تُعتبر الاستثمارات الخارجية لأي دولة رافداً مهمًا لخلق الثروة، وتقوية ودعم الاقتصاد الوطني، كما أنها تمنح الدولة قوةً سياسيةً ووزنًا سياسيًا على الساحة الدولية، إذ تُعدّ الاستثمارات أداةً من أدوات تنفيذ وتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وتحرص الدول الغنية دائمًا على الاستثمار خارج حدودها في دول يتوفر فيها الأمن والاستقرار وقوة القانون، والحوافز المشجعة من رخص الأيدي العاملة، وتوفر المواد الخام، وانخفاض الضرائب، وغيرها.

وقد حرص نظام القذافي على الاستثمار في أفريقيا وضخ مليارات الدولارات في مشروعات مختلفة من مزارع ومصانع وفنادق وغيرها من الأنشطة الاقتصادية، ورغم أن البعض ينتقد سياسات النظام السابق المتعلقة بالاستثمارات الليبية في أفريقيا بأن غالبية المشروعات التي تم الاستثمار فيها كانت لأهداف سياسية، وأنه لا جدوى اقتصادية من وراء ذلك، إلا أنه من الخطأ تعميم هذا الرأي على كل الاستثمارات الليبية في أفريقيا، فهناك مشروعات ناجحة، كما أن هذه الاستثمارات من مزارع ومصانع وفنادق وغيرها تُعدّ من الناحية الاقتصادية أصولًا للدولة الليبية ولها قيمة سوقية، وهناك فرص للاستفادة منها إذا توفرت الإرادة السياسية بعيدًا عن منطق المغالبة والغنيمة وصراعات القوى السياسية في ليبيا.

مثّلت الفترة من عام 2011م بعد سقوط نظام القذافي وحتى يومنا هذا فترةً حرجةً بالنسبة للاستثمارات الليبية في أفريقيا، حيثُ شكّل الانقسام السياسي والصراعات والحروب حالةً من الضعف للدولة الليبية، مما أدى إلى تجرؤ بعض الدول والأشخاص على أموال وممتلكات الدولة الليبية في أفريقيا، وأصبح مصير بعض الاستثمارات مجهولًا، ونُهب البعض الآخر، وأحيانًا بتواطؤ أطراف ليبية، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ونظرًا لأهمية الاستثمارات الليبية في أفريقيا، فإن حكومة الوحدة الوطنية قد أولت هذا الملف أهميةً قصوى، وبدأت تتحرك على الساحة الأفريقية، ففي 25 نوفمبر 2024م، وصل وفد حكومي ليبي برئاسة فتح الله الزني، وزير الشباب والمبعوث الخاص لرئيس حكومة الوحدة الوطنية إلى أفريقيا، ومصطفى أبو فناس، رئيس مجلس إدارة محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار، ومحمد محجوب، المدير العام لشركة لايكو، والتقى الوفد مع فرانسوا بوقولا، وزير الشباب الغيني، والهدف من هذه الزيارة هو التباحث حول استعادة مزرعة ليبية مملوكة لمحفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار، وتُعتبر أكبر مزرعة في غرب أفريقيا بمساحة تبلغ 2150 هكتارًا، وقد صودرت المزرعة في عام 2020م بموجب مرسوم رئاسي غيني، إلا أن المحكمة العليا الغينية أبطلت هذا المرسوم مؤخرًا، مما يُمهّد الطريق لاستعادة ملكية ليبيا لها.

وفي 29 نوفمبر 2024م أيضًا، استقبل الأمين العام بوزارة التخطيط والتعاون الدولي في جمهورية غينيا وفدًا ليبيًا برئاسة مصطفى أبو فناس، رئيس مجلس إدارة محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار، وخلال اللقاء أكد الأمين العام بوزارة التخطيط والتعاون الدولي الغيني عن استعداد الحكومة الغينية لتقديم كافة التسهيلات لدعم الاستثمارات الليبية والمشروعات المشتركة.

