الكيان وأدواته .. ما بين نشوة أيلول وواقع أكتوبر
تاريخ النشر: 5th, October 2024 GMT
د. فاخر دعاس
لم يكن حدث اغتيال السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله في أواخر أيلول حدثًأ عاديًا بالنسبة للكيان. فهو الشخص الذي أذاقهم الهزيمة مرتين، وظل ندًا لهم حتى لحظة استشهاده. وهذا ما يفسر حجم الفرح العارم الذي أصاب الكيان قادة وجمهورًا.
ووجد قادة الكيان -وخاصة نتنياهو- في استشهاده فرصة تاريخية للقضاء على حزب الله، بل على محور المقاومة بأكمله وتفريغ إيران من كافة أدواتها بالمنطقة ما يجعلها معزولة تمامًا.
هذا السيناريو الصهيوني لم يكن مجرد أحلام أو أمنيات على الورق، بل إن الضربات المتتالية التي تلقتها المقاومة قبيل استئهاد السيد حسن وخاصة ما عرف بيوم البيجر والووكي توكي وقصف اليمن وسلسلة الاغتيالات المتتالية لقادة المقاومة، كل هذه الأحداث لعبت دورًا رئيسيًا في تشجيع نتنياهو وحكومته على “الاستعجال” في جني ثمار هذه الانتصارات. فتم اتخاذ قرار بعملية برية في جنوب لبناني عنوانه انسحاب الحزب إلى ما بعد شمال الليطاني، بل وطرح ملف تجريد الحزب من سلاحه، إضافة إلى الحديث عن التسريع بتسمية رئيس للبنان، يكون نتاج هذا الانتصار، إضافة إلى حديث وزير النقل الصهيوني عن النية بإعادة النظر باتفاقية تقسيم الحدود المائية مع لبنان.
بالتوازي، بدأ الإعلام العربي وقنواته الفضائية باستضافة “المحللين” الذين تسابقوا على الإشادة بإنجازات الكيان ووضع تصوراتهم للمنطقة “ما بعد إيران وحزب الله” والتسليم بأن هذا الكيان هو قدر وعلينا أن نستسلم ونسلم له. وبدأ توجيه اللوم وتحميل المسؤولية لحماس على عملية طوفان الأقصى وأن هذه العملية تحولت إلى وبال ودمار للشعب الفلسطيني وقضيته. وبدأت الأوساط الغربية والصهيونية بالحديث عن عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ولعب الدور الذي تقوم به في الضفة الغربية.
“أحلام أيلول” هذه تبخرت تمامًا مع دخول شهر أكتوبر المجيد. هذا الشهر الذي لم يكن يومًا إلا نذير شؤم للكيان وقادته. فبالتزامن مع بدء العمليةالبرية للجيش الصهيوني على الأراضي اللبنانية، نفذ المقاومون في الضفة الغربية عملية فدائية أسفرت عن مقتل 9 “إسرائيليين”،، ولم يستفق الكيان وقادته من صدمة عودة العمليات الفدائية وانخراط أهل الضفة الغربية بها، حتى جاءهم بعد ساعات محدودة الهجوم الإيراني على كافة أرجاء الكيان بالصواريخ في مشهد لم يعهده الكيان في تاريخه، وأدى إلى لجوء كافة السكان إلى الملاجىء.
وأتت الصربة القاصمة من الجنوب اللبناني. فمع بداية الهجوم البري تعرض جيش الكيان لكمائن من حزب الله أدت إلى مقتل ما يزيد على 15 ضابطًأ جنديًا وتدمير ثلاث دبابات ميركافا، وانسحاب من تبقى إلى شمال فلسطين. وأتى كل هذا مع استمرار القصف الصاروخي من قبل حزب الله لمناطق شمال ووسط الكيان، من ذ لحظة استشهاد الأمين العام للحزب وحتى لحظة كتابة هذا المقال.
