لعنة «كيكل» وتقسيم السودان
تاريخ النشر: 27th, October 2024 GMT
لعنة «كيكل» وتقسيم السودان
فيصل محمد صالح
دخلت الحرب في السودان مرحلة جديدة من العنف والقتل على الهوية، وانتقلت لمرحلة الاستنفار القبلي والاستنفار المضاد، وتحقق ما كان يتخوف منه معارضو الحرب منذ البداية، أن تتحول حرباً أهلية شاملة بين المجموعات القبلية والإثنية المختلفة، تتخفى وراءها المطامع السياسية والسلطوية لبعض المجموعات السياسية.
فقد شهدت منطقة سهل البطانة، شرق الجزيرة، عمليات قتل وتهجير ونهب وسلب طالت معظم القرى والمدن الصغيرة في هذه المنطقة، بعد انشقاق ابن المنطقة أبو عاقلة كيكل من «قوات الدعم السريع» وإعلان انضمامه إلى الجيش. ويبدو أن كل الأطراف المتورطة في الصراع لم تحسب خطواتها جيداً، ولم تستعد لهذه الخطوة، فقط أعلن جانب الجيش انشقاق «كيكل» عن «قوات الدعم السريع» وسط هياج إعلامي كبير، ثم اتضح أن الرجل الذي كان قائداً للمنطقة قد جاء بثلاث سيارات ومجموعة من حراسه، وترك باقي المنطقة لانتقام «قوات الدعم السريع».
ما أن تم الإعلان عن ذلك ودخول قوات الجيش لمدينة «تمبول» أكبر مدن المنطقة، حتى هاجمتها «قوات الدعم السريع» وطردت قوات الجيش، ثم نكّلت بالمواطنين المدنيين الذين احتفلوا بما ظنوه انتصاراً للجيش، في حين ظل الطيران الحكومي يقصف المواطنين بلا هدف وقتل العشرات منهم، بينما تكفلت «قوات الدعم السريع» بقتل وإصابة المئات وتهجيرهم من مناطقهم.
شنَّت «قوات الدعم السريع» حملة انتقام وترويع ضد كل سكان المنطقة وقراها المتعددة رداً على انشقاق وهروب «كيكل»، وصار كل المنتمين إلى قبائل المنطقة، خصوصاً قبيلة «الشكرية» هدفاً لهجماتها التتارية، وانتظم أبناء المنطقة في استنفار قبلي مضاد للدفاع عن أهاليهم، وبدا أن الجيش يفضّل دعم هذا الحشد القبلي ومساندته بخطابات التعبئة والتهييج بدلاً من دخوله في مواجهات مباشرة مع «الدعم السريع»، وتوفير قوته لجبهة سنار والنيل الأزرق التي حقق فيها نجاحات في مدن الدندر والسوكي التي استلمها من «قوات الدعم السريع».
أسئلة كثيرة تدور في الأذهان: لماذا لم يتحسب الجيش لنتائج انشقاق «كيكل» وانعكاسات ذلك على سكان المنطقة، ولم يضع أي خطة أو تصورات لردود فعل «قوات الدعم السريع» على ذلك…؟ لماذا جاء انشقاق «كيكل» وكأنه مجرد زوبعة إعلامية لم يتغير بعدها الميزان العسكري في منطقة البطانة، في حين كان الناس يتخيلون أن «كيكل» سينشق بكل قوات منطقة الجزيرة، شرقها وغربها… باعتبار أنه كان القائد العسكري لكل المنطقة؟ هل كان العائد من انشقاق «كيكل» يساوي الثمن الفادح الذي دفعه سكان منطقة شرق الجزيرة…؟
في المقابل، هناك أسئلة أخرى تدور حول تصرفات «الدعم السريع»، فإن كان انشقاق «كيكل» محدوداً ولم يغير الميزان العسكري، فلماذا قررت «قوات الدعم السريع» أن كل سكان المنطقة وقبائلها مسؤولة عن انشقاق «كيكل»…؟ ولماذا شنّت هذه الحملة الترويعية عليهم فلم تفرّق بين رجل أو امرأة أو طفل، ولماذا تعمَّدت تهجيرهم من قراهم ومطاردتهم…؟
كلها أسئلة تبعث على الحيرة وتبحث عن إجابات، لكن ما يجمع بينها هو أن الطرفين لم يضعا حياة إنسان المنطقة في حساباتهما، فالجيش لم يدافع عن سكان المنطقة وتركهم يواجهون مصيرهم وحدهم، و«قوات الدعم السريع» يبدو أنها زهدت في وجودها في المنطقة فشنَّت حملتها الانتقامية ولا يظنن أحد أن هذه القوات ستبقى في المنطقة لفترة طويلة.
