صدر مؤخراً للشاعر محمد عبد الكريم الشحي ديوانه (مقامات لام وضمة ميم: من تأملات ومذكرات شاكر حسن آل سعيد) عن مؤسسة بيت الزبير ودار باز للنشر، المجموعة التي تُعدُّ باكورة أعمال الشاعر وخلاصة تجربته الشعرية الممتدة منذ تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم.

يطالعنا الشاعر في مجموعته الشعرية بنصوص مكثفة في لغتها وفي فكرتها وفي تصويرها الفني الدقيق مشتغلاً على قصيدة النثر، ومحاولاً تقديمها إلى القارئ في بناء شعري فني متقاطع مع الرؤية البصرية لواقع الحياة وجمالياته.

إنّ القارئ للمجموعة الشعرية يجد أن الشاعر قد اشتغل اشتغالاً مختلفاً في مجموعته، وذلك بتقاطع نصوص المجموعة مع تجربة الفنان التشكيلي العراقي شاكر حسن آل سعيد وهو الذي جمع "إلى الفن التشكيلي رؤية فلسفية في فهم الحياة، ورؤية صوفية، ورؤية أدبية وفكرية، فكان أن مثّلت إلهاماً يستقي منه الشحي دلالات التعبير التي نجدها في مجموعته، وفتحت له أبواب الاتصال باللامرئي واللامحسوس، فكانت نصوص الشحي على صلة بتجربة شاكر آل سعيد وهي صلة استمرار واتصال في الأفكار والاتجاهات والرؤى".

قسّم الشحي مجموعته إلى خمسة مقامات شعرية تختلف في فكرتها التي بُنيت عليها، فبدأها بمقام الأحافير والأحجار والجدران، ثم مقام الأنوار والأزمنة والنداءات، ثم مقام النقطة، ثم مقام الأشجار والخضرة والينوع، وأخيراً مقام البعد الواحد. وتعمل هذه المقامات على تشكيل ترتيبٍ متوازٍ في بناء المجموعة، والانتقال من فكرة إلى أخرى، ومن تعبير إلى آخر، لا سيما أن هذه المقامات تقاطعت مع تجارب الشعر والفكر والفلسفة والفن التشكيلي والتصوف لدى كاتب مهم في العصر الحديث وهو شاكر حسن آل سعيد، بمعنى أن المقامات المذكورة جمعت بين رؤيتين متقابلتين: رؤية الشاعر في اختلاق النصوص والاشتغال عليها، ورؤية المرجع الذي اختلق الفكرة الأولى وعمل على إيجادها في هيئة عبارة أو صورة أو فكرة.

لقد اشتغل الشحي في مجموعته على جماليات لغة الشعر، وهو الذي عوّدنا في نصوص سابقة على الإمساك باللغة وتطويرها وبنائها بناءً يتماشى مع الفكرة التي ينشدها، كما عوّل في مجموعته هذه على مزج جماليات الفن التشكيلي والتصوف بجماليات اللغة الشعرية، وهنا يمكن للقارئ أن يلمح هذا الامتزاج جلياً في غير نص من نصوص المجموعة، والذي معه تتشكل النصوص من جماليات اللغة الشعرية وجماليات الفن وألوانه وجماليات التصوف والفلسفة مانحة القارئ متعةً بصرية بفتح أشرعة التخيل، ومتعة دلالية في امتزاج الألفاظ فيما بينها مُشكّلة طوافاً لغوياً تتسع معه دلالات النص.

تتحول المجموعة الشعرية مع هذا الامتزاج من كونها نصوصاً شعرية خالصة إلى نصوص معرفية تؤطر إلى الواقع والحياة؛ فنجد بها نبض الفن التشكيلي ولغة المتصوف العارف، وخيال الشعراء وحُسن تصويرهم.

هذا الامتزاج في التعبير نجده واضحاً في عتبات النص قبل النص نفسه، كما نجد تعابيره واضحة بها، إذ تُقدَّم النصوص في صورة اشتغال معرفي، وللقارئ الوقوف على العتبات الآتية لتمثّل هذا الاشتغال المتمازج بين العناصر السابقة، فنجد مثلاً عتبات نصوصه تحمل عناوين مثل: مسبحة صغيرة تحيط بفم الجرة، ونقش قديم، ونشارة رائحة الخلود، وخطوط على جدار، ۱۹۷۸، وسنكشط أعمدة المعابد، ومخطوطة أحجار الريح، ولام الحيرة الدافئة، والحكمة البيضاء، وأنا النقطة فوق فاء الحرف، ووجوه في قميص الولي، وقلب العارف، والنحول ثوابك، وشطحات الريح والحطابين، وخرز أخضر، والشجرة الممحاة، والغرق في بهو الخضرة، ومديح الماء في نوم الغزالة...

