روث بيلفيل… سيدة توقيت جرينتش التي باعت الزمن!
تاريخ النشر: 22nd, November 2024 GMT
#سواليف
كم الساعة الآن؟هذا سؤال شهير لن نتوقف عن إجابته أو طرحه مهما طال بنا الزمن. الزمن! ذلك المجهول الأبدي الذي لا حياة لنا بدونه. نحن حرفيًا وبلاغيًا مرتبطون بالزمن، ولا معنى لحياتنا بدونه. لهذا، قد يكون من العسير أن نتخيل عالمًا بدون وسيلة صحيحة ولحظية لمعرفة كم الساعة وأين نحن من اليوم بالضبط؛ لكن فلتتأملوا معي ما كان عليه الوضع قديمًا وحتى البدايات المبكرة من القرن العشرين!
في عام 1836، لاحظ جون هنري بيلفيل John Henry Belville الذي يعمل بالمرصد الملكي بجرينتش Greenwich Royal Observatory ذلك النمط المتكرر للزوار الذي يحضرون طيلة الوقت للمرصد لمعرفة الوقت بدقة.
حينها فكر جون في أنه إذا ما كان الناس على استعداد لتكبد كل هذه المشقة للوصول إلى المرصد، فإنهم سيرحبون حتمًا بدفع مبلغ من المال لشخص يأتيهم بالوقت إلى مكان أقرب وأيسر لهم. لاحقًا في ذلك العام، اتفق هنري مع عدد من العملاء ما بين 50 إلى 200 عميل محتمل لمشروعه القادم. وهكذا دارت العجلة لأغرب نشاط قد تتخيله يومًا!
مقالات ذات صلةللبدء بمشروعه الجديد، تعين على جون بيلفيل أن يترك وظيفته بالمرصد ليرتحل إليه كل يوم لضبط ساعة الميقات Chronometer الدقيقة الخاصة به. بعدها كان يرتحل مجددًا على صهوة حصانه ليمر بأحياء لندن ويتوقف بمحطاتها حيث يتقابل مع زبائنه من الراغبين في ضبط ساعاتهم الشخصية والمنزلية على توقيت ساعة جيبه المثالية. وبالمناسبة، فقد كان لساعته اسمًا! أجل، كان اسمها “أرنولد Arnold” على اسم صانعها الإنجليزي جون أرنولد؛ وقد كانت “أرنولد” في الأساس ملكًا لدوق ساسيكس Duke of Sussex، وكان يضرب بها المثل في الدقة حتى 1 على عُشر من الثانية الواحدة!
لمدة 20 عامًا كاملة، ظل جون وفيًا لتجارته الأمينة والمجزية، والتي ازدهرت عبر تلك السنين الطويلة للسمعة التي حازها مع أرنولد الدقيق حتى مماته في 1856. كان يمكن لهذه القصة الغريبة أن تنتهي هنا، خاصة مع ظهور التليجراف وقدرة الناس على معرفة الوقت متى حازوا الأدوات المناسبة لتلقي الإشارات؛ لكن المئات من عملاء جون القدامي كانوا راغبين في الاستمرار مع التقنية التي يعرفونها حقًا ويثقون بها. هكذا، رجوا أرملة جون #بيلفيل، ماريا، لاستكمال مشروعه من بعده؛ وهو ما وافقت على القيام به بكل سرور.
هكذا، حملت ماريا بيلفيل أرنولد من جديد، لتجول بها عبر شوارع لندن لـ 36 عامًا أخرى، حتى عام 1892 عندما قررت بغتة أنها اكتفت تمامًا وقررت التقاعد. مرة أخرى كان للقصة أن تنتهي هنا، خاصة مع الانتشار الواسع لخدمات التليجراف وتسابق شركات متخصصة لتقديم خدمات معرفة الوقت والاتصال عبر أجهزة التليجراف الحديثة حينها. لكن من جديد، كان للعملاء رأي آخر.
