قوات الدعم السريع: فراغ سياسي أم تراجع عسكري؟
تاريخ النشر: 31st, October 2024 GMT
لعل الأحداث الأخيرة في ملف الأزمة السودانية، والتصاعد الشرس في معارك الأيام الأخيرة، خاصة في منطقة شرق الجزيرة، مع تداعياتها العسكرية والسياسية، التي أحاطت بقوات الدعم السريع على الصعيد العسكري والسياسي في الداخل والخارج، ما لفت النظر لإعادة التفكير في المنطلقات السياسية والعسكرية لهذه القوات، التي تخوض حرباً ضروساً في الصراع الدائر في السودان منذ عام ونصف العام، من دون التوصل لحل عسكري أو سياسي، عدا عن الثمن الذي دفعه المدنيون، والانتهاكات الإنسانية الجسيمة بحقهم، لم تعد حرب السودان تضيف جديداً إلى ملفها الزمني؛ إلا المزيد من الانتهاكات من قصف للمدنيين والتنكيل الذي تجاوز قدرة الضمير الإنساني على الاحتمال.
قوات الدعم السريع أحد طرفي معادلة الحرب، الذي خاض حرباً على طول البلاد في لحظة صراع سياسي، تفجرت معه كل صراعات الأزمة السودانية على أكثر من صعيد، سواء كان عسكريا أم سياسيا أم مناطقيا أم دوليا، الأمر الذي جعل منها الأزمة الأكثر تعقيداً والأشد فتكاً في تاريخ حروب البلاد المتصلة. وهذه الحرب الأخيرة هددت الوجود الكلي للدولة والبلاد، ولا يعرف ما إذا كان السودان سيبقى موجوداً على الخريطة السياسية وبحدوده الجيوسياسية الحالية.
أما التدخل الدولي والإقليمي، فقد كشف قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو عن التدخلات العسكرية المباشرة من جانب مصر، وهو أمر مستجد في الإعلان عنه بشكل سافر، ما يُفسر في المواقف السياسية بتصعيد المواجهة مع كل الأطراف، وتفريغ الضغط العسكري أو السياسي. والشاهد أن التدخل الدولي لم يكن غائباً عن أجندة فرقاء الأزمة السودانية، في إدارة الصراع وتوجيهه.
قوات الدعم السريع لم تكن تنظيماً سياسياً فاعلاً في الحياة السياسية السودانية، بل كانت ذراعاً عسكرية لمنظومة سياسية تنفذ بها أجندتها، التي تتطلب القوة والحماية والحصانة ضد العدالة، وإذا كانت القوة العسكرية مرادفا للسياسية، أو نفوذها في دول العالم الثالث مثل السودان، فقد وجدت قوات الدعم السريع نفسها في خضم المعترك السياسي، الذي لم تكن مستعدة له من حيث طبيعة تكوينها، بل دفعت الأحداث وربما الأقدار هذه القوات إلى دائرة النفوذ السياسي في أعقاب ثورة ديسمبر 2019، التي أطاحت بالنظام الذي كونها، ووجدت نفسها في مواجهة صراعات سياسية، بين مكونات عسكرية ومدنية وسياسية، تمثل الطيف السياسي السوداني المجبول على الاختلاف السياسي. وقد ذهبت قوات الدعم السريع وقائدها إلى البحث عن دور يتجاوز مهامها التأسيسية، وهي حراسة النظام القائم وقتها، إلى منصة سياسية تفرض ما تفرضه المؤسسة العسكرية وتقاليدها الموروثة في مناوأة الاتجاهات المدنية والديمقراطية في الحكم. وفي الوقت نفسه تقترب من المكونات المدنية التي تشابه في تقاليدها طبيعة الدعم السريع، خاصة المكونات القبلية، هذا الافتقار