إذن فالشحي يعتمد على ثلاثة عناصر في تشكيل نصوص المجموعة الشعرية هي: اللغة والصورة والرمز، وهي عناصر مهمة في تكامل الإبداع الفني في تجربة شاكر حسن آل سعيد، لذا يحيلنا الشحي في مقاماته الخمسة وفي بعض نصوصها الشعرية على مراجع خارجية سواء كانت بقلم شاكر آل سعيد نفسه، أو التي كُتبت عن تجربته الشعرية مستمداً في إحالاته تلك ارتباط اللغة في مستوياتها بالفكرة والحضور العميق للدلالة، وارتباط الصورة بجماليات الفن والتشكيل، وارتباط الرمز بالحضور الفلسفي والمنطقي لحركة الحياة المعاصرة.

تظهر لنا حركة المقامات في هيئة ترتيب منطقي يسير عليه الشاعر في اقتفاء الصورة التي امتدّت في كتابات شاكر حسن آل سعيد الفنية والفلسفية والتشكيلية؛ لذا فإن المقامات في ترتيبها النصي في المجموعة تسير متوازية في الحديث عن (الأحافير والأحجار والجدران) باعتبار أن الجمادات تُشكّل حقيقة وجودية في نظره، ولعله في ذلك استعار مقولة نقلها شاكر آل سعيد في أحد كتبه هي: "وإن من أساتذتي ميزاب أو ظل أو حجارة..."؛ وعليه فإننا نجد كل مقام يدل على رموز وأفکار مختلفة تنبني عليها النصوص، فمن الحديث عن الجمادات إلى استنطاق البواطن، إلى الحديث عن الأشجار التي شكّلت رموزاً مختلفة في فهم الارتباط بين الرائي والمرئي.

لكن المقام الخامس هو الأهم في تركيبية المقامات/ النصوص وهو مقام (البعد الواحد). الذي أشار اليه شاكر حسن آل سعيد بالبعد الواحد الذي يصل الإنسان بالله.

وللقارئ أن يدرك أن لهذا المقام أهمية تتمثّل في وصول العابد، وانتهاء المقامات، وإدراك النهايات؛ لذا فإن القارئ سيدرك هذه المسافات جميعاً من عمق النص الأوحد الذي تشكّل منه المقام الشعري الأخير في المجموعة بنص (مديح الماء في نوم الغزالة) مقدماً نصه الشعري باستحضار قيمة العتبات في تقديم الفكرة، نجده يقدّم بيتاً لابن الفارض مشيراً في الهامش بتوضيح مفهوم الغزالة عند المتصوفة، وشارحاً لهذا المفهوم في بيت ابن الفارض. كما يبدأ نصه بعتبة ثانية، وهي مقولة لشاكر حسن آل سعيد من كتابه (مذكرات حاج) متناولاً فيها رحلته لأداء مناسك فريضة الحج وصولاً إلى المدينة المنورة مستحضراً الروحانيات الكبرى بالوصول إلى المسجد النبوي... كان ذلك منطلقاً مهماً في الولوج إلى النص الشعري، وارتباط النص بدلالات الماء والعبودية والفن والرسم:

وطنُ المدائحِ لا يضيقْ

فاصعدْ كأنَّكَ قطعةُ العطرِ

التي احترقتْ

ليبصرَ عابدٌ

خلفَ الدُّخانِ

كثافةَ الرمزِ الطليقْ

قد يولدُ المجذوبُ مرفوعاً إذا شربتْهُ

ساقيةٌ تدورُ

ولا تفارقُ ذروةَ الدورانِ

حولَ الماءِ

قبلَ الماءِ

بعدَ الماءِ

فوقَ الماءِ

حتى لا يرى خطَّ التباينِ

بين جرفِ الجوهرِ

البشريِّ والنوريِّ في ماءِ العناصرِ

في وداعةِ روحهِ الجذلى

فيخترقُ الصدى

ويغادرُ الظلَّ الجسدْ

قد يبتكرْ

مثلي، أنا الرسامُ، فلاحٌ

زهيراتٍ يرشُّ تويجَها ماءً

ويصنعُ من مناديلِ الورودِ

قصيدةً ويعيدُ مجدَ الزهرِ

في عطرٍ

يموتُ إذا سجدْ

قد تفضحُ البَهَجَاتُ حامِلَها

فتبزغُ بهجةٌ

من ثغرةٍ تحتَ انكسارِ الدمعِ في النجوى

ومن يدري فقد لا تصبحُ النجوى طريقاً في الطريقِ؟

فزمّلوني

إنني قمرُ القوافلِ في الطريقِ إلى المددْ

مددٌ مددْ.