كانت هناك تلك الشكاوى المستمرة والمتزايدة حول خدمة معرفة الوقت المقدمة من مكتب البريد عبر التليجراف؛ حيث بدا وكأنهم يكافحون لخدمة الأعداد المتزايدة من العملاء الذين تحولوا إليهم كل أسبوع مع تقاعد ماريا. نتيجة لهذا، طلب العديد من عملاء ماريا أن تتولى ابنتها زمام مشروع العائلة العتيد. هكذا ظهرت روث بيلفيل Ruth Belville على مسرح الأحداث.
#سيدة_جرينتش!مع أرنولد، حملت روث إرث عائلتها لسنوات أخرى هي الأطول بين أسلافها، بلغت 48 عامًا! 48 عامًا ظلت بها روث تطوف شوارع لندن بلا غياب حتى تقاعدها في عام 1940 وبعمر 86 عامًا. لا، لم تتوقف لأنها صارت طاعنة في السن، وإنما لظروف الحرب العالمية الثانية التي جعلت من التحرك بشوارع لندن أمرًا خطيرًا لا يمكن التنبؤ بعواقبه. هكذا لم يعد الناس يرون روث بطلّتها المميزة في الأرجاء.
لماذا تعد روث هي أشهر من حمل أرنولد، ولماذا أطلقوا عليها اسم “سيدة توقيت جرينتش”؟ لأنها مارست نشاطها العائلي العتيد بأجواء تنافسية شرسة انتصرت بها في النهاية وباعتراف منافسيها الذين حاولوا القضاء عليها بالتكنولوجيا الحديثة بلا جدوى حتى مماتها!
خلال فترة عمل روث، دخلت البشرية عصر الراديو، وبدأت هيئة الإذاعة البريطانية BBC إذاعة الوقت بدقات ساعة بيج بن الشهيرة بداية من عام 1924؛ بالإضافة إلى توسع خدمات التليجراف وتحسن أدائها بشكل كبير؛ ومع هذا ظل سوق ساعات الجيب القديمة رائجًا. السبب في هذا يرجع إلى بطء اعتناق الناس للتقنيات الجديدة وكون تلك التقنيات لا تستبدل التقنيات القديمة في البداية وإنما “تتعايش” معها. هكذا بدا أن تقنية بيلفيل العتيدة ستبقى رغم الحداثة التي بدأت بالسيطرة على كل شيء.
لكن النهاية كانت حتمية بالطبع، حينما ظهر “تيم Tim” في عام 1936. تيم هي خدمة ساعة ناطقة يمكنك الاشتراك بها وطلبها بضرب رقم 846 على أي هاتف أرضي، حيث ستستمع إلى ثلاثة دقات يتبعها صوت نسائي محبب يخبرك الوقت بدقة. لطالما لفت انتباهي الثلاث دقات متباينة الطول على إذاعة القاهرة التي كنت أستمع لها. أصل هذه الدقات الثلاث هي “تيم” كما علمت أثناء كتابة هذا المقال.
مع “تيم” شعرت روث بأن أوانها قد حان أخيرًا. هناك مفارقة طريفة تتمثل في كون المرأة التي فازت بمسابقة تسجيل الوقت بصوتها عبر خدمة “تيم” من جيران روث نفسها! كانت تلك المرأة تدعى إيثيل كاين Ethel Cain وقد خلدها التاريخ باعتبارها صوت الساعة الناطقة التي قضت على إرث بيلفيل.
هكذا، تقاعدت روث في 1940 وتوقفت عن خدمة ما تبقى من عملائها المخلصين (50 عميلًا) للأبد. لم يطل الأمر بها حتى وفاتها بعد 4 سنوات من تقاعدها، بعمر 90 عامًا لتُنهي معها مشروعًا وعملًا استمر طيلة 104 عامًا. إلى جانب سريرها حيث عثروا عليها بلا حياة، وجدوا أرنولد المخلص؛ وصبيحة اليوم التالي خرجت الصحف تعلن وفاة “تيم البشرية”.
