استراتيجيّات التشتيت.. كيف يُشغل الطّغاة الشّعوب عن قضاياهم الحقيقيّة؟
تاريخ النشر: 13th, November 2024 GMT
يبقى الثّور الغاضب محبوسا خلف بوّابة حديديّة صارمة لا يستطيع مغادرتها، فيتصاعدَ غضبُه حتى إذا وصل إلى حدّه الأقصى تُفتَحُ له البوّابة لينطلق مسرعا هائجا غاضبا باتّجاه ذلك الكائن الصّغير؛ المُصارِع الذي يعلم يقينا أنّه لا يستطيع الوقوف في وجه الثّور الغاضب والهائج، فلا بدّ أن ينتهج سلوكا مختلفا لمواجهة غضب الثور وهياجه المتصاعد؛ يحملُ على الفور منديلا أحمر يوجهه ذات اليمين وذات الشّمال، يتشتّت انتباه الثّور فيصبح همّه المنديل الأحمر الذي لم يكن في لحظةٍ من اللحظات قضيّته، وفجأة يظهر مصارع آخر يحملُ منديلا آخر، والثّورُ الغاضبُ قد تشتّت انتباهه وغاب تركيز غضبه وانشغل بالمناديل الحمراء الجانبيّة عن المُصارع الذي يسارعُ إلى غرس السّيوف واحدا تلو الآخر في ظهره.
في الغرف المُغلَقة يجتمعُ المُصارِعُ الصّغير مع مناديله الحمراء، والمصارعُ هنا هو السلطة بكل مكوناتها من أجهزة مخابرات ومؤسسات حكوميّة ومنظومة حكم، والمناديل الحمراء هم أذرعه الإعلاميّة ورجاله من الفنانين والفنانات أو حتى الدعاة والمؤثرين الذين يحركهم بالريموت كونترول في وسائل التواصل الاجتماعيّ، فيكلّفُ أحد هذه المناديل بالظّهور على الشّاشة وبالتغريد والنشر والبث المباشر على وسائل التّواصل الاجتماعيّ وشتم الشّيخ الفلاني أو إثارة المسألة الجدليّة الفلانيّة، أو غير ذلك مما يهيج المتلقي ويثير انتباهه وغضبه.
افتعال وإثارة المعارك الهامشيّة والجانبيّة هدفُه بالدّرجة الأولى ليس القضايا المُثارة أصلا، بل هدفه افتعالُ قضيّة جانبيّة يتلهّى بها النّاس عن الكوارث الحقيقيّة التي يعاينونها ويعانونَها، وينشغل بها العبادُ عن الجراح الحقيقيّة التي تثغب دما وقهرا ووجعا من كلّ أنحاء جسدهم المُنهك
يُستَفَزّ الجمهور الغاضب الذي لا يتعامل معه أبناء الغرف المغلقة إلّا بوصفه ثورا غاضبا هائجا يجب إلهاؤه بالقضايا الجانبيّة والتافهة وتشتيتُ انتباهه وإضعاف تركيزه، وحرف أنظاره عن المُصارع الحقيقيّ وما يفعله من كوارث بالمناديل الحمراء.
ينشغلُ النّاس بالمعارك الجانبيّة المثارة فتتوالى السّيوف التي يغرسها المصارع في ظهره؛ سيف تهاوي العملة، وسيف غلاء المعيشة، وسيف رداءة البنية التّحتية، وسيف الحريّات الغائبة، وسيف جنون الأسعار، وسيف التضخم الاقتصادي، وسيف الخضوع للعدوّ الأجنبيّ، وسيف خذلان الأخ القريب الذي يقتل على الشاشات.
إنّها عمليّة "الإدارة بالأزمة" من خلال افتعال الأزمات الوهميّة والجانبيّة والهامشيّة، لينشغل النّاس بها عن أزماتهم الحقيقيّة التي لا تفتأ تفتك بهم صباح مساء.
إنّ افتعال وإثارة المعارك الهامشيّة والجانبيّة هدفُه بالدّرجة الأولى ليس القضايا المُثارة أصلا، بل هدفه افتعالُ قضيّة جانبيّة يتلهّى بها النّاس عن الكوارث الحقيقيّة التي يعاينونها ويعانونَها، وينشغل بها العبادُ عن الجراح الحقيقيّة التي تثغب دما وقهرا ووجعا من كلّ أنحاء جسدهم المُنهك.
