يبقى الثّور الغاضب محبوسا خلف بوّابة حديديّة صارمة لا يستطيع مغادرتها، فيتصاعدَ غضبُه حتى إذا وصل إلى حدّه الأقصى تُفتَحُ له البوّابة لينطلق مسرعا هائجا غاضبا باتّجاه ذلك الكائن الصّغير؛ المُصارِع الذي يعلم يقينا أنّه لا يستطيع الوقوف في وجه الثّور الغاضب والهائج، فلا بدّ أن ينتهج سلوكا مختلفا لمواجهة غضب الثور وهياجه المتصاعد؛ يحملُ على الفور منديلا أحمر يوجهه ذات اليمين وذات الشّمال، يتشتّت انتباه الثّور فيصبح همّه المنديل الأحمر الذي لم يكن في لحظةٍ من اللحظات قضيّته، وفجأة يظهر مصارع آخر يحملُ منديلا آخر، والثّورُ الغاضبُ قد تشتّت انتباهه وغاب تركيز غضبه وانشغل بالمناديل الحمراء الجانبيّة عن المُصارع الذي يسارعُ إلى غرس السّيوف واحدا تلو الآخر في ظهره.

وغضبُ الثّور رغم ذلك ما يزال موجها إلى المنديل الأحمر الهامشيّ حتّى يتمكّن المُصارعُ من هدّه والإجهاز عليه.

في الغرف المُغلَقة يجتمعُ المُصارِعُ الصّغير مع مناديله الحمراء، والمصارعُ هنا هو السلطة بكل مكوناتها من أجهزة مخابرات ومؤسسات حكوميّة ومنظومة حكم، والمناديل الحمراء هم أذرعه الإعلاميّة ورجاله من الفنانين والفنانات أو حتى الدعاة والمؤثرين الذين يحركهم بالريموت كونترول في وسائل التواصل الاجتماعيّ، فيكلّفُ أحد هذه المناديل بالظّهور على الشّاشة وبالتغريد والنشر والبث المباشر على وسائل التّواصل الاجتماعيّ وشتم الشّيخ الفلاني أو إثارة المسألة الجدليّة الفلانيّة، أو غير ذلك مما يهيج المتلقي ويثير انتباهه وغضبه.

افتعال وإثارة المعارك الهامشيّة والجانبيّة هدفُه بالدّرجة الأولى ليس القضايا المُثارة أصلا، بل هدفه افتعالُ قضيّة جانبيّة يتلهّى بها النّاس عن الكوارث الحقيقيّة التي يعاينونها ويعانونَها، وينشغل بها العبادُ عن الجراح الحقيقيّة التي تثغب دما وقهرا ووجعا من كلّ أنحاء جسدهم المُنهك
يُستَفَزّ الجمهور الغاضب الذي لا يتعامل معه أبناء الغرف المغلقة إلّا بوصفه ثورا غاضبا هائجا يجب إلهاؤه بالقضايا الجانبيّة والتافهة وتشتيتُ انتباهه وإضعاف تركيزه، وحرف أنظاره عن المُصارع الحقيقيّ وما يفعله من كوارث بالمناديل الحمراء.

ينشغلُ النّاس بالمعارك الجانبيّة المثارة فتتوالى السّيوف التي يغرسها المصارع في ظهره؛ سيف تهاوي العملة، وسيف غلاء المعيشة، وسيف رداءة البنية التّحتية، وسيف الحريّات الغائبة، وسيف جنون الأسعار، وسيف التضخم الاقتصادي، وسيف الخضوع للعدوّ الأجنبيّ، وسيف خذلان الأخ القريب الذي يقتل على الشاشات.

إنّها عمليّة "الإدارة بالأزمة" من خلال افتعال الأزمات الوهميّة والجانبيّة والهامشيّة، لينشغل النّاس بها عن أزماتهم الحقيقيّة التي لا تفتأ تفتك بهم صباح مساء.

إنّ افتعال وإثارة المعارك الهامشيّة والجانبيّة هدفُه بالدّرجة الأولى ليس القضايا المُثارة أصلا، بل هدفه افتعالُ قضيّة جانبيّة يتلهّى بها النّاس عن الكوارث الحقيقيّة التي يعاينونها ويعانونَها، وينشغل بها العبادُ عن الجراح الحقيقيّة التي تثغب دما وقهرا ووجعا من كلّ أنحاء جسدهم المُنهك.