نتنياهو الذي خرج على الملأ في أيلول ليتباهى بانتصاراته ويعد مواطنيه بأنه سيعيدهم إلى شمال إسرائيل وينهي أسطورة حزب الله، كان يمكن أن يكون أكثر ذكاءً وقراءة للتاريخ، بأن يوافق على وقف إطلاق النار، ويكتفي بتحقيق أهم إنجاز لرئيس حكومة صهيوني منذ عام 1996 وذلك باغتيال أمين عام حزب الله، إلا أن غطرسته وغباءه جراه إلى التمادي في الحماقة، فخسر كل المكتسبات اللحظية التي حققها، وارتدت عليه كافة إنجازاته.
ختامًا، المشهد في أكتوبر: المستوطنون القاطنون في مستوطنات الشمال لم يعودوا الى مستوطناتهم. قصف وصواريخ المقاومة اللبناتية ارتفعت وتيرتها من حيث العدد ونطاق استهدافها، لتدخل مدينة صفد ضمن بنك أهدافها. العملية البرية أتت بنتائج عكسية وساهمت برفع معنويات حزب الله والرهان على قدراتها بالتصدي لجيش الكيان، اليمن والحشدالشعبي مستمر بقصف الكيان. إيران ردت على اغتيال اسماعيل هنية وبشكل جدي وحاسم والأهم هو استمرار عجز جيش الكيان عن تحرير أسراه رغم مضي ما يقارب العام على الحرب التي شنها على غزة، ورغم كل البطش والتنكيل والمجازر، واحتلال قطاع غزة كاملًا، إلا أن هذا الجيش عجز عن تفكيك المقاومة أو تحزير أسراه.
أكتوبر المجيد .. أكتوبر الانتصار .. أكتوبر المقاومة .. ولا عزاء لقادة الكيان وأدواتهم في الإعلام العربي. مقالات ذات صلة حكومة … نسخ … لصق مع فلتر 2024/10/04
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: حزب الله
إقرأ أيضاً:
جلال كشك.. الذي مات في مناظرة على الهواء مباشرة وهو ينافح عن رسول الله
يقدّم الكاتب والباحث المصري جمال سلطان في هذا المقال، الذي تنشره "عربي21" بالتزامن مع نشره على صفحته في فيسبوك، قراءةً حميمة ومكثّفة في سيرة واحد من أكثر المثقفين العرب إثارة للجدل وحضورا في معارك الوعي خلال النصف الثاني من القرن العشرين: محمد جلال كشك.
فمن خلال استعادة شخصية كشك وتجربته الفكرية وتقلباته وتحولاته وصراعاته، لا يكتب سلطان مجرد شهادة شخصية، بل يعيد تفكيك مشهد ثقافي وسياسي كامل، كانت فيه مصر ـ والعالم العربي ـ تتشكل تحت وطأة الإيديولوجيات الكبرى، والمشاريع السلطوية، وصدامات الهوية، ومحاولات التأريخ والهيمنة على الذاكرة.
تتكشّف في هذه السطور صورة كاتب عركته التجارب، واشتعل بالأسئلة، وامتلك جرأة لا تلين في مواجهة ما اعتبره زيفا أو تزويرا للوعي، حتى آخر لحظة في حياته.
طاقة صحفية وفكرية مذهلة
كنت في شبابي مغرما بالكاتب الراحل الكبير محمد جلال كشك، وما زلت، كان الرجل طاقة صحفية وفكرية مذهلة، ولديه صبر ودأب على القراءة والكتابة بشكل تحار فيه العقول، ويكفي أنه كان يقرأ كتب الراحل الكبير أيضا محمد حسنين هيكل ويجري مقارنات صبورة بين ما يكتبه هيكل في النسخة الانجليزية التي تصدر للتسويق الخارجي وما يكتبه في النسخة العربية ، ليكشف عن تناقضات في الروايتين، وهو جهد صعب للغاية، كما كان كتابه المهم "ودخلت الخيل الأزهر" أهم موسوعة حديثة في تسجيل جرائم الغزو الفرنسي لمصر، والعملاء الذين خدموه في الداخل، والكتاب أثار ضجة في حينه، كما كان كتاباه: كلمتي للمغفلين، وثورة يوليو الأمريكية، من أخطر الكتب التي صدرت عن تجربة ثورة يوليو وعبد الناصر، وهو ما قلب عليه القوميين والناصريين بشدة، وهو كان يبادلهم كراهية بكراهية وله كتابات أخرى في هذه المعارك .
