جريدة الرؤية العمانية:
2025-06-24@23:53:51 GMT

انجُ بنفسك

تاريخ النشر: 24th, June 2025 GMT

انجُ بنفسك

 

 

سلطان بن محمد القاسمي

لا يزال الإنسان يظن أنَّ النجاة تعني أن تمد له يد من الخارج، أن يأتيه من يخرجه من عمق التيه، أو يوقظه من غفلة طال أمدها، في حين أن أول النجاة تبدأ حين ينهض من داخله، حين يمسك بزمام روحه، ويقول لها: كفى، لا يليق بك هذا الانحدار، ولا يليق بك هذا الكم من التجاهل لذاتك.

وقد قال الله تعالى: ﴿وأنفقوا في سبيل اللَّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ (البقرة: 195)، وهو نداء قرآني عظيم يعلمنا أن ترك النفس في مواضع الضرر دون محاولة الخروج منها هو من التهلكة، وأن النجاة مسؤوليتك، لا مسؤولية غيرك.

وفي الحديث الشريف، يقول النبي- صل الله عليه وسلم-: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق" (رواه الترمذي). وهذا المعنى يعيد ترتيب أولوياتنا، فليس من القوة أن تتحمل ما لا يُطاق؛ بل من الحكمة أن تدرك متى تغادر، ومتى تنقذ نفسك.

فحين أصبحت المشاعر عملة متداولة في أسواق النفع، تساوم وتقايض كأنها لا تحمل وزن الروح، وحين باتت الأرواح تستنزف في حفلات التجمل الإجباري خلف أقنعة المجاملة وتكاليف التواجد، لم يعد إنقاذ النفس ترفا مؤجلا، بل ضرورة ملحة. ولم يعد الحفاظ على نقاء القلب خيارًا ناعمًا؛ بل عبادة صامتة، وفريضة باطنة تمارس في خفاء، حماية للروح من الانطفاء، وضمانا لبقائها حية وسط زيف الشعور، وكثرة المتقنين لفن الادعاء.

انجُ بنفسك من أماكن تطفئك، ومن أشخاصٍ يستهلكون ضوئك ليزدادوا بريقا، ومن أدوار أُلزمت بها دون أن تناسبك. انجُ من محادثات تشعر بعدها أنك بلا طاقة، ومن جلسات تُسفّه أحلامك، وتقلل من رؤيتك، وتعيدك في كل مرة إلى الخلف وأنت تبتسم مجاملة.

انجُ بنفسك من نفسك، من صوت داخلي يجلدك ليل نهار، من شعور مزمن بالذنب لأنك فكرت أن ترتاح، أو أنك قررت أن تنصت لصوتك لا لصوت الآخرين.

ولنا في التاريخ عبرة. ألم يكن يوسف عليه السلام في قصر العزيز؟ في مكان تغدق فيه النعم، وتُقدَّم فيه المناصب، ومع ذلك قال قولته المشهورة: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف: 33). السجن كان في ظاهره ألمًا، لكنه في باطنه نجاة؛ لأن البقاء في مكان يغتال القيم ويهدد الطهارة أشد خطرا من ظلمة الزنزانة. وهذه هي النجاة الحقة: أن تختار ما يبقي روحك حية ولو كلفك ذلك عزلة مؤقتة أو طريقًا شائكًا.

وفي سيرة النبي- صل الله عليه وسلم- ما يُدهشك ويُلهمك؛ إذ خرج من مكة وهي أحب البقاع إليه، لأنها لم تعد تشبهه، لم تعد تتسع لرسالته؛ فاختار الهجرة لا فرارًا؛ بل بقاء للرسالة. لقد نجا بنفسه وبمن آمنوا معه، ليؤسسوا في المدينة وطنًا جديدًا، وميلادًا مختلفًا، وتاريخًا عظيمًا.

وحتى في زماننا، نرى من اختاروا النجاة على حساب الاعتياد، من نهضوا من بين الركام وقرروا ألا يكونوا ضحية لما اعتادوه. هناك من خرجوا من وظائف تآكلت فيها أحلامهم بصمت، ومن صداقات كانت أشبه بعبء يومي يثقل صدورهم كلما حاولوا الابتسام، ومن علاقات تُطفئ ببطء أنوار قلوبهم، حتى كادوا ينسون كيف يبدو وهجهم.

نسمع عمَّن غادروا مدنا بأكملها لا لكرهها، بل لأنهم لم يعودوا يرون أنفسهم فيها. ومنهم من غير عاداته كلها، كمن يغسل روحه من ماضيه، أو أعاد ترتيب تفاصيل حياته كما يرتب أحدهم مكتبا ظل يعاني من الفوضى طويلا، ثم جلس أخيرا ليمنحه النظام الذي يستحقه.

وهناك من لم يهاجر خارجيًا؛ بل خاض هجرته الكبرى داخله، من قاطع جلسات لم يعد فيها شيء يبقيه، واعتذر عن تواجد بلا جدوى، وسحب نفسه من مواقف ترهق روحه في كل مرة.