وهذا هو ما ذكره المفكّر الأمريكي نعوم تُشومِسكِي في دراسته "استراتيجيّات التحكّم في البشر والسّيطرة على الجمهور"، ونسَبَه إلى الوثيقة المسمّاة "الأسلحة الصّامتة للحروب الهادئة" إذ يقول:

"حافظوا على تحويل انتباه الرّأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعيّة الحقيقيّة وألهُوهُ بمسائل تافهة لا أهميّة لها. أبقُوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا دون أن يكون لديه أيّ وقتٍ للتّفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى".

لقد ساق نعوم تشومسكي عشر استراتيجيّات لإلهاء الشّعوب في دراسته "استراتيجيّات التحكّم في البشر والسّيطرة على الجمهور"، وجاءت الاستراتيجية الخامسة منها تحت عنوان "خاطِب العامّة كأنّهم أطفال".

استراتيجية التشتيت والإلهاء والإشغال التي تمارسها الأنظمة المستبدّة وأذرعها بحق الشعوب المنهكة تعتمد بشكل رئيس على إقصاء الحسّ النّقدي، وتغييب القدرة الجماهيريّة على التّعامل مع هذه المعارك الجانبيّة بمنطق نقد أسبابها وأهدافها والمُراد منها ومآلاتِها، وذلك من خلال استفزاز عاطفتها الدّينيّة الصّادقة
جاء فيها: "إذا تمَّ التوجّه إلى شخصٍ مّا، كما لو أنّه لم يتجاوز بعد الثّانيةَ عشرة من عمره؛ فإنّه يتمّ الإيحاء له بأنه فعلا كذلك؛ وبسبب قابليّته للّتأثر من المحتمل إذن أن تكونَ إجابته التّلقائية أو ردّة فعله مفرغة من أيِّ حس نقدي، كما لو أنّه صادرٌ فعلا عن طفلٍ ذي اثنتي عشرة سنة".

إنّ استراتيجية التشتيت والإلهاء والإشغال التي تمارسها الأنظمة المستبدّة وأذرعها بحق الشعوب المنهكة تعتمد بشكل رئيس على إقصاء الحسّ النّقدي، وتغييب القدرة الجماهيريّة على التّعامل مع هذه المعارك الجانبيّة بمنطق نقد أسبابها وأهدافها والمُراد منها ومآلاتِها، وذلك من خلال استفزاز عاطفتها الدّينيّة الصّادقة عن طريق مهاجمة أحد أهمّ أعلام الدّعوة على سبيل المثال أو إثارة قضايا تستفز في الناس صدق العاطفة الدينيّة، وسرعان ما يدخلُ الجمهور الغاضب في الاشتباك لأنّه مُستَفز أصلا ومتوثّبٌ للمعركة ومتحفّزُ لها، ولكن تفريغ غضبه يتمّ بطريقةٍ كما لو أنّه تفريغ غضب طفلٍ مندفع يتمّ إقناعه باشتباكٍ آمن لتفريغ طاقته الانفعاليّة وفرط حركته وغضبه المتصاعد.

ما تزال هذه الاستراتيجيّة تنجح في أحيان عديدة وأزمنة مديدة غير أنّ حركة التّاريخ وقوانينه المطّردة ما تزال تثبت أيضا أنّ نجاح هذه الاستراتيجيات ليست قدر الشعوب الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل، فقد ينقلب السحر على السّاحر في ساعة غفلة من الطغاة عن سنن الزمان المتبدّل، ولله درّ أبي البقاء الرندي الذي يقول:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

دارَ الزَمانُ عَلى دارا وَقاتِلِهِ
وَأَمَّ كِسرى فَما آواهُ إِيوانُ

x.com/muhammadkhm

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه كوارث الأزمات كوارث أزمات إلهاء رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة رياضة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحقیقی ة التی استراتیجی ات الجانبی ة

إقرأ أيضاً:

إلغاء تفويضات العراق 1991-2002: ثمرة نهج هادئ يحول العراق من ملف أمني إلى شريك استراتيجي

12 دجنبر، 2025

بغداد/المسلة: أعلان الكونغرس الأمريكي، في خطوة تاريخية، إلغاء التفويضات العسكرية للحرب في العراق، لم يكن مجرد إجراء برلماني روتيني، بل انعكاساً مباشراً لتحول جذري في ديناميكيات العلاقات الخارجية العراقية، حيث برز نهج دبلوماسي في السنتين الاخيرتين، يعيد رسم ملامح بغداد على الخارطة الدولية بألوان أكثر هدوءاً وثقة.