إلى الخبرة السياسية ـ كما أقر قائد القوات في خطابه الأخير المثيرـ جعلها عرضة للتلاعب والمناورات السياسية من قبل القوة السياسية المحترفة تاريخيا في المناورة والتدليس السياسي، ولأسباب عدة لم يكن صعود هذه القوات إلى المشهد السياسي مرغوباً فيه لأسباب جهوية، وبعض من موانع السياسات السودانية الموروثة في الحكم والهيمنة وهو أمر ما لبثت هذه القوات تردده. ولأن مثل هذه التكوينات العسكرية المستقلة بمقدرات توازي قوات الدولة الأمنية الرسمية، لا يمكن أن ترتكن إلى دورها في حراسة النظم العسكرية وهي ترى تهافت التنظيمات السياسية المدنية نحوها، والإشادة بدورها ودعوتها صراحة إلى الاستيلاء على دفة الحكم في البلاد، وهو مسلك كثيراً ما اتخذته الأحزاب السياسية المدنية للانقلاب على السلطة. ولكن هذا الاتجاه التعبوي التحشيدي، ما كان أن ينجز دون برامج سياسية، تجعل من قوات الدعم السريع جسماً سياسياً قابلاً للحوار، أو التحالف إلا تحت أسنة القوة الغاشمة. ونتجت عن ذلك منظومة عسكرية مهابة الجانب ومرغوب في دورها، صداً لتحقيق مسار ديمقراطي للقوى المدنية، مثلما حاولت التنظيمات السياسية استغلال هذه القوى لصالح توجهاتها السياسية. ومن هنا غابت السياسة، أو العقل السياسي عن هذه القوات التي تخوض حرباً جرّت معها مكونات اجتماعية تنتسب إليها، في أكبر ظاهرة استقطاب جهوي. وما ينسب من انتهاكات إلى قوات الدعم السريع، ربما يشير إلى غياب أخلاقيات التدريب السياسي والعقيدة العسكرية المنضبطة، في ظل الفوضى التي أحدثتها الحرب في بنية المجتمع السوداني. فالطرفان مسؤولان عن ارتكاب فظائع ضد المدنيين، فما خلقته الحرب من تمييز على الهوية، أوقع كثيرا من الأبرياء المدنيين في دائرة الشك والاتهام من قبل الطرفين. ووصل الأمر إلى تسليح جماعات قبلية (مدنية) وتحويلها بالتالي إلى مقاتلين، بما يتنافى وبنود الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية المدنيين، وإن تكن حرب السودان أبعد عن مراعاة الاتفاقيات وبنودها.
وقد حققت هذه القوات على مدى أشهر الحرب على مدى عام ونصف العام انتصارات عسكرية، في حرب تشدد على القول إنها فوجئت بها، وبالتالي فرضت عليها من طرف الحركة الإسلامية التي تهيمن على الجيش. وأيا تكن مزاعمها فقد استطاعت أن تسيطر على ولايات تمتد حدودها على طول البلاد بما فيها العاصمة الخرطوم. ثم ماذا بعد هذه الانتصارات العسكرية في المناطق التي وقعت تحت هيمنتها، لم يكن بطبيعة الواقع إنزال برامج سياسية قابلة للتطبيق أو الشعارات، التي اختطفتها وحاربت مسمياتها الفضفاضة من التهميش، إلى استعادة الديمقراطية وغيرها من شعارات ظلت فاعلة في الخطاب السياسي لحركات الهامش السياسي السوداني على مدى عقود. وبعد قفل باب التفاوض في جنيف كآخر محطة تفاوض في المحطات العديدة بين الطرفين، يبقى التصعيد العسكري الخيار الوحيد الذي يسعى كل من الطرفين على المضي فيه إلى آخر نقطة حرب الكل ضد الكل.
