تعتبر قصة إسلام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أبرز القصص في تاريخ الإسلام، إذ تحمل بين طياتها معاني التحول الروحي العميق والتغيير الجذري الذي يمكن أن يحدثه القرآن في نفس الإنسان. 

كيف غيَّر القرآن قلب سيدنا عمر بن الخطاب؟ 

وفي حلقة جديدة من برنامج "أسوياء" الذي يقدمه الداعية مصطفى حسني، تم تسليط الضوء على هذه القصة الملهمة وكيف استطاع القرآن أن يغير قلب أمير المؤمنين ويحول مسار حياته من العداء للإسلام إلى أحد أعظم المدافعين عن رسالته.

 سيدنا عمر: من العداء إلى الإيمان

كان سيدنا عمر بن الخطاب قبل إسلامه من أشد أعداء الإسلام، بل كان يهدد بتدمير دعوة النبي محمد ﷺ وملاحقة المسلمين في مكة. اشتهر بصلابته وقسوته، وكان يضطهد المسلمين بكل قسوة، إلى أن جاء اليوم الذي شهد فيه تحولًا مفاجئًا في قلبه، وكان لذلك سبب واحد: القرآن الكريم.

تروي القصة أنه في يوم من الأيام، بينما كان سيدنا عمر في طريقه لقتل النبي ﷺ، صادفه أحد الصحابة الذي كان قد أسلم حديثًا، فأخبره بأن أخته وزوجها قد أسلما، فغضب عمر وأسرع إلى منزل أخته. لكن المفاجأة كانت عندما دخل بيت أخته، فوجئ بأنها تقرأ القرآن، فغضب أكثر وحاول أن يعتدي عليها، إلا أن أخته تمسكت بالقرآن وردت عليه بكل هدوء. عندئذ، قرأ عمر بن الخطاب ما كان في يدها من صفحات القرآن، وكانت الآيات التي قرأها من سورة طه.

الآيات التي غيرت قلبه

قال عمر بن الخطاب بعد أن قرأ الآيات: "فَأَيَّارَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ تَذْهَبُ، إِنَّ لِي إِلَى مَا يَحْسُنُ". هنا بدأ يشعر بشيء جديد في قلبه، أحاسيس لم يكن قد اختبرها من قبل، وتدور التساؤلات في ذهنه: هل كان على خطأ في كل ما فعله ضد المسلمين؟ هل يمكن أن يكون هذا الدين هو الحق الذي يعيشه الناس في مكة؟ وفي تلك اللحظة، كانت كلمات القرآن تشق طريقها إلى قلبه، فتحت قلبه للإيمان، ومن ثم تحول في لحظة تاريخية من شخص كان يضطهد المسلمين إلى أحد أبرز الداعين للإسلام.

كيف أثَّر القرآن على قلب سيدنا عمر؟

في حلقة برنامج "أسوياء"، قام مصطفى حسني بتحليل تأثير القرآن الكريم في تغيير قلب سيدنا عمر بن الخطاب، وأكد حسني أن القرآن كان المفتاح الرئيسي لهذا التغيير، فليس مجرد قراءة أو سماع للآيات، بل هو تأثير عميق في النفس، يغير من الفكرة والمشاعر والأفكار. عندما قرأ عمر بن الخطاب الآيات من سورة طه، كانت تلك الكلمات تلقي الضوء على جوانب مختلفة من شخصيته، وتزرع في قلبه بذور الإيمان.

القرآن هنا لم يكن مجرد كتاب يتلوه أحد، بل كان هو الموجه والمُرشد الذي أضاء ظلمات قلب عمر، فأزاح الغشاوة التي كانت تحجب عنه الحقيقة، وأعطاه الطريق نحو التوبة والإيمان.

التحول الذي حدث بعد إسلامه

بعد أن أسلم عمر بن الخطاب، أصبح من أبرز الشخصيات في تاريخ الإسلام. كان له دور كبير في نشر الدعوة، وبذل جهده وماله في خدمة المسلمين. كان أمير المؤمنين، وكان يشهد فتح البلدان، ويقيم العدل في الأرض. 