قال مصطفى أبو فناس، رئيس مجلس إدارة محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار: “إن زيارة الوفد الليبي تأتي في إطار تعزيز استمرارية التعاون بين البلدين، وأن الوفد الليبي يضم مؤسسات تابعة للمحفظة متخصصة ومتواجدة بقوة في القارة الأفريقية مثل شركة لايكو التي تُدير مشاريع سياحية وزراعية في القارة، بالإضافة إلى شركة أولى إنرجي العاملة في قطاع الطاقة في 17 دولة أفريقية”.

وأضاف أبو فناس بقوله: “يجب مراجعة الاتفاقيات المتعلقة بالاستثمار بين البلدين وذلك لضمان العمل وفق أسس قوية وضمانات كافية بعد التقييم للتجربة السابقة”.

لا شك بأن هذه الجهود المبذولة من قبل المسؤولين الليبيين لاستعادة أملاك الدولة الليبية، والتي أثمرت عن توقيع اتفاق بين الوفد الليبي والحكومة الغينية لتسليم المزرعة المملوكة لمحفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار، تُعدّ خطوةً إيجابيةً تليها خطوات ونجاحات أخرى تصب في مصلحة الدولة الليبية، وتعزز من سمعتها وهيبتها دوليًا وإقليميًا، وينبغي التأكيد على حقيقة هامة مفادها أن الاستثمارات الليبية في أفريقيا تتجاوز قيمتها المالية المقدرة بمليارات الدولارات وما تُدرّه من عوائد على الدولة الليبية إلى قضايا تتعلق بالأمن القومي الليبي، فمن ناحية يمكن الاستفادة من هذه الاستثمارات في سد نقص السوق المحلية من المواد الغذائية، خاصة السلع الاستراتيجية من الحبوب من قمح وشعير وغيرها، فمن المعروف بأن المساحة الصالحة للزراعة في ليبيا لا تتجاوز 2% من إجمالي مساحة ليبيا البالغة 1,756,000.000 كم²، وهذا ضعف من الناحية الاستراتيجية يمس الأمن الغذائي للشعب الليبي، لهذا فإن الاستثمارات الليبية في أفريقيا، خاصة في مجال الزراعة، تُحقق مكاسب كبيرة للدولة الليبية، وأفضل بكثير من الاعتماد على الاستيراد من الخارج، وليس خافيًا بأن ليبيا من الدول التي تأثرت بالحرب الأوكرانية نظرًا لاعتمادها على استيراد القمح والشعير وغيرها من الحبوب، ومن ناحية أخرى فإن الاستثمارات الليبية في أفريقيا تُرسّخ وتعزز مكانة الدولة الليبية في أفريقيا التي تشهد صراعات وتنافسًا محمومًا على موارد وثروات القارة بين الدول الكبرى، فمن غير المقبول أن تنشط الدول الكبرى وبعض الدول الأخرى في أفريقيا وتحوز على موارد اقتصادية هائلة، مثال ذلك الصين وروسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا وإيران والإمارات وإسرائيل وغيرها من الدول التي دخلت إلى حلبة الصراع في أفريقيا، وتظل ليبيا، بوابة أفريقيا الشمالية، منشغلةً بصراعاتها الداخلية وهي تملك أدوات القوة الاقتصادية التي تُؤهلها لمنافسة الكبار في أفريقيا وضمان مصالحها الاستراتيجية، الكل يتسابق نحو أفريقيا، وصار من المألوف أن تُنظّم الدول الطامحة في موطئ قدم في أفريقيا منتديات ومؤتمرات للاستثمار في أفريقيا كل عام، وتدعو لها رؤساء دول القارة الأفريقية، وذلك من أجل تعزيز نفوذها وضمان مصالحها، الحقائق بالأرقام تُؤكد ماذا يحدث في أفريقيا؟.