اجتمعت عوامل عدة سياسية وعسكرية، تصب ضد قوات الدعم السريع من تحركات عسكرية من قبل الجيش والتحشيد القبلي والمناطقي ضد هويتها الإثنية، وحالة الانشقاقات الأخيرة في قياداتها العسكرية، انشقاق قائدها في ولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل وبعض من المستشارين على المستوى السياسي، قلل الدعم من أهميتها. وجميع هذه المؤثرات تضيق من فرصة تأسيس وجود شرعي لقوات الدعم السريع خارج الولايات الغربية، في ما يسمى بالحواضن الاجتماعية في ولايتي كردفان ودارفور، ما يؤشر إلى حالة انفصال قائمة بحقائق الواقع والاستحواذ، ولكن السيطرة العسكرية وحدها لا تحقق شرعية سياسية تحوز اتفاقا جماعيا، وعلى الرغم من أن هذه القوات أوجدت بنتائج الحرب سندا شعبيا في المناطق والولايات التي تنتمي إليها، إلا أن تمدد هذه التأثير الشعبي يتقلص كلما تباعدت مسافات سيطرة المناطق، ما يعني عمليا تراجعا عسكريا وتقطعا لرقعة مجالها الحيوي، حيث تفرض سيطرتها العسكرية. فإذا كان الحديث عن تهيئة سياسية تستعد لها قوات الدعم السريع، وهي بالمفهوم السياسي المحلي حوار وطني أو مبادرة سلام، وما إليه من محاولات استباق أو المحافظة على الأقل على الحد الأدنى من شكل الدولة والوطن، وإن وسائل التغيير السياسية التي لم تعد تتناسب مع المكونات السياسية التقليدية من أحزاب وكيانات طائفية ومهنية وجهوية فاعلة وهامشية، تخضع لها منظومة سياسية اجتماعية مؤثرة على خريطة السياسة السودانية قابلة للعمل في سودان ما بعد الحرب، وأيا يكن دور هذه القوات في الماضي فقد أكسبتها الحرب وجوداً واقعيا أيا تكن كلفة هذا الوجود.
كاتب سوداني
القدس العربي اللندنية
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع هذه القوات
إقرأ أيضاً:
بسبب القتل في الفاشر.. بريطانيا تفرض عقوبات على قادة في الدعم السريع
فرضت بريطانيا عقوبات على كبار قادة قوات الدعم السريع السودانية، متهمة إياهم بالتورط في عمليات قتل جماعي وعنف جنسي بشكل ممنهج وهجمات متعمدة على المدنيين في السودان، وطالت العقوبات "نائب قائد قوات الدعم عبد الرحيم دقلو، قائد قطاع شمال دارفور اللواء جدو حمدان، القائد تيجاني إبراهيم موسى، والفاتح عبدالله إدريس المعروف بـ(أبو لولو)".
Britain sanctioned senior commanders of Sudan's paramilitary Rapid Support Forces on Friday, over what it said were their links to mass killings, systematic sexual violence and deliberate attacks on civilians in the African country. https://t.co/qLl1LxAIYV — Reuters Africa (@ReutersAfrica) December 12, 2025
وقالت الحكومة البريطانية إن هؤلاء القاعدة يُشتبه في تورطهم بهذه الجرائم، باتوا يواجهون تجميد أصول وحظر سفر، وقالت وزيرة الخارجية البريطانية إيفيت كوبر في بيان "الفظائع المرتكبة في السودان مروعة إلى حد أنها تترك ندبة في ضمير العالم... والعقوبات التي نعلنها اليوم ضد قادة قوات الدعم السريع تشكل ضربة مباشرة لأولئك الذين تلطخت أيديهم بالدماء".
وتأتي هذه العقوبات بعد أن اقترحت الولايات المتحدة والإمارات ومصر والسعودية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي خطة لهدنة لمدة ثلاثة أشهر تليها محادثات سلام، وردت قوات الدعم السريع بقبول الخطة، لكنها سرعان ما شنت غارات جوية مكثفة بطائرات مسيرة على مناطق تابعة للجيش.