وهذا هو ما ذكره المفكّر الأمريكي نعوم تُشومِسكِي في دراسته "استراتيجيّات التحكّم في البشر والسّيطرة على الجمهور"، ونسَبَه إلى الوثيقة المسمّاة "الأسلحة الصّامتة للحروب الهادئة" إذ يقول:
"حافظوا على تحويل انتباه الرّأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعيّة الحقيقيّة وألهُوهُ بمسائل تافهة لا أهميّة لها. أبقُوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا دون أن يكون لديه أيّ وقتٍ للتّفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى".
لقد ساق نعوم تشومسكي عشر استراتيجيّات لإلهاء الشّعوب في دراسته "استراتيجيّات التحكّم في البشر والسّيطرة على الجمهور"، وجاءت الاستراتيجية الخامسة منها تحت عنوان "خاطِب العامّة كأنّهم أطفال".
استراتيجية التشتيت والإلهاء والإشغال التي تمارسها الأنظمة المستبدّة وأذرعها بحق الشعوب المنهكة تعتمد بشكل رئيس على إقصاء الحسّ النّقدي، وتغييب القدرة الجماهيريّة على التّعامل مع هذه المعارك الجانبيّة بمنطق نقد أسبابها وأهدافها والمُراد منها ومآلاتِها، وذلك من خلال استفزاز عاطفتها الدّينيّة الصّادقة
جاء فيها: "إذا تمَّ التوجّه إلى شخصٍ مّا، كما لو أنّه لم يتجاوز بعد الثّانيةَ عشرة من عمره؛ فإنّه يتمّ الإيحاء له بأنه فعلا كذلك؛ وبسبب قابليّته للّتأثر من المحتمل إذن أن تكونَ إجابته التّلقائية أو ردّة فعله مفرغة من أيِّ حس نقدي، كما لو أنّه صادرٌ فعلا عن طفلٍ ذي اثنتي عشرة سنة".
إنّ استراتيجية التشتيت والإلهاء والإشغال التي تمارسها الأنظمة المستبدّة وأذرعها بحق الشعوب المنهكة تعتمد بشكل رئيس على إقصاء الحسّ النّقدي، وتغييب القدرة الجماهيريّة على التّعامل مع هذه المعارك الجانبيّة بمنطق نقد أسبابها وأهدافها والمُراد منها ومآلاتِها، وذلك من خلال استفزاز عاطفتها الدّينيّة الصّادقة عن طريق مهاجمة أحد أهمّ أعلام الدّعوة على سبيل المثال أو إثارة قضايا تستفز في الناس صدق العاطفة الدينيّة، وسرعان ما يدخلُ الجمهور الغاضب في الاشتباك لأنّه مُستَفز أصلا ومتوثّبٌ للمعركة ومتحفّزُ لها، ولكن تفريغ غضبه يتمّ بطريقةٍ كما لو أنّه تفريغ غضب طفلٍ مندفع يتمّ إقناعه باشتباكٍ آمن لتفريغ طاقته الانفعاليّة وفرط حركته وغضبه المتصاعد.
ما تزال هذه الاستراتيجيّة تنجح في أحيان عديدة وأزمنة مديدة غير أنّ حركة التّاريخ وقوانينه المطّردة ما تزال تثبت أيضا أنّ نجاح هذه الاستراتيجيات ليست قدر الشعوب الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل، فقد ينقلب السحر على السّاحر في ساعة غفلة من الطغاة عن سنن الزمان المتبدّل، ولله درّ أبي البقاء الرندي الذي يقول:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
دارَ الزَمانُ عَلى دارا وَقاتِلِهِ
وَأَمَّ كِسرى فَما آواهُ إِيوانُ
x.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه كوارث الأزمات كوارث أزمات إلهاء رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة رياضة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحقیقی ة التی استراتیجی ات الجانبی ة
إقرأ أيضاً:
سعد: الغائب الذي لم يَغب
صراحة نيوز ـ الدكتور أسعد عبد الرحمن
يا أيّها الغالي سعد…
لا أحد يدرك، لا أحد يستطيع أن يدرك، كيف أن مطرقة رحيلك الصاعق قد هدمت ابراجاً داخلية عندي لطالما ظننتها منيعة. قد سحقت لبناتٌ شيّدها في داخلي التفاؤل المزمن الذي لطالما صاغ نفسيتي، وحماني من الهموم المتكاثرة في هذه الدنيا لكنك ذهبت. وبذهابك، سقط السقف.