لقد مضى الزمن الذي كانت فيه أفريقيا حكرًا على الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، واقع جديد رسمته الصين على خرائط الجغرافيا الأفريقية عندما بدأت في الزحف نحو أفريقيا واتباع سياسات التغلغل الناعم، ونفس الشيء فعلته روسيا وتركيا وكثير من الدول، ويبدو بأن الأمريكيين لم يُعِيروا اهتمامًا لما قاله الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي في نظريته “الآفاق الجديدة”، وأن استفاقتهم على تنامي نفوذ الصين في أفريقيا جاء متأخرًا في أكتوبر عام 2007م عندما أعلنوا عن تأسيس الأفريقوم “القيادة الأمريكية العسكرية الخاصة بأفريقيا” في مدينة شتوتغارت الألمانية، الآن وبالنظر لما يحدث في أفريقيا يتضح صدق نظرية “الآفاق الجديدة” للرئيس الأمريكي جون كينيدي الذي قال في نظريته: “إن مستقبل أفريقيا سيترك أثرًا جديًا على مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية بصورة إيجابية أو سلبية”. تواجه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون من قوى الاستعمار التقليدي في أفريقيا منافسةً شرسةً من دول صاعدة في النظام العالمي، وأحد أهم معارك إعادة تشكيل النظام العالمي تجري على الأرض الأفريقية.

الصين الآن رسّخت وجودها في أفريقيا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الأفريقية في عام 2023 نحو 282.1 مليار دولار، وبلغت استثمارات الصين في أفريقيا 40 مليار دولار في نهاية عام 2023م وفق تصريحات مساعد وزير التجارة الصيني تانغ ون هونغ، كما بلغت قيمة المشروعات التعاقدية للشركات الصينية في أفريقيا في خلال العقد الماضي حوالي 700 مليار دولار، تُفيد دراسة لمؤسسة ماكينزي الأمريكية عن وجود أكثر من 1000 شركة صينية نشطة في أفريقيا، وترفع مصادر أخرى العدد إلى 2500 شركة، 90% منها مملوكة للقطاع الخاص، وتتوقع نفس الدراسة أن تصل قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من استثماراتها وتجارتها في أفريقيا بحلول عام 2025م إلى 440 مليار دولار.

أما بالنسبة لروسيا، فهي منذ سنوات بدأت في مزاحمة النفوذ الغربي في أفريقيا، بهدف استعادة نفوذها وعلاقاتها أيام الاتحاد السوفييتي، وكسر العزلة المفروضة عليها من الغرب، واستطاعت من خلال صفقات الأسلحة وإلغاء الديون المستحقة على بعض الدول الأفريقية والبالغة 20 مليار دولار، وغيرها من الوسائل وأدوات القوة الناعمة، مثل هبات القمح والحبوب، والتواجد العسكري عبر مرتزقة فاغنر، أن تُرسّخ وجودها في عدد من الدول الأفريقية.

ولم تكن تركيا غائبةً عن مسرح الأحداث في أفريقيا، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا من 742 مليون دولار في عام 2000م إلى 9 مليارات دولار في عام 2005م، ثم إلى أكثر من 15 مليار دولار في عام 2009م، ليستمر في التزايد بما يصل إلى 25 مليار دولار في عام 2020م، وفي عام 2021م، ارتفع حجم التجارة بين تركيا وأفريقيا إلى 26 مليار دولار، ثم ارتفع ليصل إلى أكثر من 35 مليار دولار في عام 2023م، ومن المستهدف الوصول به إلى 40.7 مليار دولار في عام 2025م، لهذا نرى الأتراك مهتمين بترسيخ وجودهم في ليبيا والتواصل مع جميع الأطراف شرقًا وغربًا، فهم قد خبروا ليبيا وأهمية موقعها الاستراتيجي كبوابة نحو أفريقيا منذ أيام الدولة العثمانية.