تغيَّر عمر بن الخطاب تغييرًا جذريًا، وكان هذا التحول نتيجة تأثير القرآن في قلبه، لم يعد ذلك الرجل القاسي الذي يطارد المسلمين، بل أصبح من أكثر الناس حبًا للإسلام والعمل من أجل نشره.

مصطفى حسني في برنامجه "أسوياء" يذكرنا بأن القرآن ليس مجرد حروف تُقرأ، بل هو رسالة ذات تأثير عميق على من يفتح قلبه ويستمع لها. القرآن هو الذي يقلب الموازين ويغير مجرى الحياة، كما حدث مع سيدنا عمر الذي أصبح بعد إسلامه أحد أعظم القادة في تاريخ الإسلام.

تعلم من قصة عمر بن الخطاب

قصة إسلام عمر بن الخطاب تحمل العديد من الدروس للمسلمين اليوم، وأهمها أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، وأن القرآن هو المصدر الأساسي لهذا التغيير. مهما كانت قسوة الشخص أو ظلمه، فإن القرآن قادر على إحداث تحول عميق في قلبه إذا ما تلقاه بصدق وإيمان.

كما أن هذه القصة تذكرنا بأهمية الاستماع للقرآن بتركيز وتأمل، ومحاولة فهم معانيه وتأثيره على حياتنا. لا ينبغي أن نعتبر القرآن مجرد كلام نتلوه دون تأثير، بل يجب أن نبحث عن كيفية تطبيقه في حياتنا اليومية، كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب، الذي أصبح من أعظم وأعدل الحكام في تاريخ الإسلام.

 

قصة إسلام سيدنا عمر بن الخطاب هي مثال حي على قدرة القرآن على تغيير القلوب وتحويلها، وقصص الصحابة تُعلمنا أن الإسلام ليس مجرد دين، بل هو حياة تسير على ضوء القرآن، وتبدأ من القلب وتصل إلى كل جوانب الحياة.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: عمر بن الخطاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الإسلام سيدنا عمر القرآن فی تاریخ الإسلام ر القرآن فی قلبه

إقرأ أيضاً:

البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة

د. ناهد محمد الحسن

تشير تجارب التاريخ الثقافي إلى أن الفضاء الفني غالبًا ما يستعيد القدرة على قول ما تعجز السياسة عن الإفصاح عنه. تتقدّم الفنون لتصدح باللغة التي لا تستطيع السلطة سماعها او تحمّلها. فاللغة المصفّاة بنت السلطة، أما اللغة المنفلتة فهي بنت الحرية، ولا يجتمع الاثنان في حنجرة واحدة. من هنا، يصبح تتبّع البذاءة في الفنون أشبه بتتبّع التصدعات الدقيقة التي تظهر في جدار السلطة. فكلما اتسعت التصدعات، ارتفع صدى الضحكات، سقطت الهيبة، تراجع الخوف وتطوّرت المقاومة.

فعندما تهيمن السلطة على القنوات الرسمية للخطاب، يصبح الفن بما يتضمنه من سخرية، انحراف لغوي، فجور رمزي، وتوظيف مقصود للابتذال وسيطًا معرفيًا يسمح بإعادة إنتاج الحقيقة خارج الأطر التي تفرضها البنى السلطوية. ولهذا، فإن دراسة البذاءة في الفن ليست بحثًا في الذوق، بل في إمكانات المقاومة داخل الخطاب الجمالي. فكل انحراف لغوي عن المعايير المفروضة هو — في لحظات التحولات السياسية — فعل مقاومة يكشف حدود السلطة ويعيد توزيع القوة الرمزية داخل المجتمع.