نحن حرفيًا وبلاغيًا مرتبطون بالزمن. لا معنى لحياتنا بدونه، وقد مثّلت روث بيلفيل، سيدة توقيت جرينتش، فصلًا مهمًا من تاريخه.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سواليف لندن جرينتش بيلفيل
إقرأ أيضاً:
الحملة ضد جبريل ومناوي الفعل الخطأ في الزمن الخطأ
تعالت الأصوات في الأونة الأخيرة حول إتفاق جوبا ومواقف بعض أطرافه بعد قرارات رئيس الوزراء المعين الدكتور كامل إدريس دون النظر بعمق في المآلات والعواقب وماترمي إليه تلك الأصوات خاصة الموجهة ضد الدكتور جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة السودانية والقائد أركو مناوي رئيس جيش حركة تحرير السودان دون غيرهما من قيادات أطراف سلام جوبا .من الواضح بالنسبة لي أن تلك الحملة هي خطوة في مشروع التحول الذي خططت له بعض القوي الخارجية وعملت علي تنفيذه بفرض محتواه علي الجانب العسكري من مجلس السيادة باعتبار أن العسكر هم الفاعل الرئيسي في المرحلة الحالية .مجيئ دكتور كامل رئيسا للوزراء عبر بوابة العسكر هو نفسه مرحلة من مراحل ذلك المشروع الذي يهدف أساسا إلي تحقيق حالة من الرضاء لجهات خارجية لها وجهة نظر في وجود دكتور جبريل وأركو مناوي كفاعلين أساسيين في دولاب الحكم في السودان باعتبارهما معوقا لمشروع التحول المرسوم بأيادي غير سودانية خاصة وأن الرجلين ظلا يؤكدان فعلا لا قولا حقيقة توجهاتهما القومية بعد التضحيات الكبيرة التي قدمتها قواتهما خلال معركة الكرامة.هذه الحملة تم الترويج لها من البعض بحسن نية ترديدا لصوت نشأ في الوقت الخطأ من دوائر خارجية والآخر بسوء نية رغبة في توسيع الهوة بين مكونات معركة الكرامة الفاعلة حقا .هذه الحملة ليست وليدة المرحلة الحالية بل أطراف السلام نفسها سمعت كفاحا بعض تفاصيلها من جهات خارجية لا ترغب في وجود الرجلين في المشهد القادم بإعتبارهما حجر عثرة أمام تنفيذ مشروع تشكيل المشهد السياسي السوداني الجديد وعقبة كؤود في طريق عودة بعض الأطراف التي تعتبر أيادي للخارج في تنفيذ تشكيل ذلك المشهد.في كل اللقاءات التي عقدتها بعض القوي المدنية المساندة لمعركة الكرامة مع كثير من الجهات الخارجية في باريس ولندن وسويسرا وبلجيكا كان السؤال الحاضر هو أين موقع صمود وقياداتها من المبادرات المطروحة للحل السلمي والتحول الديموقراطي ، وكثير من الجهات الغربية صرَحت بوضوح عن عدم رغبتها في وجود الرجلين خاصة دكتور جبريل كفاعل في المشهد السياسي بحجة قربه أو إنتمائه للتيار الإسلامي حسب زعمهم دون تقديم مبررات أخري مقنعة تمنع الرجل من ممارسة حقه كسياسي وقائد له ولحركته كسبا مهما منذ توقيع إتفاق جوبا للسلام خاصة في تحويل دفة معركة الكرامة لصالح الشعب وجيشه العظيم .لو كان البرهان ضالعا في تلك الحملة رضوخا لمطالب بعض الجهات الخارجية ورغبة في الحصول علي وعودها بتحقيق الإستقرار ووقف الحرب وتخفيض الضغوط فإن تلك الوعود بلا شك وعودا زيفا وفقا لتجارب الماضي ومقدمة لسلسلة تنازلات يجب أن يقدمها البرهان وأعوانه من العسكر .