التبرعات الإنسانية بين لوحة البئر وأحلام العِطاش
تاريخ النشر: 29th, September 2024 GMT
لا يضمحل الخير ولا ينفد من نفوس أهله أبدا، ولا ينبغي ذلك مع تحديات الواقع ومصاعب الحياة، فبالتكافل وحده يمكن للمرء أن يأمن على عدالة الأرض وخير الإنسان ونبل القيم، لكن بعض الشر قد يذهب بكثير من الخير، الجشع والأطماع والانتهازية مصائد ينصبها ضعاف النفوس لما بقي من خير الإنسان وسعيه للتكامل والتكافل، منها استغلال العمل الخيري في كثير من مشاهد الرياء وسعي الأثرياء للرواج وتسويق الذات فيما يخرج عن غاية العمل الخيري الحقيقية لغايات أخر تنأى بالخير عن مقاصده، وبالخيّرين عن أهدافهم.
من ذلك ما صار مادة يتندر بها بعد إعلان التبرعات الخيالية لأعمال الخير، وتساؤل الفقراء عن عدم وصول أي من سحائب الغيث المُرَجَّى رغم كل دلائله من بروق ورعود، شُبِّه الأمر بلوحة الآبار الإفريقية التي يتبدل فيها اسم المتبرع ليحتفي المتبرع مع الوسيط دون وصول قطرة ماء للعِطاش المنتظرين غوثا وغيثا، ما هو إلا مشهد تتم المتاجرة به باستغلال كل من عطف وإنسانية المتبرع وحاجة وعطش المتبرع له، ومنها ومن غيرها كثر الحديث حول ضرورة التيقن من وسيط التبرعات الإنسانية ثم التأكد من وصولها فعلا بعيدا عن سذاجة فكرة اللوحة والاسم، وإن لم يكن هذا اليقين والتثبت ممكنا فالأولى اختيار أبواب خيرٍ محلية قريبة تضمن وصول الخير لمستحقيه دون استغلال أو نهب ،أو سوء توجيه في أعمال تنافي القيم الإنسانية الساعية للسلام والعدالة والتكافل.
تداولت مؤخرا وسائل الإعلام الغربية خبرا حول فضيحة أطاحت بسمعة عارضة الأزياء نعومي كامبل بوصفها شخص غير مؤتمن، ووجهت لها اتهامات بسرقة الأموال الخاصة بالجمعيات الخيرية، فقد أثبتت التحقيقات أنها كانت تستغل أموال عروض الأزياء التي كانت تنظمها بهدف خيري، للإقامة بأفخم الفنادق، ودفع أجرة الحراس الشخصيين، وغيرها من الأمور، في حين ترسل بعض هذه الأموال كتمويه للجمعيات الخيرية.
كامبل، المولودة في لندن، من نخبة العارضات على مجال الموضة والأزياء منذ تسعينيات القرن الماضي، وأسست في 2005م (فاشن فور ريليف) أو «الموضة من أجل الإغاثة» بهدف جمع أموال لقضايا إنسانية وإغاثة الفقراء، من خلال تقديم عروض أزياء، لكن تلك المؤسسة أزيلت من قائمة الجهات الخيرية في بريطانيا هذا العام، كامبل تعتبر واحدة من أثرى عارضات الأزياء حول العالم حيث تُقدر ثروتها بنحو 80 مليون دولار، ولا تزال حتى اليوم خلف الأضواء في أبرز الأحداث والمناسبات.
حصلت كامبل على وسام فارس في الفنون والآداب من وزارة الثقافة الفرنسية، تقديراً لمسيرتها في مجال الأزياء، ونشاطها في مكافحة التمييز العرقي وتعزيز التعددية بعد سحب الثقة عنها في إدارة المؤسسة الإنسانية !