كل ما سبق يُؤكد أيضًا بأن الدولة الليبية، رغم ما تُعانيه من انقسامات وضعف، لم تفقد كل أوراق قوتها، وأنها معنية بكل ما يحدث في أفريقيا من صراعات وتنافس بين الدول الكبرى، وأن مصالحنا ومجالنا الحيوي يمتد لأبعد من حدودنا الجنوبية عند الحدود الليبية مع تشاد والنيجر، وأن مفهوم أمن الأعماق يجب أن يكون ضمن أولويات سياستنا الخارجية ومتطلبات أمننا القومي، فلم تعد الأخطار التي تُهدّد كيان أي دولة هي تلك المرتبطة بحدودها فقط، بل أبعد من ذلك.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

كلمات دلالية: لیبیا أفریقیا للاستثمار ملیار دولار فی عام الدولة اللیبیة أفریقیا من وغیرها من من الدول التی ت

إقرأ أيضاً:

قارة غنية مستغلة.. أفريقيا بين فرص الشراكة وتحديات المكانة

تشتهر أفريقيا -حسب تقارير ودراسات- بالهشاشة والتخلف والفقر، وهو ما يغري القوى الاستعمارية والجهات الباحثة عن النفوذ والسيطرة، بالأخص إذا ما علمنا أهمية هذه القارة في الحال والمآل، وأنها تزخر بالخيرات الظاهرة والخفية، فضلا عن أنها قارة شابة وواعدة خلافا لقارات شابت أو بلغت منتهاها في التطور أو قريبا من ذلك.

وحول مكانة أفريقيا في الساحة العالمية، نشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحليلية بعنوان "التنافس الدولي في أفريقيا.. الفرص والتحديات" تتبع فيها رئيس جبهة المواطنة والعدالة في موريتانيا محمد جميل منصور مظاهر ومستويات التنافس الدولي في أفريقيا، وأهم أطرافه ومسار العلاقة والاحتكاك والصراع بينها وما ينتج عنه من تحديات.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2محلل أميركي يتنبأ: تورط الولايات المتحدة في حرب ضد إيران سيحطم إرث ترامبlist 2 of 2الجزيرة للدراسات يختتم مؤتمر "التنافس بين القوى العظمى والشرق الأوسط"end of list قارة غنية

يمكن تلخيص أهمية أفريقيا في النقاط التالية:

تمثل 20% من اليابسة. تمثل حوالي 15% من سكان العالم. خزان العالم الإستراتيجي من الموارد الطبيعية والمواد الأولية والأحجار النفيسة. تحتوي على 10% من احتياطي النفط العالمي، وحوالي 8% من احتياطيات الغاز. تضم 90% من الكروم والبلاتين. تمثل أكثر من ربع الأمم المتحدة (54 دولة). لها موقع إستراتيجي بين القارات الكبرى (أميركا غربا وأوروبا شمالا وآسيا شرقا). تحتوي على 65% من الأراضي الصالحة للزراعة، ونحو 10% من مصادر المياه العذبة المتجددة.

وسيكون من الطبيعي بالنسبة لقارة توصف بالهشاشة والتخلف المذكورين، وبهذه الأهمية المتزايدة والمتصاعدة، أن تتوجه إليها اهتمامات القوى الدولية المتنافسة، وهو ما تترجمه القمم المتتالية مع أفريقيا، ومن ذلك: القمة الفرنسية الأفريقية، والقمة الصينية الأفريقية، والقمة الأميركية الأفريقية، والقمة الروسية الأفريقية، والقائمة تطول، دون إغفال المحاولات الإسرائيلية.

النفوذ الاستعماري التقليدي

حاول الكاتبان أنطوان كلازير وستيفن سميث، في كتابهما "كيف خسرت فرنسا أفريقيا؟" أن يتتبعا الخطوات الفرنسية إهمالا واستغلالا وتدخلا، التي أدت إلى خسارة باريس لقدر من نفوذها في قارة كانت تعد على نطاق واسع حديقتها الخلفية وفضاء رحبا للغتها ومصالحها.

إعلان

ومع تقاسم النفوذ مع بريطانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى في أفريقيا، ركزت فرنسا جهودها في هذه القارة وعملت على ربطها بها اقتصاديا وثقافيا وعسكريا وحتى قانونيا.