ذلك المرور سيفضي حتماً إلى العالم الباطني للروح والابتهال لله، وسينتهي بالمديح النبوي لشخص النبي، مقدماً إياه في هالة نورانية بشرية:

يا أيها "الميمُ" المفخّمُ في اسمهِ العالي

تباركَ موئلُ الحمدِ الذي ابتدأتْ به أضمومةُ الأنوار في

الأفقِ الأغرْ

"والحاءُ" حنَّاءُ الزمان إذا تبتلَ في عروقِ الروح يوماً واحتشدْ

"الميمُ" معنى الحبِ

في كتبِ الجلال وفي المقدّسِ والبليغِ وفي العذوبةِ والمطرْ

والفجرُ "دالك" دينُ من يبغي العثورَ على

عروقِ منابتِ الرحماتِ

خذني يا محمدُ

تحت هالتِك التي تنسابُ في ماءِ الحياةِ

وفي الكناياتِ المهذبةِ الدلالةِ والنقاوةِ والأثرْ

إني أسيرُ اللحظةِ المثلى

سأستبقُ الرموزَ إلى نواةِ مجازِها

وأعود متحداً بإنساني المعطّرِ باسمِك النوريِّ

كي أصلَ الطريقةَ بالطريقِ

إلى مرايا عطرِك الصافي وأصنعُ سُلَّماً ضلعي

لأصعدَ للزمانِ وأستعيدَ مديحَه الفوّارَ

في قلبِ الكواكبِ والشجرْ.

إنه نص مهم في فهم تركيبة المقامات المعقدة في المجموعة، والنصوص المتشكلة من الرؤيا البعيدة للشاعر، إنه نص يمزج بين الحياة الروحية ومحاولة تنقيتها من شوائب الحياة، نص شعري يمزج بن الرمز والصورة واللغة مشكلاً لوحة فنية/ شعرية بديعة قائمة على أبجديات العروج.

لقد أتاحت لنا مجموعة (مقامات لام وضمة ميم) الوقوف على تجربة فنان وكاتب مهم في العصر الحديث، كما أتاحت قبل ذلك التعرف على سيرورة النص الشعري في تجربة محمد الشحي في بناء النصوص الباذخة جمالاً وشعراً وفكراً وفلسفة وتصوفاً.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الفن التشکیلی فی مجموعته

إقرأ أيضاً:

مهرجان القيصر الدولي للشعر الفصيح يواصل فعالياته الشعرية في جامعة اليرموك وبلدة حرثا

#سواليف

لليوم الثاني على التوالي واصلَ #مهرجان_القيصر_الدولي للشعر الفصيح الموسم الثامن والذي ينظمه اتحاد القيصر للآداب والفنون فعاليته حيث أقامَ فعاليتين أصبوحة شعرية في مسرح فايز الخصاونة جامعة اليرموك باستضافة من مكتبة الحسين بن طلال تحت رعاية مدير المكتبة أ.د محمد الشخاترة وأمسية شعرية في بلدة حرثا باستضافة من هيئة اليرموك للتنمية الثقافية والاجتماعية تحت رعاية متصرف لواء بني كنانة السيد خلدون العبادي، وقد شارك في هذه الفعاليات كل من الشعراء: سعيد يعقوب ، عمر أبو الهيجاء، إيمان زيادة ، قاسم ضراغمة، رائد العمري، شفيق عطاونة من فلسطين، وأحمد صانع من الجزائر، وسط حضور من الشعراء والمثقفين والمجتمع المحلي..

وفي كلمة رئيس المهرجان الأديب رائد العمري شكر المستضيفين والشعراء والحاضرين ووجه تحية لكل مثقف يحافظ على هويته الثقافية والحضارية ووطنيته ولغته العربية التي تحفظ لنا هذه الهوية ، ثمّ حيَّ بني كنانة وبلدة حرثا على الاستضافة وكذلك في مكتبة الحسين بن طلال، وأضاف أنّ هذا المهرجان هو وليد الإبداع وحب الثقافة ومحاولة تقارب لهجاتنا وأدبنا وثقافتنا في البلاد العربية فالشعر واللغة تجمعنا، وسنبقى على العهد ما حيينا..