صحيح، صحيح تمامًا، أنك أخي، ابن أمي وأبي. لكن هذا، وحده، لم يُتوّجك سلطانًا على قلبي، ولا جعلك توأم روحي الذي أصبحتَه. لقد جاءت “كلمة السر” في هذه العلاقة الإنسانية الاستثنائية من نبعٍ أعمق من صلات الدم، من ينابيع الصداقة التي تنامت بيننا، منذ كنت طفلًا يحبو. ثم، تفتحت من جديد – بعد انتهاء انقطاع قسري- مع التئام شملنا في الكويت حين بلغت أنت الخامسة والعشرين… ومنذ تلك اللحظة، كأن الحياة ابتسمت لي بك. كأننا، نحن الاثنان، استعدنا بقايا طفولة مؤجّلة، وعشناها بنضج من يعرف معنى أن يجد في أخيه صديقًا يسند الظهر، ويقرأ الصمت، ويكون مرآة الروح.
وحين غربت شمسك، ذات “فجرٍ” من حزيران الأسود عام 2023، غرب معك شيء لن يعود. لم يكن يومًا عاديًا. كان انسحابًا هادئًا لظلّك من كل زاوية في حياتنا. وتركتنا (تركتني انا بالذات) أُعاني من رحيلك ومن تلاشي دعوة متكاملة كنت قد وجهتها لك لرحلات متتابعة نقوم بها لتعزيز توأمة الروح التي جمعتنا، قبل أن يحين الأجل المحتوم والذي “توقعناه” في غضون سنوات…كأننا ظننا في اللاوعي عندنا اننا نعيش في”بروج مشيدة”!!!!!غير ان الحقيقة المرّة انفجرت حين غادرتنا بطريقة جعلت الوداع لا ينتهي.
بكيتك، سرًا وعلانية. بكيتك كما يُبكى الوطن حين يُغتصب، كما يُبكى الضوء حين يُطفأ فجأة ولا يعود. ثم، فجأة، انحبس الدمع وجفّ، الأمر الذي حيّرني. وحين سألني صمتي عن السبب، وجدتُ الجواب في دمار “قطاع غزة” ودمار شمال “الضفة”… في فلسطين التي تنزف ولا تموت. هناك، بكى وجعي الأكبر: فما سكبته عيناي من دموع على أهلنا لم يعلم به أحد. كان ذلك السرّ بين ربي وبيني. وكم حرصتُ على ألّا يعرف أحد عن ذلك الانكسار، لا عائلتي، ولا أصدقائي، ولا زملائي. آنئذٍ، صارت الفجيعة بك-اعذرني ياحبيب- تنزوي في ظلّ فاجعة أكبر.
لكن يا سعد…
عدتَ إليّ، من حيث لم أكن أتوقّع. عدت إليّ حين اجتمعنا في منزلكم لإحياء ذكراك. عدت اليّ في الصور المتكئة على جدران منزلك وفي استعادتي لعباراتك الظريفة كلما تحلقنا حول مائدة طعامكم الشهي. عودتك-هذه المرة- تداخلت مع المفارقة بالتجويع الظالم للأهل في “قطاع غزة”. كل هذه التداعيات “فجرّتني” بالبكاء من جديد، كأنني لم أبكِك من قبل، فحملتُ قلبي المتعب، واندفعتُ خارجًا من منزلك…لا لأهرب منك، بل لأهرب اليك.
ياسعد…
لا أحد يدرك، لا أحد يستطيع أن يدرك كم أفتقدك. وسواء كنتُ وحدي، أو مع الأقارب أو الأصدقاء، لطالما وجدتك تزورني، غالبًا بنعومة، وأحيانًا بشدّة. كنتُ أتجلّد. أتجمّد. كي لا “أفسد الجو”، كما كنت تمازحني…
لكن، آه يا توأم الروح، ما أشدّ وقع هذا التجلّد، وما أبطأ هذا النوع من الموت!
كلما عاد حزيران، سقطت من قلبي صفحة. وكلما اقترب “فجر” يومه الأول، يوم رحيلك، أدركت أنه ليس فجرًا… بل موعدٌ مع وجع، مع غيابٍ لا يرحل، ومعك، أنت، الذي ما زلت تعيش في كل ركنٍ من ذاكرتي. واليوم، انا لم أكتبك لأرثيك… بل لأُبقيك حيًّا. في الورق. في اللغة. في الذين سيقرؤونك دون أن يعرفوك. كتبتك لتظلّ بيننا.
ونعم، يا سعد، غبتَ جسدًا لكنك لم تغب من قلبي لحظة. تسكنني كما يسكن الضوء المرآة: لا يُرى، لكنه يُضيء كل ما يمرّ عليه. فسلامٌ عليك، في الذكرى الثانية، كما يليق بروحٍ نادرةٍ، لا يتكرّر غيابها، ولا يُشفى من فقدها.