة مستقرة بعد الاستقلال، إذ ظلَّت الروابط اللغوية والدينية والثقافية التي تجمعهما عاجزة عن احتواء إرث الصراع، فتجددت الحرب بينهما بعد سنوات قليلة فقط.
ويشير حمد في مقابلة مع (التغيير) إلى أن واحدة من أكثر القضايا حساسية في العلاقة بين البلدين تتمثل في فقدان إثيوبيا لميناء عصب بعد استقلال إريتريا.
ويلفت إلى أن إثيوبيا، التي يتجاوز عدد سكانها المائة مليون نسمة، تحولت إلى دولة حبيسة تعتمد على موانئ جيبوتي وأرض الصومال البعيدة نسبيًا وذات القدرة المحدودة، بينما كان من الممكن في رأيه أن تشترط أديس أبابا الحصول على منفذ بحري مقابل الاعتراف باستقلال إريتريا، سواء عبر التأجير أو عبر ترتيبات اقتصادية طويلة الأمد.
ويرى أن إريتريا بدورها كان يمكن أن تبادر إلى تقديم تسوية تمنح إثيوبيا إمكانية الوصول إلى البحر، خاصة أن وجود اتفاق كهذا كان من شأنه تعزيز الاستقرار الاقتصادي والأمني للبلدين معًا.
غير أن الحسابات الجيوسياسية، كما يقول حمد، دفعت إريتريا إلى الإبقاء على قدرتها على الضغط عبر الموانئ، مستفيدة من حساسية إثيوبيا تجاه مسألة البحر الأحمر. كما لعب العداء المصري لإثيوبيا بسبب ملف مياه النيل دورًا في إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، حيث استخدمت القاهرة، وفق تقديراته، كلًّا من السودان وإريتريا كأدوات ضغط على إثيوبيا في مراحل مختلفة من النزاع.
تلويح إثيوبيا بالوصول إلى البحر حتى لو بالقوة تهديد واضح ينذر بعودة الحرب
النور حمد
ويشير النور إلى أن تلويح إثيوبيا في السنوات الأخيرة بالوصول إلى البحر، حتى لو بالقوة، يعد تهديدًا واضحًا يُنذر بإمكانية عودة الحرب ما لم يتوصل البلدان إلى اتفاق يمنح إثيوبيا منفذًا بحريًا يخفف اختناقها الجغرافي. ومع ذلك، يشير إلى أن حل هذه الأزمة ممكن إذا توفرت إرادة سياسية حقيقية، خاصة أن ما يجمع البلدين من تاريخ وثقافة ولغة أكبر وبما لا يقاس مما يربطها بمصر.
تعنت أسمرة يعقّد الحلول
ومن زاوية أخرى، يرى الناطق الأسبق باسم وزارة الخارجية السفير حيدر البدوي، أن احتمال الحرب بين البلدين يظل قائمًا، لكنه يعتقد أن اشتعال المنطقة وتعدد الأزمات قد يحد من فرص اندلاع مواجهة واسعة، لأن العالم اليوم غير مستعد لتحمل حرب جديدة في منطقة حساسة مثل البحر الأحمر.
مشكلة إثيوبيا لا يمكن حلها إلا في إطار اتفاقيات لضمان استخدام الموانئ المجاورة
السفير حيدر بدوي
ويرى خلال حديثه مع (التغيير) أن هناك جهودًا كثيفة تبذل لاحتواء التوتر، لكن تعنت النظام الإريتري يجعل المشهد أكثر تعقيدًا. ويضيف أن مشكلة إثيوبيا باعتبارها دولة غير مطلة على البحر لا يمكن حلها إلا في إطار اتفاقيات لضمان استخدام الموانئ المجاورة، وأن هذا المسار يتطلب بيئة سلمية واستقرارًا إقليميًا غائبًا حتى الآن.