من المسرح الإغريقي إلى التنظير الحداثي: جذور البذاءة بوصفها نقدًا للسلطة

يبيّن تحليل مسرح أريستوفان _ الذي نشأ في القرن الخامس الميلادي_أن استخدام الألفاظ الجنسية الفجة لم يكن ناتجًا عن رغبة في الإضحاك وحده، بل عن سعي لفضح النفاق الأخلاقي والسياسي عبر تفكيك “هالة الخطاب الرسمي”. فالمحظور اللغوي، حين يُستدعى إلى المسرح، يعمل كـ أداة لكسر احتكار الطبقات الحاكمة لمعنى الأخلاق. بعد ذلك بقرون، وضع ميخائيل باختين إطارًا تنظيريًا لهذا الدور في مقولته حول الكرنفالية، حيث يتعرض النظام الرمزي السائد لانقلاب مؤقت يسمح للخطاب الشعبي بالهيمنة على الفضاء العام. موضحا للجمهور معنى اللحظة التي بمقدورهم فيها ان يسقطوا الملك، بحدّ الضحكة وليس بحد السيف.

ففي الكرنفال:

– يضحك الشعب على السلطان،

– تتلاشى الفواصل بين “المهذب” و”الوقح”،

– وتتحول البذاءة إلى آلية لنزع هالة السلطة.

في هذه اللحظة، يصبح الضحك أكثر ثورية من أي وثيقة سياسية، لأنه يطيح بالخوف — والسخرية تنزع الشرعية من السلطة أكثر مما تفعل المعارضة الرسمية. ويُظهر هذا التحليل أن البذاءة في سياق الكرنفال ليست انحرافًا أخلاقيًا، بل آلية لتفكيك الهرمية السياسية والاجتماعية عبر تعليق الحدود بين “الرفيع” و”الوضيع”. تدعم الدراسات اللاحقة في السخرية السياسية العربية هذا الطرح، مؤكدة أن الهزل — وخصوصًا حين يتضمن انحرافًا لغويًا — يخلق “عالمًا موازيًا” يتخفف من الرقابة ويتيح إمكانات جديدة للتعبير عن الرفض (Badarneh, 2011؛ Elsayed, 2021).

 الأدب والفجور اللغوي: إعادة تشكيل الذائقة وتقويض البنية الأخلاقية الرسمية

يمثل الأدب أحد أهم الحقول التي استخدمت البذاءة لتحدي السلطة الرمزية. رواية د. هـ. لورانس Lady Chatterley’s Lover (1928)   لم تُحاكم لأنها جنسية فقط، بل لأنها فضحت نفاق الأخلاق الطبقية في إنجلترا ما بعد الحرب العالمية الأولى. فالعلاقة بين امرأة من النخبة وخادم من الطبقة العاملة كانت جريمة رمزية تهدم المعمار الاجتماعي. القضاء اعتبر الرواية “بذيئة”، لكن التاريخ اعتبرها — لاحقًا — نقطة تحول في تحرير الجسد من رقابة الدولة. البذاءة هنا كانت تكشف ما تحجبه اللياقة: العطب الحقيقي في المجتمع.  وفي السياق ذاته، تُظهر دراسة أعمال هيلدا هيلست أن المزج بين السامي والوضيع ليس مجرد خيار جمالي، بل تقنية لزعزعة النسق الأخلاقي وإعادة توزيع السلطة داخل اللغة. وقد فسّرت قراءات باختين ومافيسولي هذا التداخل بوصفه آلية تكشف البنية القمعية التي تتخفى خلف اللغة المنقّاة.

في كتابه الوصايا المغدورة، يذهب ميلان كونديرا أبعد من الدفاع عن البذاءة — فهو يراها جزءًا من “حكمة الرواية”، التي تكشف السخافات الكبرى للسلطة من خلال ما يبدو تافهًا أو مبتذلًا. يلمس كونديرا جوهرًا مهمًا حين يؤكد أن  البذاءة ليست خروجًا عن اللغة، بل عودة اللغة إلى حقيقتها الأولى: أن تقول ما يخشاه الجميع.

يتضح من ذلك أن البذاءة في الأدب تؤدي وظيفة مزدوجة: نقد البنية الأخلاقية الرسمية، وفتح المجال لوعي مغاير يتجاوز الحدود التي ترسمها المؤسسات الثقافية والسياسية.