ليس هنالك مايمنع حركة العدل والمساواة وحركة جيش تحرير السودان في هذا الظرف من تسنم أهم المقاعد في الحكومة الجديدة لأن أي محاولة لإبعادهما وتقزيم دورهما بغير حوار معهما ونقاش عريض يعزز الثقة بضمان تنفيذ بروتوكولات إتفاق جوبا يعيد مسلسل نقض العهود ويؤكد ماذهبت إليه أبواق إعلام المليشيا وسياسييها ويوجد مبررات لتصديق خطابهم العنصري ، خاصة وأن مسار دارفور لم ينفذ من بروتوكولاته سوي ذلك الجانب الذي يتعلق بالمواقع داخل السلطة الإقليمية والمركزية أما الجوانب المهمة فلم يتم فتحها حتي الآن إحتراما من الحركتين لظروف البلاد الأمنية والسياسية والإقتصادية.في إعتقادي إن حرب ١٥ إبريل جعلت من كل أقاليم السودان علي الحد السواء تهشيما وتهميشا وبالتالي هنالك ضرورة لاستحضار تقييم إتفاق سلام جوبا ومنح المسارات الأخري كالوسط والشرق والشمال وكردفان قدرا موازيا من التنفيذ بدل تقويضه خضوعا لوعود زيف حتي يتم المحافظة علي لحمة المكونات المساندة لمعركة الكرامة وتوحيد صوتها وجهدها المساند.علي الجهات الناقمة علي وجود دكتور جبريل علي رأس وزارة المالية وأبو نمو علي رأس وزارة المعادن تقييم أدائهما ومطالبة رئيس الوزراء بتفعيل أدوات الحوكمة والرقابة التي بشر بها وتفعيل عمل المراجع العامأما المطالبة سرا وجهرا بإزاحتهما فهذا يعد سلوكا لا يستشعر خطورة المرحلة ولا يمنح الحركتين حقهما بعد التضحية وعظيم دورها في تكسير مشروع تقسيم وتفتيت السودان وعدم السماح بإتيان وحدة السودان من ثغرة دارفور .لو كنت مكان قيادة الدولة العسكرية لشرعت فورا في تنفيذ برتوكول الترتيبات الأمنية لمسار دارفور بأكمله وقمت بدمج كل القوات الأخري في المؤسسة العسكريةلنستشرف جميعا المرحلة القادمة دون حمولات وحتي لا تكون تلك القوات قيودا لقيادات تلك الحركات ومؤثرا علي قراراتهم ومواقفهم السياسية مستقبلا وتيسير أمر تحولهما لأحزاب مدنية وحتي لا تستخدم الجهات المعادية لإستقرار السودان وجود تلك القوات منفصلة عن القوات المسلحة كبعبع تخيف به الشعب السوداني وحتي لا يستنسخ كل إقليم تجربة تكوين الجيوش الموازية للقوات المسلحة.أنا أعلم تماما رغبة الرجلان في دمج قواتهما اليوم قبل الغد وأعلم مدي صعوبة تحملهما للعبء الإداري والمالي لهذه القوات ناهيك عن تبعات فقدان الشهداء ومعاناة الجرحي والذين أعاقتهم المعارك .أمر تشكيل الحكومة الجديدة يتطلب من دكتور كامل حوارا متأنيا وأكثر شمولا حتي يضمن قاعدة عريضة مساندة لا معارضة لحكومته وعليه أن يتطلع الي المستقبل في ظل تناغم وتناسق المكونات المساندة لمعركة الكرامة .لا نزال نعيش فترة الإنتقال السياسي التي ولدت خلالها إتفاقية جوبا ومهما استطالت تلك الفترة يجب أن نولي إتفاقية جوبا أكبر قدر من التنفيذ بتدرج غير منقطعوأن نستذكر دروس الماضي تحسبا للمستقبل، وعندما تضع الحرب أوزارها ويزول خطر التقسيم فلا مكان لدكتور جبريل والقائد مناوي وغيرهما مكانا في السلطة إلا عبر صندوق الإنتخابات وعليهم جميعا أن يعلموا أن إتفاق جوبا ليس قرآنا منزلا صالحا لكل زمان ومكان وأن دفاعنا عن كثير من تفاصيله سيصبح غير مبررا مستقبلا ولكن في الوقت الحالي فإن المساس بإتفاق جوبا وعداء بعض أطرافه الفاعلة والمؤثرة يعد الفعل الخطأ في الزمن الخطأ .بقلم : فتح الرحمن يوسف سيدأحمد إنضم لقناة النيلين على واتساب