معاقبة شبكة تجند مقاتلين من كولومبيا
وفرضت الولايات المتحدة، الثلاثاء عقوبات على شبكة عابرة للحدود تُجند عسكريين كولومبيين سابقين وتدرب جنودًا بينهم أطفال للقتال في صفوف قوات الدعم السريع، وذكرت وزارة الخزانة الأمريكية في بيان، أنها فرضت عقوبات على 4 أفراد و 4 كيانات ضمن الشبكة، التي قالت إنها تتألف في معظمها من مواطنين وشركات كولومبية.
BREAKING: The US government has imposed sanctions on a network that is fueling the conflict by recruiting former Colombian military personnel to train soldiers—including children—to fight for the Rapid Support Forces, a Sudanese paramilitary group.
"The Rapid Support Forces have… — Harun Maruf (@HarunMaruf) December 9, 2025
وأفادت بأن العقوبات على الشبكة تُعطل مصدرًا مهمًا للدعم الخارجي لقوات الدعم، ما يُضعف قدرتها على استخدام مقاتلين كولومبيين مهرة ضد المدنيين. واتُهمت قوات الدعم السريع باستهداف المدنيين وقتل الرجال وحتى الرضع، كما استهدفت النساء والفتيات عمدًا ومارست بحقهن الاغتصاب. وأكدت الوزارة في بيانها أنها ستعمل بالتنسيق مع دول المنطقة لإنهاء هذه الفظائع وتحقيق الاستقرار في السودان.
دعوة لقبول الهدنة
من جانبه، أكد مبعوث الرئيس الأمريكي إلى أفريقيا مسعد بولس، أن واشنطن تحاسب مرتكبي الفظائع بالسودان، داعياً الأطراف السودانية إلى قبول الهدنة لوقف العنف في البلاد، وكتب عبر حسابه على منصة "إكس": " تُحمّل الولايات المتحدة المسؤولية لأولئك الذين يرتكبون الفظائع في السودان".
Today, the United States is holding accountable those who commit atrocities in Sudan. The parties must accept a humanitarian truce to halt the violence and end external military support from transnational networks of murderers like the Colombians we sanctioned today. These… — U.S. Senior Advisor for Arab and African Affairs (@US_SrAdvisorAF) December 9, 2025
وأضاف "يجب على الأطراف القبول بهدنة إنسانية لوقف العنف وإنهاء الدعم العسكري الخارجي من الشبكات العابرة للحدود التي تضم قتلة، مثل الكولومبيين الذين فُرضت عليهم العقوبات"، مضيفًا "تعكس هذه الإجراءات التزامنا بدعم السلام ومساندة الشعب السوداني".
الملايين يواجهون انعدام الغذاء
من جانبه، أعلن مدير العمليات في منظمة أطباء بلا حدود كينيث لافيل، انهيار كل الأنظمة التي تحفظ الحياة في السودان، محذرًا من أن نحو 9 ملايين يواجهون انعدام الأمن الغذائي في السودان، يأتي هذا في وقت أكد فيه وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبر اهيم، أن السودان يسجل أكثر من 3 ملايين إصابة سنويًا بالملاريا مع معدلات وفيات عالية، وفقًا للإحصاءات الرسمية المسجلة في المستشفيات.
الأمم المتحدة تحذر من أن المدنيين في منطقتي #دارفور و #كردفان لا يزالون يواجهون عنفا متصاعدا وعشوائيا،
وتجدد الدعوة لكافة أطراف النزاع في #السودان إلى وقف الهجمات على المدنيين فورا، والالتزام بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني.https://t.co/B8ikEvX8gk — أخبار الأمم المتحدة (@UNNewsArabic) December 11, 2025
وأفاد شهود عيان بأن ولاية شمال كردفان باتت تحتضن العدد الأكبر من النازحين، وتؤوي حاليًا نحو 864 ألف شخص، ووفق مفوضية العون الإنساني في الولاية فإن قرابة 82 ألف نازح يقيمون داخل مراكز الإيواء، بينما تتوزع البقية بين مجتمعات مضيفة والأقارب.