الموسيقى والراب: البذاءة كأرشيف للغضب الاجتماعي ( (NTM  نموذجًا

أشار محمد عباس — مشكورًا — إلى أهمية فرقة الراب الفرنسية Suprême NTM كنموذج لتسيس البذاءة. فالاسم ذاته (Nique Ta Mère) يشكل تصريحًا احتجاجيًا يتجاوز الخطاب الأدبي أو الصحفي، ليعبر عن الغضب البنيوي المتولد من تهميش الضواحي الفرنسية. تُظهر الأدبيات المعنية بثقافة الهيب–هوب أن البذاءة هنا ليست إساءة شخصية، بل لغة احتجاجية تشكّل هوية مشتركة ضد عنف الشرطة، العنصرية المؤسسية، الفقر، واستبعاد الفئات المهمشة من المشاركة السياسية.

في أغنية (شرطة Police)، حوّلت هذه الفرقة الشتيمة إلى وثيقة احتجاج سمعي. وعندما حوكمت المجموعة بسبب كلماتها، تحوّلت المحاكمة إلى اعتراف رسمي بأن اللغة يمكن أن تهدد النظام أكثر مما يهدده العنف المادي. لماذا تهمنا تجربة NTM؟

لأنها تجسّد ما يقوله باختين ومارك ليفين و(سارة عوض)، أن الفن يولد سلطة رمزية موازية، وأن اللغة البذيئة قد تكون الشكل الأوضح لانتزاع الاعتراف بوجود الهامش. وهذا يتقاطع مع دراسات الفن الاحتجاجي في المنطقة العربية (LeVine, 2015؛ Awad et al., 2017)، التي تُظهر أن ثقافة الهامش تنزع إلى استخدام أشكال لغوية “غير مصقولة” بوصفها وسيلة لمخاطبة السلطة مباشرة دون وساطة.

البذاءة في الفنون البصرية والشارعية: تفكيك الهيمنة الرمزية

تكشف البحوث الحديثة في الفن السياسي في شمال إفريقيا وغرب آسيا (2023–2024) أن الفضاءات الفنية غير الرسمية — الشوارع، الجدران، الفضاء الرقمي — أصبحت منصات مركزية لإعادة إنتاج خطاب مقاوم. في فلسطين مثلًا، يوضح Alım (2020)  أن الجداريات تشكل بنية رمزية مضادة تحافظ على الذاكرة وتؤسس لخطاب سياسي موازٍ. وفي مصر، رهنت Elsayed (2021) على أن السخرية الرقمية تمثل “كرنفالًا جديدًا” يتيح لغات هجينة تمزج بين الفحش والتهكم والصورة الرقمية لإنتاج مقاومة يومية. وتشير الكتب الحديثة عن الفن المقاوم (Art Against Authoritarianism in SWANA, 2024؛ الى أن الأنظمة السلطوية تميل إلى معاقبة النكتة أكثر من معاقبة المقال السياسي، لأنها: تنتشر خارج هياكل السيطرة، تُسقط الخوف، وتحوّل الجمهور إلى منتج للمعنى. وبذلك يتحول الفعل الفني البذيء إلى تحدٍّ مباشر للهالة السلطوية.