بدوره خالد عبيدات رئيس هيئة اليرموك رحّبَ بضيوف مهرجان القيصر الدولي للشعر الفصيح وشكر القائمين عليه ملفتا للنخبة الذين تم اختيارهم من الشعراء كما شكر متصرف اللواء لرعايته للأمسية ، وأضاف نحن في هيئة اليرموك وجمعية حرثا نرحب باستضافة كل عمل ثقافي هادف ومميز، ويسعدنا أن نستضيف مهرجان القيصر لما له من أثر ودور ثقافي بارز..
وأما متصرف اللواء خلدون العبادي رحّب باسم الأردن عامة ولواء بني كنانة خاصة بالشعراء والضيوف العرب وأضاف إنّ مثل هذه المهرجانات لهي محفل ثقافي بارز في إثبات الهوية العربية والثقافية ونشكر القائمين عليه ممثلا باتحاد القيصر وهيئة اليرموك التي استضافة المهرجان..

مقالات ذات صلة العياصرة يفتتح فعاليات مهرجان القيصر للشعر الفصيح 2025/08/10

وعن مدير مكتبة الحسين بن طلال فصّرح بأننا في جامعة اليرموك نسعى للشراكة مع الهيئات الثقافية ومؤسسات الدولة المدنية وخاصة في العمل الثقافي والبحث والإبداع وهذه ليست المرة الأولى التي نتشارك فيها مع اتحاد القيصر مرحبين بالشعراء المشاركين ..
وفي تصريح للشاعر الجزائري د. أحمد صانع قال إنني أحمل لكم أيها الأردنيين حبّ وشوق إخوانكم في الجزائر ، وأفخر في أنني أمثل بلدي في مثل هذا المهرجان طيب السمعة والصيت وأشكر باسمي واسم الشعراء العرب القائمين عليه لحسن استقبالهم وضيافتهم وجهودهم وعمدة هذا المهرجان الأديب رائد العمري وللدولة الأردنية بلد الأمن والأمان..

وقدّم الشعراء قصائدهم الوطنية والوجدانية وتحايا لبلادهم وللأردن ملكا وشعبا ، كما قرأ بعضهم قصائد وجدانية وأخرى فلسفية وبقيت فلسطين وغزة تحديدا حاضرة في خاصرة الشعر ، كما قُدمت قصائد كتبت خاصة لتوثيق جهود اتحاد القيصر وعميد المهرجان ورئيسه الأديب رائد العمري ، وكذلك كتبت قصائد خاصة لإربد وقراها ولشاعر الأردن مصطفى وهبي عرار، وكما كتب كذلك قصائد تحية للجزائر وسورية ..
فيما قدّم الفنان محمود حمادنة في الأمسية التي قدمها الشاب محمد عبيدات وصلة طربية مع العود..

وفي نهاية الأصبوحة كرّم مدير مكتبة الحسين د. محمد شخاترة يرافقه ثقافة إربد د. سلطان الزغول ورئيس المهرجان الأديب رائد العمري الشعراء المشاركين بدروع من اتحاد القيصر، كما قام متصرف لواء بني كنانة خلدون العبادي يرافقه رئيس هيئة اليرموك خالد إسكندر ورئيس المهرجان رائد العمري بتكريم الشعراء المشاركين في الأمسية بتكريمين تكريم اتحاد القيصر وآخر من هيئة اليرموك وقدّم العمري درع القيصر لكل من مكتبة الحسين ممثلة بمديرها ولهيئة اليرموك ممثلة برئيسها عرفانا لاستضافتهم لبعض فعاليات المهرجان..

مقالات مشابهة

  • مهرجان القيصر الدولي للشعر الفصيح يواصل فعالياته الشعرية في جامعة اليرموك وبلدة حرثا
  • الخميس المقبل.. مقامات يحتفى بـمحمد عبد المطلب بقصر الأمير بشتاك
  • قرعة دوري أبطال الخليج تضع الشباب في مجموعة نارية
  • نائب أمير المنطقة الشرقية يطلع على مشاريع مجموعة روشن
  • نائب أمير الشرقية يطلع على منجزات ومشاريع مجموعة روشن
  • نائب أمير الشرقية يطلع على مشاريع مجموعة روشن
  • عجائب الأستاذ جابر وغرائب الدكتور ربيع في مجموعة قصصية جديدة للقاص العمراني
  • الانتقالي يسمح لمجموعة هائل سعيد بالعودة للعمل في الضالع
  • مفاوضات متعثرة في جنيف لإقرار معاهدة عالمية للبلاستيك
  • تصفيات الصعود للدوري الممتاز تكونت من أربعة مجموعات يتأهل متصدر كل مجموعة إلى الدوري الممتاز