رسائل ومناورات إقليمية
أما أستاذ العلوم السياسية في الجامعات والمحلل السياسي،إبراهيم كباشي، فيصف الصراع الإثيوبي الإريتري بأنه صراع متجدد، يظهر ويختفي بتأثير العوامل الداخلية والخارجية. ويعتقد في إفادة مطولة لـ(التغيير) أن القرن الأفريقي يشهد حالة من الاستقرار النسبي، ما يقلل من احتمالات العودة إلى حرب مباشرة، رغم إمكانية التصعيد كوسيلة للضغط السياسي أو لتمرير أجندات وتحالفات جديدة. ويرى أن البحر الأحمر أصبح في مقدمة أولويات القوى الدولية بعد تداعيات الحرب اليمنية على التجارة العالمية
ساحل البحر الأحمرويعتبر أستاذ العلوم السياسية، أن الصراع القائم لا يقتصر على استهداف ميناء عصب فقط، بل يتجاوز ذلك ليشمل عوامل أخرى غير مباشرة وغير مرئية. ويرتبط هذا الصراع بتشابكات مع فاعلين على المستويين الإقليمي والدولي، حيث بدأت تتشكل تحالفات جديدة في المنطقة، من بينها التحالف الإريتري–المصري–الصومالي، وهو ما ينعكس على الأوضاع الجيوسياسية في الإقليم.
وفي المقابل، كما يقول كباشي، تتمتع إثيوبيا بمكانة مهمة على مستوى شرق أفريقيا، وعلى مستوى القارة الأفريقية عموماً، إذ تعد من أكثر الدول امتلاكاً لشبكة علاقات ممتدة، إضافة إلى حضورها الواضح في الأجندة الدولية.
وبناءً على هذه المعطيات، تتزايد الدعوات من مختلف الأطراف لاعتماد الحلول الدبلوماسية، الأمر الذي يحدّ من احتمالات نشوب مواجهة عسكرية مباشرة أو انفجار الصراع.
وأن هذا الاهتمام يدفع نحو تفعيل دبلوماسية استباقية لمنع انفجار أي صراع جديد في المنطقة. ويشير إلى وجود رغبة لدى الطرفين في تجنب الحرب، ومع ذلك، يمكن توصيف هذا الوضع بأنه أزمة ذات طابع دوري، تميل إلى التصعيد ثم الانحسار، تبعاً للتحولات السياسية داخل الدول المعنية وبحسب تطورات المشهد الإقليمي بصورة عامة.
السودان الحلقة الأضعف في صراع الجوار
ويحذر كباشي من أن السودان سيكون الأكثر تأثرًا بأي تصعيد بين إثيوبيا وإريتريا، نظرًا لانهياره الأمني وتعدد المليشيات العابرة للحدود التي تنشط في أراضيه. ويوضح أن المنطقة أصبحت مفتوحة أمام معسكرات تدعم أطراف الحرب السودانية، سواء تلك المرتبطة بالجيش أو بقوات الدعم السريع، ما يجعل أي اضطراب إقليمي قادرًا على إعادة تشكيل خريطة الصراع داخل السودان.
السودان سيكون الأكثر تأثرًا بأي تصعيد لانهياره الأمني وتعدد المليشيات العابرة للحدود
أكاديمي
ويضيف أن احتمال تمدد الحرب إلى النيل الأزرق يصبح واردًا في ظل أي توتر إقليمي، وأن تدفقات اللاجئين ستزيد الضغط الإنساني على بلد يعاني أصلًا من الانهيار. كما يشير إلى أن شبكات التهريب والجريمة المنظمة ستستغل أي فراغ أمني جديد، ما يضعف مؤسسات الدولة السودانية، ويزيد صعوبة استقرارها.
ويخلص كباشي إلى أن معالجة مشكلة الدول الحبيسة في أفريقيا، ومن بينها إثيوبيا، تحتاج إلى حلول تنبع من داخل القارة، عبر الاتحاد الأفريقي والهيئات الإقليمية التي تستطيع ابتكار مسارات للتعاون الاقتصادي وتحسين البنية التحتية وتوفير الخيارات التجارية التي تقلل أسباب التوتر. ويرى أن أفريقيا تمتلك فرصًا واعدة لإطلاق مبادرات جديدة في مجالات الطاقة والتجارة والبنية التحتية، وأن استثمار هذا الهدوء النسبي يمكن أن يسهم في تهدئة الإقليم وتخفيف الضغوط التي تغذي الصراعات.
الوسومإثيوبيا إريتريا السودان القرن الأفريقي ساحل البحر الأحمر ميناء عصب