لقد حلت لعنة «كيكل» على المنطقة؛ فالاستهداف لكل سكان المنطقة وقبائلها أدى، كما قلنا، إلى حشد قبلي وجهوي مضاد، وهو لا يزال في حالة تصاعد، ومن الممكن أن يجعل مجموعات عسكرية أخرى في المنطقة كانت تقاتل في صفوف «الدعم السريع» تراجع مواقفها وتنأى بنفسها عن القتال، أو تنضم أيضاً للجيش.
النتيجة النهائية لهذه المعارك ستكون خروج «قوات الدعم السريع» من المنطقة بعد أن فقدت أي قبول لوجودها، وثبت عدم وجود أي مشروع سياسي لها، وربما تخرج من كامل منطقة وسط السودان بما فيها ولايتا الجزيرة وسنار. وستنضم القوات المنسحبة إلى الوجود الأكبر لـ«قوات الدعم السريع» في ولايات دارفور وكردفان، فيتحقق بشكل عملي تقسيم السودان على أساس قبلي وإثني، مناطق الوسط والشمال في يد تحالف سياسي عسكري بين الجيش والميليشيات والقوى السياسية المتحالفة معه، ومناطق دارفور وكردفان في يد تحالف قبلي وإثني يقوده «الدعم السريع». وسواء قامت حكومات في هذه المناطق، أو لم يتم إعلان ذلك بشكل رسمي فإن التقسيم سيبقى أمراً واقعاً مثلما حدث في بلاد قريبة من السودان.
*نقلا عن “الشرق الأوسط”
الوسومأبو عاقلة كيكل تقسيم السودان حرب 15 أبريلالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: أبو عاقلة كيكل تقسيم السودان حرب 15 أبريل
إقرأ أيضاً:
زوبعة الحكومة الموازية في السودان
يمكن لأي جماعةٍ أن تعلن تشكيل حكومة على الورق أو في الفضاء الرقمي، لكن هذا لا يعطيها شرعيةً أو وجوداً حقيقياً. فأي حكومة لا تملك السيطرة على أرضٍ ذات سيادة، ولا تمثل إرادة شعبية واسعة، ولا تحظى باعتراف دولي، تعد حكومة وهمية، أو في حالات أخرى محاولة لكسب نقاط تفاوضية، أو لمنازعة السلطة القائمة والمعترف بها في المحافل الدولية.
الحكومة «الموازية» التي أعلنتها «قوات الدعم السريع» وحلفاؤها في منصة «تأسيس» هي مزيج من كل ذلك، وهي محاولة لفرض واقع جديد بعدما فشل مشروع السيطرة على الدولة السودانية بالكامل بعد اندلاع حرب 15 أبريل (نيسان) 2023، والهزائم التي أخرجت «الدعم السريع» من الأراضي التي تمددت فيها، وحصرت سيطرتها في أجزاء من إقليم كردفان ومساحات من دارفور. لكن هذه المحاولة ليست مرشحةً للفشل فحسب، بل قد تنقلب وبالاً على «الدعم السريع» وحلفائها.
الخطوة قُوبلت بإدانة واسعة من كثير من الدول، ومن المنظمات الإقليمية، ومن الأمم المتحدة، وكلها اتفقت على عدم مشروعية هذه «الحكومة»، محذرةً من أنها قد تمس بوحدة البلاد ولا تعبر عن إرادة الشعب السوداني. بل إن الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية وجّها دعوة للدول لعدم الاعتراف بها، مع التأكيد على دعم وحدة السودان وسيادته وأمنه، والتشديد على التعامل مع السلطة القائمة والمعترف بها.
داخلياً فجّرت الخطوة نقمة وخلافات في أوساط «قوات الدعم السريع» التي بدأت تشهد في الأشهر الأخيرة تصدعاً خرج إلى العلن بسبب صراعات النفوذ، والتوترات القبلية، والشكاوى من وجود تمييز وعنصرية من مكونات على حساب أخرى، مع انفلات أمني في مناطق سيطرتها أدى إلى مواجهات مسلحة مرات عدة.