قضية كامبل ومؤسستها الخيرية ليست أولى قضايا استغلال العمل الإنساني لبلوغ ثروة شخصية أو مآرب غير إنسانية، فقد سبقتها أخواتها سواء عبر مشاهير أو عبر منظمات إنسانية حتى في الأمم المتحدة ذاتها، من ذلك ما حدث عام 2013م أثناء الحملة التي قرّرت كيم كارداشيان فيها جمع أموال من خلال بيع ملابس شخصية لها، على موقع «إيباي»، على أن تعود كل الأموال التي تجنيها لضحايا إعصار هايان الذي ضرب الفلبين، جمعت كارداشيان 400 ألف دولار في أيام قليلة ليتبيّن أنها تبرّعت بـ 20 ألف دولار فقط منها، فيما جنت حوالي 380 ألف دولار من هذا المزاد، ومنها كذلك ما فعله بونو نجم فريق U2 وأحد أشهر النجوم العالميين حين أطلق عام 2002 مبادرة «وان» للقضاء على الجوع في القرن الأفريقي، وبالفعل نتيجة شهرته تمكّن من جمع 15 مليون دولار، أما المفاجأة فهي أن كشوفات الضرائب أكدت أنه تبرّع فقط بـ 190 ألف دولار، ومنها فضيحة عام 2009 م حينما أعلنت المغنية العالمية مادونا حملة جمع 15 مليون دولار لبناء مدرسة للبنات في ملاوي، وفي عام واحد جمعت المبلغ، ليتمّ طرد 200 عائلة من الأرض التي قررت مادونا بناء المدرسة عليها، لكنّ كل الأموال تبخّرت قبل وضع حجر الأساس للمدرسة، وبالتدقيق المالي وجد أن قسما من الأموال ذهب لشراء سيارات للموظفين الذين لم يقوموا بأي عمل، أما باقي الأموال فذهبت إلى جيب الفنانة الشهيرة! ومثلها ما سبق من فضائح الاعتداءات الجنسية والاستغلال بكل من منظمتي «أوكسفام» و» أطباء بلاحدود» ومنها احتيالات الاختراق والروابط الوهمية التي تذهب بالتبرعات لحسابات شخصية لعصابات بدلا من مساعدة الضحايا إبان أزمة الزلازل في المغرب أو تركيا وغيرها مما لا يُحصى.
ختاما؛ إن كانت كل تلك الفضائح تم إعلانها بعد سنوات من المراقبة والمتابعة في دول دقيقة في مثل ذلك فإن من نافلة القول ضرورة الحذر في التعامل مع فرق العمل الخيري ومؤسساته مع تأزم أحوال الناس في الشرق الأوسط، لا بد من متابعة دقيقة ومراقبة دائمة لإدارة فرق العمل الإنساني محليا ودوليا، ثم تقييد وتحديد جمع التبرعات بمعرفة وجهتها فعليا لا نظريا، كما أنه لا بد من نشر الوعي بين الناس ضمانا لإدارة مثلى تعنى بالعمل الخيري وحسن توزيع التبرعات لمستحقيها، مع الحذر من استغلال ظروف الضحايا لنهب أموال الناس سعيا لثراء شخصي أو تمويل لعمل غير إنساني مما يزيد معاناة الفريقين معا؛ الضحايا متاجرةً بمظالمهم وقضاياهم ونكباتهم، والمتبرعين استغلالا لتعاطفهم وسلب ثقتهم في فرق ومؤسسات العمل الإنساني والتكافل الاجتماعي.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العمل الخیری ألف دولار
إقرأ أيضاً:
أورورا: وثائق تكشف تورط شركة استشارات أميركية بمخطط مدعوم إسرائيلياً لتهجير فلسطينيي غزة
كشفت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية عن تفاصيل مشروع سري يحمل الاسم الكودي “أورورا”، أعدّته شركة “بوسطن للاستشارات” (BCG) الأميركية، بدعم مباشر من إسرائيل، هدف إلى وضع نماذج لتهجير واسع النطاق لسكان قطاع غزة إلى خارج الأراضي الفلسطينية، تحت غطاء مشاريع إنسانية.
التحقيق الصحفي، المستند إلى إفادات مطّلعين ووثائق داخلية، أظهر أن الشركة الأميركية لعبت دوراً محورياً في تصميم خطة مالية شاملة لإعادة توطين مئات الآلاف من الفلسطينيين، شملت “حزم مغادرة” تصل إلى 9 آلاف دولار للفرد، بتكلفة إجمالية قد تتجاوز 5 مليارات دولار، ما أثار انتقادات واسعة حول نوايا المشروع وتبعاته القانونية والإنسانية.