السياق السوداني: السخرية الشعبية كآلية لإسقاط الهالة السياسية

تُعد تجربة صحيفة حلمنتيش (أواخر ثمانينيات القرن العشرين) واحدة من أبرز الأمثلة السودانية على استخدام السخرية اللاذعة — وأحيانًا البذيئة — بوصفها آلية تفكيك رمزي للسلطة في سياق ديمقراطي هش. وينسب اليها نقل الصحافة السودانية المنضبطة الى البذاءة، في مفارقة مثيرة للتنظيم االإسلاموي الذي كان يتضرع للشعب السوداني بالطهرانية، مزاحما لأحزاب طائفيّة راسخة في القداسة، مشهرا الفن والكاريكاتير كأدوات لنزع القداسة عن منافسيه. وصول حلمنتيش إلى المجال العام لم يكن مجرد دخول صحيفة ساخرة، بل كان تفكيكًا مباغتًا لمنظومة الوقار السياسي التي حكمت المجال العام لعقود. وهو ما ينسجم مع ما تقترحه الأدبيات المتعلقة بالكرنفال الباختيني: أن السخرية — بما فيها من تهكّم وانحراف لغوي — تعمل على تعليق التسلسل الهرمي مؤقتًا، بما يسمح بإعادة توزيع السلطة الرمزية بين “المرموق” و”العادي”. اعتمدت حلمنتيش على هجاء سياسي مباشر، وعلى تفكيك الصورة المثالية للقيادات التقليدية عبر لغة شعبية غير منقّاة.

هذا النوع من الخطاب وفقا للباحثين، لا يقصد الإساءة الشخصية، بل يعمل — وفق تحليل زعزعة الرسميّة المفرطة للخطاب السياسي، كشف التوتر بين “القيمة الأخلاقية” المعلنة والسلوك السياسي العملي، وإعادة سلطة التقييم إلى الجمهور بدلاً من النخب. وفي إحدى اللحظات البالغة الدلالة — التي كثيرًا ما تُذكر في الذاكرة السياسية السودانية — هي قبول الإمام الصادق المهدي كتابة مقدّمة لكتاب احتوى الرسوم الساخرة التي استهدفته. تجسيد لفكرة أساسية في الثقافة الديمقراطية: أن السخرية جزء من المجال العام، وأن الهالة الرمزية للزعيم ليست ملكًا خاصًا، بل خاضعة للفحص الشعبي. هذا السلوك من جانب القيادات يشكّل مواجهة مختلفة تمامًا عن ردود الفعل السلطوية التي غالبًا ما تلاحق السخرية بالعقاب. وفي المفهوم الباختيني، هذه اللحظة تمثل قبول الحاكم بأن يدخل — طوعيًا — في فضاء الكرنفال، أي فضاء التساوي المؤقت بين السلطة والجمهور.

المفارقة التاريخية: عودة السلاح إلى أصحابه

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر أن الخطاب الساخر البذيء عاد مجددًا، لكن هذه المرة موجَّهًا إلى الحركة الإسلامية نفسها — التي كانت قد استخدمت حلمنتيش في الثمانينيات لتفكيك خصومها. وهذا يعزز فرضية مركزية في هذا البحث:

البذاءة ليست ملكًا لجماعة سياسية، بل ظاهرة لغوية–اجتماعية تتغير وظيفتها بحسب موقعها داخل الحقل السلطوي. فحين تنتقل الجماعة من الهامش إلى السلطة، تتحول البذاءة التي كانت فاعلة في مقاومتها إلى أداة موجَّهة ضدها، لأن الشروط التاريخية التي شَرعنت استخدامها آنذاك تنقلب عليها. وهكذا تُظهر حلمنتيش ما يسميه باختين بـ”قانون انقلاب الخطاب“: فباختين يرى أن الكلمات لا تنتمي لمن نطقها أول مرة، بل هي كيانات حيّة تتغير دلالتها حسب من يقولها، ولمن يقولها، وفي أي ظرف، وبأي نبرة. هذه الحركة المستمرة تجعل الخطاب غير ثابت وقابلًا دائمًا للانقلاب على سياقه الأصلي. الكلمة التي وُلدت خاضعة قد تتحول إلى كلمة متمرّدة، والكلمة التي صُنعت لتمجيد السلطة قد تنقلب فجأة إلى أداة للسخرية منها.

المفارقة التاريخية: السلاح يعود إلى أصحابه

بعد عقود، وفي ثورة ديسمبر، وُجِّه الخطاب البذيء إلى الإسلاميين أنفسهم — الذين سبق أن استخدموا حلمنتيش ضد خصومهم. هذا يؤكّد قانونًا لغويًا–سياسيًا مهمًا: البذاءة لا تظل سلاحًا بيد طرف واحد. حين تتغير موازين السلطة، يتغير اتجاه الشتيمة. فالبذاءة و إن وضعت في بنى تحت قشرة الدماغ في التشريح، ودفعت الى هامش المدينة، ووصمت بالانحطاط والقذارة فستبقى الخصم الناصع في مواجهة السلطة.