ورغم التراجع الذي لاحظه الكاتبان، فقد اعتبرت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا -في حوار داخل البرلمان نهاية عام 2023- أن العلاقات مع أفريقيا تتطور وتتوسع، وأن حضور بلدها يتمدد لدول أفريقية لم تكن تقليديا في دائرة الأولويات الفرنسية، كما حدث مع نيجيريا التي تضاعفت الاستثمارات الفرنسية فيها خلال 10 سنوات، كما أن الوجهة الأولى للطلاب الأفارقة ما زالت هي فرنسا.

ولم يعد عدد من القادة الأفارقة يخفي تحفظه من الدور الفرنسي، ويرى أنه لم يعد يلائم قارة تريد أن تكون شريكا لا تابعا، وطرفا محترما لا مستعمرا سابقا.

ولا يمكن إغفال بريطانيا التي كانت تستعمر عددا من أهم الدول الأفريقية، ولكن أفولها وتوجهها نحو آسيا وارتباطها بالولايات المتحدة -أكثر من بقية أوروبا- جعلها تزهد في هذه القارة وتتركها غالبا لفرنسا.

غير أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتفرغها لاستعادة بعض عظمتها، وحاجة الغربيين لها في أفريقيا -بعد الدخول القوي للصين وروسيا وتركيا– دفع البريطانيين إلى إحياء وجودهم في هذه القارة وتقوية نفوذهم فيها.

وتنضم إلى القائمة كل من إسبانيا وإيطاليا وبلجيكا ومعهم ألمانيا وسويسرا، فكل هذه الدول أبدت وتبدي اهتماما يتزايد بأفريقيا.

نفوذ غير أوروبي

وإلى جانب القوى الاستعمارية التقليدية، تأتي القوى الدولية الكبرى التي سارعت إلى العودة بالتركيز على الاقتصاد والتنمية مثل الصين، أو بالتركيز على الاقتصاد والأمن والسياسة مثل الولايات المتحدة، أو سارعت إلى الدخول والتمدد بالتركيز على الجوانب العسكرية والأمنية مثل روسيا.

ولم تكن الصين غائبة عن أفريقيا، بل إنها حضرت فيها سياسيا أيام حركات التحرر ومطالب الاستقلال، وحضرت ببعض الدعم التنموي الذي تبرز معالمه في بعض العواصم الأفريقية شاهدا على رد جميل أفريقيا التي لم تبخل بما تستطيعه من إسناد للقضية الصينية.

ولا يختلف اثنان على الدخول القوي للصين قارة أفريقيا، والظاهر أنها تعطي للبعد الاقتصادي والتنموي والاستثمار في البنى التحتية الأهمية الأكبر، فنالت بذلك قدرا من القبول.

وبلغ التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا 282 مليار دولار عام 2023، وارتفع خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024 إلى 167 مليارا في مؤشر واضح على تصاعده.

وتجتهد بكين حتى الآن ألا تُظهر أهدافها السياسية الكبرى، وإن بدا أن إستراتيجيتها -ليس في أفريقيا فقط- تقوم على التدرج والتراكم وبناء ميزان قوة مكتمل، يسمح لها حينها بتوضيح كل أجندتها.

ولم تكن الولايات المتحدة تضع أفريقيا في مقدمة أولوياتها الإستراتيجية، وإن ظلت حاضرة ومهتمة، ولكن بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، صعدت أفريقيا إلى مقدمة التخطيط الأميركي فأنشئت أفريكوم عام 2007، وأصبح الوقود الأفريقي يمثل ربع الواردات الأميركية، ووصل الدعم لهذه القارة 7.5 مليارات دولار بحلول 2008.

أما ثالث القوى الدولية الكبرى الداخلة بقوة إلى أفريقيا فكانت روسيا، ويأتي دخولها ضمن التوجه الإستراتيجي للرئيس فلاديمير بوتين والمصر على إعادة السوفيات عبر الباب الأمني والعسكري، إن خذلته القدرات الاقتصادية الكبيرة.