ومع إعلان الحكومة أعلن عدد من مستشاري «الدعم السريع» انشقاقهم احتجاجاً، بينما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو لمقاتليها الساخطين على تشكيلة الحكومة والمجلس الرئاسي لـ«تأسيس». في هذه المقاطع هاجم المجندون قياداتهم وأعلنوا رفضهم لما وصفوه بالتهميش لهم ولقبائلهم، وطالبوا بحصتهم في قسمة السلطة على أساس أنهم من حمل السلاح وقاتل وفقد أعداداً كبيرةً من الشباب، ولكن لم يتم تمثيلهم في حين ذهبت المناصب لأصحاب «البدلات» من المدنيين الذين لم يشاركوا في القتال.
وبينما شن المحتجون في «الدعم السريع» هجوماً شديداً على عبد العزيز الحلو، رئيس «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، الذي حصل على منصب نائب رئيس المجلس الرئاسي وحصة 30 في المائة من المناصب الأخرى، فإن الرجل قُوبل أيضاً بموجة من السخرية من ناشطين في مناطق سيطرته في جبال النوبة لقبوله أن يكون نائباً لمحمد حمدان دقلو (حميدتي)، متسائلين ما إذا كانت «الحركة الشعبية» قاتلت من أجل المناصب على حساب شعارات التهميش ورفع المظالم.
الواقع أن تحرك «قوات الدعم السريع» ومجموعة «تأسيس» لإعلان حكومة لا يعكس قوة، بقدر ما يظهر يأسها من قلب الموازين العسكرية مجدداً، ويزيد من تصدعاتها. فهذه الحكومة سيصعب عليها الوجود على الأرض في ظل الهجمات التي يشنها الجيش السوداني في دارفور وكردفان، بعدما انتقلت المعارك غرباً، وسط مؤشرات على أن الجيش يستعد لشن هجمات كبرى منسقة على غرار ما حدث في الجزيرة والخرطوم. وعلى الرغم من الصخب الإعلامي عن أن إعلان الحكومة كان من نيالا، فالحقيقة أن اجتماعات ترتيب خطواتها وتشكيل المجلس الرئاسي كانت في كينيا، وفقاً لبيان الخارجية السودانية.
لا أمل للحكومة الموازية في تغيير الموازين التي لم تعد تسير لصالح الدعم السريع
«قوات الدعم السريع» قد تكون مسيطرة حالياً على أجزاء كبيرة من دارفور وبعض المواقع في كردفان، لكنها لا تمثل بأي حال أغلبية السكان هناك، ولا تحظى بتأييد مكونات ومجموعات مقدرة، لا سيما بعد الانتهاكات الواسعة وجرائم الإبادة التي ارتكبتها. وحتى داخل مكونها القبلي فإنها تواجه عداء شخصيات نافذة مثل الشيخ موسى هلال رئيس «مجلس الصحوة الثوري» الذي انتقد تشكيل الحكومة الموازية، وشن هجوماً عنيفاً على حميدتي وشقيقه عبد الرحيم، وسخر من فكرة أن يحكما السودان.
المفارقة أنه مع إعلان هذه الحكومة أعلنوا أيضاً تعيين ولاة لأقاليم السودان في الوسط والشمال والشرق والنيل الأزرق والخرطوم، وهي المناطق التي كان أهلها يحتفلون بانتصارات الجيش والقوات التي تقاتل في صفوفه، وإخراجه «قوات الدعم السريع» منها. هذه التعيينات تضيف بلا شك إلى عبثية المشهد، لسببين؛ الأول أنه لا أمل لهؤلاء «الولاة» في تسلم سلطة فعلية على هذه المناطق، ولا معطيات حقيقية بإمكانية عودة «الدعم السريع» للسيطرة عليها، والثاني أنه حتى عندما كانت قواتها تسيطر عليها سابقاً فإن الإدارات المدنية التي شكلتها فيها لم تكن سوى مسميات وهمية لا وجود حقيقياً لها، ولا إنجازات.
الحقيقة أنه على الرغم من الفورة الإعلامية التي رافقت إعلانها، فإنه لا أمل للحكومة الموازية في تغيير الموازين التي لم تعد تسير لصالح الدعم السريع ناهيك عن أن تصبح حكومة بديلة تحكم السودان كله.
الشرق الأوسط