وشكّل هذا النهج، في حقبة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، نموذجاً لإدارة التوترات الإقليمية بعيداً عن صخب التصريحات الحادة، إذ اعتمد على توازن دقيق بين المصالح الوطنية والشراكات الدولية، مما أعاد بناء جسور انهارها عقود من النزاعات والعقوبات، ودفع اللاعبين الدوليين إلى إعادة تقييم صورة العراق كدولة ناشئة من رماد الحروب.

من جانب آخر، أدت حوارات الحكومة الهادئة، التي ركزت على قضايا الاستقرار الاقتصادي والأمني، إلى ترسيخ قناعة عالمية بأن بغداد لم تعد مجرد ملف أمني مشحون، بل شريكاً مسؤولاً يساهم في تهدئة التوترات الإقليمية، خاصة في ظل التحديات المستمرة مع الجماعات المسلحة والضغوط الخارجية، حيث أصبحت الزيارات الدبلوماسية المحسوبة أداة لتعزيز الثقة المتبادلة مع واشنطن وجيرانها.

وقال تحليل ان إلغاء التفويضات الأمريكية لعامي 1991 و2002، الذي مرر بأغلبية ساحقة في مجلس النواب بنتيجة 261 صوتاً مقابل 167، وانتظاراً للمصادقة النهائية في السناتور، يُعد أولى الثمار الملموسة لهذا النهج، إذ يعترف به كإشارة إلى نضج العراق السياسي، ويفتح صفحة جديدة تعتمد على الشراكة المتكافئة بدلاً من إرث الغزوات والاحتلال، مع الحفاظ على التعاون الأمني ضد التهديدات المشتركة مثل داعش.

أما في السياق الأوسع، فإن هذه الدبلوماسية الناعمة، التي تجمع بين الثبات الداخلي والانفتاح الخارجي، غيّرت مواقف داخل الكونغرس نفسه، حيث أقنعت حتى بعض الجمهوريين المحافظين بأن العراق اليوم يمثل عنصراً من استقرار الشرق الأوسط، لا مصدراً للقلق الأبدي، مما يعزز مكانة بغداد كوسيط إقليمي فعال في قضايا الطاقة والأمن.

و يظل التحدي في ترجمة هذا النجاح إلى استثمارات اقتصادية مستدامة وإصلاحات داخلية، ليصبح العراق نموذجاً للانتقال السلمي في منطقة مليئة بالتوترات، حيث يُظهر هذا الإنجاز كيف يمكن للصبر الدبلوماسي أن يحوّل الإرث المرير إلى فرصة للتعاون المستقبلي.

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author Admin

See author's posts

مقالات مشابهة

  • مفاجأة لعشاق السلسلة..اكتشاف كوكب حرب النجوم الحقيقي
  • تهويل بلا وزن استراتيجي: قراءة في تغريدات سافايا
  • برج الجوزاء حظك اليوم.. قلبك يرشد عن الحب الحقيقي
  • في كلمته بمؤتمر «مستقبل أكثر استدامة».. محمد العلي: هندسة الحلول وصناعة الأثر الحقيقي
  • كاراجر : صلاح ارتكب خطأً استراتيجيًا والجماهير اختارت الوقوف خلف سلوت
  • الطمأنينة.. المعنى الحقيقي للحياة
  • إلغاء تفويضات العراق 1991-2002: ثمرة نهج هادئ يحول العراق من ملف أمني إلى شريك استراتيجي
  • مفكر: الجهاد الحقيقي في عصرنا العلم والعمل.. ودار الإسلام لم تعد مناسبة
  • المصدر الحقيقي للنقرس
  • الدور الحقيقي للمنظمات… والدور المنقذ الذي قامت به هيئة الزكاة