إعلان

ومثّلت القمة الروسية الأفريقية -التي عقدت في أكتوبر/تشرين الأول 2019- انطلاقة مهمة في الشراكة مع القارة حيث وقعت 50 وثيقة بنحو 800 مليار روبل (12.5 مليار دولار).

تركيا رفعت تمثيلها الدبلوماسي بأفريقيا وعقدت عددا من القمم المشتركة مع دولها (الأناضول) نفوذ القوى الصاعدة بأفريقيا

وإلى جانب القوى الاستعمارية التقليدية، والقوى الدولية الكبرى، توجد قوى صاعدة بعضها متقدم في التصنيفات الدولية عسكريا واقتصاديا، مثل اليابان والهند وتركيا والبرازيل وكوريا الجنوبية والسعودية وغيرها.

ولعل اليابان أول دولة نظمت لقاء اقتصاديا مع القارة الأفريقية عُرف بـ"تيكاد" عام 1993، ويبدو أنه هو الذي ألهم القوى الأخرى بفكرة القمم الاقتصادية مع أفريقيا.

وتمتاز الشراكة الهندية الأفريقية بالشمول والتنوع، إذ عُقدت 3 قمم مشتركة -حتى الآن- في مجالات: الزراعة والأمن الغذائي والصحة والتعليم وتكنولوجيا المعلومات والتغير المناخي والاقتصاد الأزرق.

وكانت استثمارات الهند في أفريقيا قد بلغت عام 2018 ما يقدر بـ63 مليار دولار، وتوجّه نسبة 21% من استثماراتها الخارجية إلى هذه القارة، إلى جانب المناورات العسكرية الهندية الأفريقية.

أما تركيا فقد حققت طفرة كبيرة في التوجه نحو أفريقيا وأسواقها. وذكرت مجلة "جون أفريك" الفرنسية أن أنقرة أقامت شبكة من الكيانات الخادمة لهذه العلاقة، فهناك القمم التركية الأفريقية، ومنتديات رجال الأعمال، وفرق الصداقة البرلمانية مع 50 دولة في أفريقيا، مقابل 39 مع آسيا، و36 مع أوروبا، كما أن لتركيا 44 سفارة في هذه القارة مقابل 12 كانت مسجلة عام 2009.

ومع عودة الرئيس لولا دا سيلفا إلى قيادة البرازيل، انتعشت العلاقات البرازيلية الأفريقية بعد أن أصابها فتور وتراجع في عهد سلفه، وكان المنتدى البرازيلي الأفريقي، المنعقد عام 2023 في ساو باولو، فرصة لتطوير الشراكة والاستثمارات، وفيه أعلنت البرازيل أن الأولوية بالنسبة لها عام 2024 ستكون أفريقيا.

وليس الأمر مقصورا على هذه الدول، فالمحاولات الإسرائيلية ما فتئت تتجدد للتأثير في أفريقيا، وتوسيع العلاقات مع دولها حتى بلغ بها الأمر للسعي لأن تكون عضوا مراقبا بالاتحاد الأفريقي، وهو ما كاد يتحقق لولا المعارضة القوية من مجموعة من الدول تتقدمها الجزائر وجنوب أفريقيا.

ولإسرائيل علاقات مع 40 دولة أفريقية، 36 منها في منطقة جنوب الصحراء، كما فتحت 15 سفارة حتى الآن، وزارها بعض الرؤساء الأفارقة.

التحديات والفرص

يبدو من خلال الاستعراض السابق أن التحديات الناجمة عن هذا التنافس الواسع على أفريقيا كثيرة ومتنوعة:

أولا: التحديات ذات الطابع العسكري والأمني: فنحن نتحدث عن عدد كبير من الدول بأجهزتها الأمنية وقواعدها العسكرية وبرامج الشراكة السيبرانية والاستخباراتية، وكل هذا في قارة حكمنا عليها بالهشاشة، ووصفناها بالفقر والتخلف. فالخطر قائم، والقدرات الخاصة بأغلب الدول الأفريقية ليست مؤهلة لتحويل هذا التعاون العسكري والأمني إلى فرصة تستفيد منها تكوينا وتأهيلا وعلاقات، وتقلل هامش الاختراق والإضرار.