لذلك كانت سعادتي كبيرة عندما قدمتني له الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم، خاصة عندما قرأ كتابا لي صدر في أول التسعينات الماضية "أزمة الحوار الديني"، وأبدى إعجابه الشديد به، وكان مندهشا أن كاتبا شابا يكتب بتلك اللغة والمعلومات، ودعاني لزيارته في شقته بالزمالك وأكرمني كرما حاتميا مما جعلني أحكي تلك "العزومة" الفاخرة لصافي ناز على سبيل التباهي بأنها أتتني من كاتب كبير في قيمة وقامة جلال كشك، فلما بلغه كلامي وغزلي في العزومة غضب، واعتبر أن "العزومة" وما فيها من أسرار البيوت وأنني بذلك لم أحترم بروتوكل الزيارات، فلم يكررها ثانية، وبصراحة كان محقا في ذلك وقد تعلمت من هذا الموقف فيما بعد، لكني وقتها خسرت الكثير من الحمام المحشي والمشوي وخلافه، رغم أنه ـ رحمه الله ـ لم يكن يأكل إلا قليلا بسبب إصابته بالسكر والكوليسترول وأمراض أخرى اجتمعت عليه .
شهدت أفكار محمد جلال كشك تحولات، مثل تحولات عبد الوهاب المسيري وعادل حسين وطارق البشري وجيل كبير من المثقفين المصريين، بدأ حياته الفكرية والسياسية ماركسيا وكان من مؤسسي الحزب الشيوعي، ثم تركه وتركهم وقدم نقدا عنيفا للماركسية ومنظماتها في الستينيات ونشر سلسلة مقالات أزعجت الاتحاد السوفيتي، حتى ردت عليه صحيفة البرافدا واعتبرت أن وجود جلال كشك في الصحافة المصرية هو إساءة للاتحاد السوفييتي، وكانت علاقات عبد الناصر وقتها قد توثقت بموسكو، فأوقفه عبد الناصر عن الكتابة وعن العمل كلية ثلاث سنوات كاملة، ولم يعد إلا بعد النكسة، فعاد إلى مؤسسة أخبار اليوم، ثم ترك مصر كلها وهاجر، وقضى حقبة من حياته في بيروت في حالة لجوء اختياري بعد مضايقات عصر السادات، حتى كانت الثمانينيات حاسمة في توجهه إلى الفكرة الإسلامية، والانحياز للإسلام كحضارة وهوية للأمة وشرط لنهضتها.
لم يمكث جلال كشك بعدها سوى ثلاثة أشهر فقط، وكان من كرم الله عليه أن مات بأزمة قلبية وهو في مناظرة على الهواء ضد نصر حامد أبو زيد يدافع فيها عن رسول الله في وجه خطابات علمانية وغربية متطرفة، فقبضت روحه وهو على هذه الحال.كان جلال كشك يجمع بين الجدية والصرامة في الكتابة وبين خفة الظل والصراحة في المواجهة، وعندما ابتلي في سنواته الأخيرة بسرطان البروستاتا، كان يتردد على لندن للعلاج والفحص، وفي آخر زيارة طبية، أجرى التحاليل، فقال له الطبيب أن أمامه ما بين ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر فقط في الدنيا ثم يموت، ويومها كتب مقالا مؤثرا للغاية في مجلة أكتوبر، وكان لها شأن في تلك الأوقات، كان عنوانه "أنعي لكم نفسي"، وحكى فيه ما جرى وأنه ينتظر الموت خلال ستة أشهر على الأكثر، هي كل ما بقي له من الدنيا، ويودع قراءه، ورغم الحزن والمفاجأة، إلا أنه لم يتخل عن خفة ظله في هذا المقال، فحكى فيه أنه بعد أن تسلم من المستشفى اللندني التحليل الذي يؤكد قرب وفاته، فوجئ باتصال يأتيه من شركة أمريكية متخصصة في "دفن الموتى"، وقالوا له: مستر جلال نحن لدينا تجهيزات راقية للجنازات، ومقابر مميزة وبأسعار مناسبة ويمكن أن نحجز لك مقبرة تسرك!!، وراح في المقال يلعن سلسفيل جدودهم، ولم يمكث جلال كشك بعدها سوى ثلاثة أشهر فقط، وكان من كرم الله عليه أن مات بأزمة قلبية وهو في مناظرة على الهواء ضد نصر حامد أبو زيد يدافع فيها عن رسول الله في وجه خطابات علمانية وغربية متطرفة، فقبضت روحه وهو على هذه الحال.