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر، كما وثّقها الخطاب الشعبي، أن البذاءة لم تكن مجرد رد فعل انفعالي، بل استراتيجية رمزية لإزالة الخوف والتحرر. وقد سبق وقدمت في حلقة لي في يوتيوب أيام الثورة تحليلا عن احتفاء الجماهير بعبارة غير لائقة القتها سيّدة ثائرة على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة، لم تصدم المذيع وحده والمشاهدين، ولكنها الرصاصة التي خرّبت اللعبة. (يمكنك مشاهدة الحلقة هنا: https://youtu.be/y0CC8jksQxQ?si=P06xNUSxdab_7moz)

فتحت الثورة الباب الخلفي كما قال غوفمان واسقطت الستارة عن مسرحية الأدب المدّعاة. احتشد الاف المتابعين لصفحة ماما و لأنّها دون أن تحصل على شهادة في العلوم السياسية اين يمكن ان تنصع بذاءتها، فلم تصفق للسلطة، ولكنها دون ان تقرأ ماركس انحازت لمظالم طبقتها. وهكذا دمجت ثورة ديسمبر مظالم الشعب وحولت اللغة الصادمة إلى أداة لإعادة تعريف المسموح والممنوع في الخطاب العام، عبر تفكيك الهالة التي بنتها الأنظمة المتعاقبة حول رموزها. هذا يتسق مع ما تقترحه النظريات الحديثة في تحليل الحركات الاجتماعية حول دور اللغة المنحرفة في بناء التضامن وكسر الاحتكار الأخلاقي للخطاب الرسمي.

ختاما:

تكشف المراجعات التاريخية والنظرية والعملية أن البذاءة — حين تُستخدم في سياق جمالي مقصود — تعمل كآلية مقاومة تُعيد توزيع السلطة داخل الفضاء العام. فهي: تكسر احتكار السلطة للخطاب، تفتح المجال لأصوات الهامش، تعيد صياغة الحدود الأخلاقية بطريقة تُنتج معرفة بديلة، وتضمن خلق فضاء نقدي خارج سيطرة الدولة. وهكذا، تتحول البذاءة في الفن من “انحراف لغوي” إلى استراتيجية معرفية وجمالية وسياسية تستعيد بها الجماهير حقها في الكلام. أن البذاءة ليست انحرافًا عن الأخلاق، بل انحرافًا عن السلطة. وأن الفن — حين يقترب من حافة الممنوع — يحرر اللغة من السقف الذي تفرضه الدولة، المجتمع، والدين. الفن ليس مجرد مرآة، بل مطرقة لغوية تعيد تشكيل ما نجرؤ على قوله… وما نخشى قوله.

نواصل..

الوسومد. ناهد محمد الحسن

مقالات مشابهة

  • قيادة نسائية ملهمة.. هيئة الأمم المتحدة للمرأة في مصر تُكرم الدكتورة منال عوض
  • البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
  • مدرسة عمر بن الخطاب تحصد لقب بطولة المملكة لتنس الطاولة لطلاب دور القرآن
  • خالد الجندي: قصة صبر سيدنا نوح تحمل عبرة عظيمة
  • النجم المصري طارق الأمير في حالة حرجة.. غيبوبة بعد توقّف قلبه
  • ملتقى السيرة النبوية بالجامع الأزهر يكشف ملامح شخصية عمر بن الخطاب قبل إسلامه
  • قلبه وقف ٣ مرات ودخل في غيبوبة.. تفاصيل الوضع الصحي للفنان طارق الأمير
  • بني ملحم: الي قلبه رهيف يغادر
  • بحضور وزير الأوقاف.. أمسية دينية بمسجد سيدنا الحسين
  • ما وراء الكواليس!