خلفية المشروع: مؤسسة إنسانية بواجهة أمنية
بحسب التحقيق، أسهمت BCG في تأسيس كيان يحمل اسم “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF)، بدعم إسرائيلي وأميركي، وتم تقديمه كجهة لتوزيع المساعدات في القطاع. إلا أن الواقع كشف عن نموذج شبه عسكري في إدارة الإغاثة، يتولاه متعاقدون أمنيون أميركيون تحت حماية الجيش الإسرائيلي، بعيداً عن المعايير الإنسانية المعتمدة.
ومنذ بدء عمل المؤسسة في مايو 2025، قُتل أكثر من 600 فلسطيني خلال محاولتهم الوصول إلى مراكز المساعدات، ما دفع الأمم المتحدة لوصف المؤسسة بأنها “فخ موت”، واتهمتها باستخدام العمل الإنساني كغطاء لتفريغ القطاع من سكانه.
تورط مباشر لـBCG وشركائها
امتد انخراط شركة بوسطن للاستشارات في مشروع “أورورا” بين أكتوبر 2024 ومايو 2025، بمشاركة أكثر من 10 موظفين، من ضمنهم مسؤولون رفيعون في الشركة مثل رئيس إدارة المخاطر ورئيس قطاع التأثير الاجتماعي. وتبيّن أن العمل على المشروع تجاوز المساعدات الطارئة، ليصل إلى تطوير نموذج اقتصادي لإعادة إعمار غزة مشروط بإخراج قسم كبير من سكانها.
وفي حين ادعت الشركة لاحقاً أن العمل تم “دون علم الإدارة”، أُقيل اثنان من كبار شركائها – وكلاهما عسكريان سابقان – فيما بدأت تحقيقاً داخلياً عبر مكتب محاماة خارجي.
مؤسسات أمنية وشركاء إسرائيليون
أظهر التحقيق أن التعاقد مع BCG تم في البداية عبر شركة أمنية أميركية تُدعى “أوربس”، مرتبطة بمركز أبحاث إسرائيلي يدعى معهد تخليط، وكان التنسيق الأساسي يتم مع فيل رايلي، عميل سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، والذي أسس شركة أمنية تدعى Safe Reach Solutions (SRS)، أصبحت الذراع التنفيذي لمؤسسة غزة الإنسانية.
كما كشفت الوثائق أن تمويلاً إضافياً جاء من شركة استثمار خاصة تُدعى “ماكنالي كابيتال”، ما ساهم في استمرار عمل BCG داخل إسرائيل، رغم توقف تمويل المؤسسة في غزة لفترة.
نموذج للتهجير “الطوعي”
وفقاً للنموذج الاقتصادي الذي أعدته الشركة، طُرحت سيناريوهات متعددة تتضمن تهجير نحو ربع سكان غزة (550 ألف شخص) بشكل “طوعي”، مع تقديم حزمة مالية تشمل 5 آلاف دولار نقداً، وإيجار وغذاء مدعوم، لثلاث إلى أربع سنوات، وافترضت الوثائق أن 75% من المهجّرين “لن يعودوا أبداً”، فيما اعتُبر ذلك “أرخص بنسبة 23 ألف دولار للفرد من إعالة الفلسطينيين داخل القطاع”.
وتزامن إعداد النموذج مع تصريحات للرئيس الأميركي دونالد ترمب اقترح فيها “إعادة بناء غزة كريفييرا الشرق الأوسط”، وهو ما شبّهته منظمات حقوقية بعملية “تطهير عرقي”، مما يعزز المخاوف من نوايا المشروع الحقيقية.
ردود الفعل الدولية
وصفت المقررة الأممية الخاصة بغزة، فرانشيسكا ألبانيزي، “مؤسسة غزة الإنسانية” بأنها غطاء لعمليات قتل وتهجير منهجي، وطالبت بوقف تسليح إسرائيل. كما أفادت مصادر بأن مؤسسات مالية عالمية، بينها UBS وGoldman Sachs، رفضت فتح حسابات للمؤسسة بسبب “غياب الشفافية في مصادر تمويلها”.
ورغم أن BCG تحاول التنصل من المشروع وتصفه بـ”العمل الفردي”، إلا أن التسريبات أثبتت وجود تواطؤ إداري وهيكلي، وتم تخصيص ملايين الدولارات من موازنات التأثير الاجتماعي في الشركة لدعم التخطيط الداخلي للمؤسسة الأمنية وشريكتها.