أحدهم كان يعيش في صخب المجتمع، مُحاطًا بالناس، لكنه كل يوم يعود لبيته أكثر فراغًا. قرر أن يبتعد، أخذ إجازة مفتوحة من كل شيء. هاتفه مُغلق، حساباته في سُبات، واختلى بنفسه. بعد شهور عاد، لكنه لم يعد كما كان؛ عاد ناضجا، صافيا، متصالحا مع ذاته، يعرف حدوده، يختار من يحب، ويبتعد بلباقة عن كل ما يثقله. لم يكن تغيره مفاجئا، كان فقط استجابة لنداء واحد: "انجُ بنفسك".

النجاة هنا لا تعني أن تكون قاسيًا، ولا أن تنغلق، ولا أن تقطع كل شيء، النجاة أن تعرف متى تتوقف، ومتى تقول لا، ومتى تعيد رسم حدودك، وتبني حياة تشبهك، لا تستهلكك.

وإن أعظم الانتصارات ليست تلك التي تصفق لها الجموع؛ بل تلك التي تُعلنها داخلك، بصوتٍ لا يسمعه أحد. تلك اللحظة التي تنتشل فيها ذاتك من غرقٍ صامت، وتنهض من ركامك دون ضجيج، لأنك ببساطة أدركت أن البقاء في المكان الخطأ هو الفقد الحقيقي، وأن الاستمرار فيما يُطفئك هو الخسارة التي لا تُعوّض.

أن تنجو، لا لأن أحدًا مَدَّ لك الحبل؛ بل لأنك قررت أن لا تُكمل الغرق، لأنك اخترت الحياة من جديد بثمنٍ لم يدفعه سواك، وبوعي لم يكتبه أحد لك، سوى قلبك.

انجُ بنفسك.. لأنك حين تفعل، تبدأ الحكاية من جديد، ولكن هذه المرة، بيديك.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

تحذير دولي: التصعيد العسكري في الشرق الأوسط يهدد باندلاع "حرب تداعياتها لا رجعة فيها"

حذرت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بعد الضربات الأميركية على مواقع نووية إيرانية، بأن التصعيد العسكري في الشرق الأوسط يهدد باندلاع « حرب تداعياتها لا رجعة فيها ».

وقالت ميريانا سبولياريتش في بيان أن « تكثيف العمليات العسكرية الكبرى في الشرق الأوسط وتوسيع نطاقها يهددان بإغراق المنطقة والعالم في حرب تداعياتها لا رجعة فيها ».

من جانبها، دعت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس الأحد، الى « تفادي مزيد من التصعيد » عقب الضربات الأميركية على منشآت نووية إيرانية، مشيرة الى أن كبار دبلوماسيي التكتل سيبحثون الوضع الاثنين.

وكتبت كالاس على منصة إكس « لا يجب السماح لإيران بتطوير سلاح نووي لأن ذلك سيشكل تهديدا للأمن العالمي ».

ودعت « كل الأطراف الى التراجع خطوة الى الوراء، العودة الى طاولة المفاوضات وتفادي مزيد من التصعيد ».

وأضافت أن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي سيناقشون الوضع الإثنين.

وكان من المقرر أن يجري وزراء خارجية التكتل الذي يضم 27 دولة محادثات في بروكسل الاثنين تتناول قضايا عدة من حرب روسيا في أوكرانيا إلى الحرب في قطاع غزة، لكن بات من المتوقع أن تهيمن إيران على المباحثات.

وشاركت كالاس إلى جانب وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا في محادثات مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في جنيف الجمعة.

وحضت القوى الأوروبية طهران على مواصلة الجهود الدبلوماسية مع الولايات المتحدة لإيجاد حل للأزمة المتعلقة ببرنامجها النووي.

وأكد عراقجي أن بلاده مستعدة « للنظر » في العودة الى المسار الدبلوماسي « ما أن يتوقف العدوان » الاسرائيلي عليها.

وبدأت إسرائيل حملة قصف غير مسبوقة على إيران في 13 حزيران/يونيو طالت على وجه الخصوص مواقع عسكرية ونووية. وترد طهران بإطلاق صواريخ ومسي رات على إسرائيل، وتوعدت بالرد في حال انضمت واشنطن للحرب.

 

 

 

كلمات دلالية اسرائيل الحرب السلاح النووي امريكا ايران

مقالات مشابهة

  • توحيد الصف الخليجي.. طوق النجاة
  • منصة قوى توضح الحالات التي لا يجوز فيها نقل الموظفين غير السعوديين
  • في محكمة الأسرة.. حالات يجوز فيها رفع دعوى طلاق للضرر
  • علي جمعة: ابدأ بنفسك دعوة للإصلاح في زمن الغربة على نهج رسول الله ﷺ
  • آبل غاضبة من ملصقات تكشف تفوق هواتف منافسة بسبب منهجية اختبار مشكوك فيها
  • 3 حالات يحق فيها للمالك طرد المستأجر بقانون الإيجار القديم
  • نشر أولى صور مرصد فيرا روبين لمجرات بعيدة ومناطق تكوّنت فيها النجوم
  • صلاة الضحى.. اعرف وقتها وعدد ركعاتها والسور التي تقرأ فيها
  • تحذير دولي: التصعيد العسكري في الشرق الأوسط يهدد باندلاع "حرب تداعياتها لا رجعة فيها"