ثانيا: التحديات الاقتصادية والتنموية: ومع أن برامج الشراكة والتعاون، مع أغلب القوى المتنافسة، توفر دعما وتطورا للتنمية في أفريقيا، إلا أن عيون هذه القوى ما زالت منصبة على خيرات وثروات القارة، وستحرص من خلال الاتفاقيات المختلفة على أكبر هامش لاستغلال هذه الثروات حالا ومضاعفة ذلك الاستغلال مآلا، وعادة ما يوظف بعض الشركاء ضعف الحكام الأفارقة وإشكالية شرعيتهم، وقد ينجحون في ذلك.

ثالثا: التحديات الثقافية والاجتماعية: إذ يثور النقاش كل مرة حول القضايا الاجتماعية والمسائل الثقافية خصوصا مع الأوروبيين الذين لا يدركون خصوصيات المجتمعات ويصرون على عولمة قيمهم، ودون ذلك الأميركيون، أما الصين وروسيا وجهات أخرى فالتحدي الثقافي أخف وأقل ضجيجا.

إعلان

رابعا: التحدي الوحدوي: ذلك أنه لأفريقيا خلافاتها، ولكل منطقة مشاكلها الخاصة، بل لكل دولة اهتمامات وتحديات تخصها، ولكن نجاح القارة في التطوير النسبي للاتحاد الأفريقي، وشعور الكثيرين حكاما ونخبة بأهمية الوحدة الأفريقية خاصة عند التعامل مع الآخرين، جعل الخلافات تخف وفتح الباب أمام حضور أكبر للاتحاد الأفريقي في مشاكل القارة.

خامسا: تحدي الإغراء وضعف الندية: ذلك أن كثرة المتنافسين، ووفرة برامج التعاون وتعدد أشكال الدعم، لا يشجعان على الاعتماد على الذات، ويحدان من الطموح في التطور الذاتي، فأمام ما يوفر لأفريقيا أو يصدر إليها، وأمام هذا التنوع في الداعمين والمستثمرين، لن تتطور الصناعات والصناعات النوعية بالذات، ولن تسارع دولها نحو ما يضمن الاستقلال الحقيقي الذي يجعلها شركاء وأندادا بل منافسين.

سادسا: تحدي غياب الحلم: حسب تعبير الأستاذ في جامعة كولومبيا المؤرخ السنغالي ممادو ديوف، وذلك حين علَّق على الصعوبات الاقتصادية في الدول الأفريقية بقوله "لكن وبعيدا عن الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها دولنا، فإن الذي لا يحتمل هو هذا الغياب المزمن للحلم".

 

[يمكنكم قراءة الورقة التحليلية كاملة عبر هذا الرابط]

مقالات مشابهة

  • قارة غنية مستغلة.. أفريقيا بين فرص الشراكة وتحديات المكانة
  • إزالة 1883 حالة تعدٍ بالبناء المخالف على أملاك الدولة ببني سويف
  • محافظ بني سويف: إزالة 1883 حالة تعد على أراض أملاك الدولة وزراعية
  • رئيس هيئة الدواء: مصر تستحوذ على 23 مليار دولار من سوق أفريقيا ونحقق 91% اكتفاء ذاتيا
  • اتفاقية بين وكالة الانباء الليبية و”أنسا” لتعزيز التعاون الإعلامي بين ليبيا وإيطاليا
  • لنقي: “اجتماع برلين 3” غير رسمي ويهدف إلى بناء توافق دولي بشأن ليبيا
  • صور.. إزالة واسترداد 22 حالة تعد على أراضي أملاك الدولة بإسنا في الأقصر
  • إزالة 58 حالة تعد على أملاك الدولة بالشرقية
  • برلماني: تقدم مصر في جذب الاستثمارات يؤكد فعالية الشراكة بين القطاعين العام والخاص
  • صناعة النواب: تصدر مصر لقائمة الدول الإفريقية بجذب الاستثمارات يعكس قوة الاقتصاد الوطني