كان جلال كشك شرسا في معاركه الفكرية، موسوعي الثقافة، قوي الحجة، حاضر الذهن، صاحب جلد وصبر غير عادي على البحث والكتابة، لذلك كان مزعجا جدا لأكثر من تيار فكري ، وبشكل خاص كان مكروها من الأقباط المتطرفين، ومن استصحبوا الوعي الطائفي من المثقفين في كتاباتهم عن تاريخ مصر، ولذلك كان يكرهه بشدة الناقد المعروف لويس عوض وكذلك غالي شكري ، خاصة وأنه في كتابه "ودخلت الخيل الأزهر" كشف عن دور "المعلم يعقوب" والفيلق القبطي الذي شكله للقتال بجوار الجيش الفرنسي الذي احتل مصر، وكان لويس عوض يثني في كتاباته على "المعلم يعقوب" عميل الاحتلال الفرنسي ويعتبره بطلا .
أيضا، يكرهه الناصريون بشدة، لأنه صاحب أهم الكتب التي كشفت عن الدعم الكبير الذي قدمته المخابرات الأمريكية "CIA"، لانقلاب ضباط حركة يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، وكان كتاباه "كلمتي للمغفلين"، و"ثورة يوليو الأمريكية" أشبه بزلزال ضرب الوعي الخرافي الذي سوقته آلة الدعاية الناصرية على مدار عقود، وذلك بسبب ما حواه الكتاب من وثائق وأدلة دامغة على الاتصالات واللقاءات السرية التي كانت تجري بين عبد الناصر وبعض ضباطه وبين السفارة الأمريكية، والترتيبات الأمريكية لدعم وحماية انقلاب الضباط ومنع جيش الاحتلال الانجليزي من التدخل، حيث كان جيشهم يرابط في منطقة القناة، على بعد ساعة واحدة من القاهرة.
أيضا، كان يحظى بكراهية شديدة من محبي الأستاذ محمد حسنين هيكل، ومجاذيبه، لأنه القلم الوحيد الذي جرؤ على إهانة هيكل وإحراجه، بل وإعلان احتقاره وتحديه، في مقالات كثيرة، وفي كتب أيضا، وكشف تناقضاته، كما كشف تمريره لمعلومات غير صحيحة على الإطلاق، وتعتبر تضليلا للرأي العام، وكان له صبر عجيب في تتبع هيكل وإحراجه، ولذلك كان الناصريون وأنصار هيكل أكثر من شنعوا على جلال كشك، وأطلقوا حوله الشائعات والشبهات، ورموه بالاتهامات المرسلة والسخيفة والكاذبة التي يسهل إطلاقها على أي أحد، بدون أي دليل، محض كراهية وبهتان وتصفية مرارات عالقة في النفوس.
تتفق أو تختلف مع جلال كشك ، الذي توفاه الله في العام 1993 ، إلا أنك لا يمكن أن تتجاهل أن الثقافة العربية والصحافة العربية خسرت بموته قلما جبارا، وطاقة لا تكل ولا تمل من إثارة المعارك الفكرية والصحفية التي أحدثت استنارة حقيقية في جيل بكامله من المثقفين المصريين والعرب أراد البعض لهم أن يرسفوا في أغلال الزيف والبهتان، يرحمه الله .