جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-16@18:44:08 GMT

الأحياء التخليقية.. نماذج بشرية

تاريخ النشر: 16th, December 2024 GMT

الأحياء التخليقية.. نماذج بشرية

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

 

يطرحُ بعض المُراقبين تحديات اجتماعية من المُتوقع أن تُوَاجِه البشرية جرّاء السماح بتطبيق تقنيات الأحياء التخليقية على البشر؛ إذ يُشيرون إلى مشكلة عدم تكافؤ الفرص؛ لأنَّ الأفراد في الدول المُتقدِّمة والمُتمكِّنة اقتصاديًا سيحصلون على فرص كبيرة لإجراء هذه التغييرات، بينما سيُحرم الأفراد في الدول الفقيرة من ذلك؛ وسيؤدِّي ذلك إلى فوارق جِينِيَّة على المستوى البشري؛ فهناك بشر لديهم جينات قوية وأكثر قدرة على التأقلم مع البيئة ومقاومةً للأمراض، بينما هناك آخرون لا يملكون مثل هذه الجينات المُتطوِّرة، وسيؤدي ذلك إلى أبشع صور الاستغلال!

ومما يزيد من فرص حدوث هذا النوع من الفوارق الجينية أنَّ عددًا من الدول الغنية كالسويد والنرويج والدنمارك، قد تسمح باستخدام هذه التقنيات وتنتشر في مجتمعاتها بشكل أسرع؛ وذلك لانعدام القيود الدينية تقريبًا في تلك المجتمعات الغنية.

ولا بُد من الإشارة إلى أنَّ عمليات اختيار الأجنة بناءً على الخارطة الجينية للجنين، أصبح معمولًا به في عدد من الدول، ويُوَفِّرُه عددٌ من الشركات المُتخصِّصة في مجال قراءة الخارطة الجينية؛ فعملية التخصيب الصناعي في العادة تؤدي إلى تخصيب عدد من البويضات، وبالتالي ومن خلال قراءة الخارطة الوراثية لتلك الأجنة المُتكوِّنة، يتم اختيار الجنين الأصلح، والذي يتميز بخارطة جينية أفضل.

ولا يقتصر الأمر على هذا النوع من البحوث العلمية؛ بل هناك من البشر من جرت "هندسته جِينِيًّا"، لكن هذه العمليات ما زالت محدودة من حيث أعدادها، ولا يُعرَف آثار هذه العمليات، فمثلًا هناك تقنية تُعرف بتقنية الآباء الثلاثة، وقد تمت هذه العملية بنجاح في عام 2016، لزوجيْن أردنيين؛ إذ كانت الزوجة مُصابة باضطراب وراثي يُعرِّض الجنين لاحتمال الإصابة بمرض مُعين بنسبة عالية جدًا، ولحماية الجنين من الإصابة بهذا المرض الوراثي تم أخذ النواة من بويضة الأم المصابة بالمرض الوراثي، ونقَلها إلى بويضة امرأة سليمة سبق نزع نواتها، وبذلك غدت هذه البويضة تحملُ صفاتٍ من امرأتين مختلفتين، وبعد ذلك تمَّ استخدام هذه البويضة في التلقيح الصناعي، وقد تمَّت العملية بنجاح في المكسيك؛ وذلك لأنها لم يكن مسموحاً بها في الولايات المتحدة.

وكما هو واضح فإنَّ نسبة من الجينات- وإن كانت بسيطة للغاية والتي تُقدَّر بأنها أقل من 0.1%- جاءت من الأم المُتبرِّعة بالبويضة، ولذا تُطلق على هذه التقنية "تقنية الآباء الثلاثة"، وقد استُخدِمَت بنجاح أيضًا في بريطانيا عام 2023.

لكنَّ الحدث الأكثر خطورةً وإثارة كان في الصين، وذلك عام 2018، عندما أعلن الطبيب الصيني ولادة أول طفلتين تم هندسة خارطتهما الجِينِيَّة، وذلك بهدف حمايتهما من مرض "الآيدز" الذي كان الأب مُصابًا به، وقد أدّى هذا الإعلان إلى موجة من الشجب والاستنكار، كما تم حبس الطبيب لمدة 3 سنوات لإقدامه على عمليات غير مُرخَّص لها، لكنَّ الطفلتين وُلِدَتَا وهُمَا بكامل صحتهما، وتُعدان أول طفلتين تعرضتا لهندسة جينية وتغيير جيني كبير نسبيًا.

وتُشير بعض الدراسات إلى أن الجينات التي تم هندستها تؤثِّر أيضًا على القدرات الدماغية لهما؛ إذ تقوم بتحسين ذاكرتهما، وترفع مستوى الذكاء عند الطفلتين، وما زالت الطفلتان على قيد الحياة وتعيشان مع أسرتيهما.

إنَّ طبيعة هذه التقنيات أنها تنتشر، بغض النظر عن الحواجز الموضوعة أمامها. وعلى الرغم من المحاولات التي بذلتها الدول المختلفة لمنع انتشار السلاح النووي، إلّا أن هذه المحاولات لم تنجح، وانتشرت هذه الأسلحة. وكذلك الحال مع الأسلحة البيُولوجية والكيميائية، ولذا فإن الوقوف أمام أمواج التقنيات التي تغزو عالمنا لا يُجدي نفعًا في غالب الأحيان.

ومن هُنا، يرى البعض أن اختراع التقنيات وتطويرها لم يَعُد التحدي الذي يواجه البشرية، إنما التحدي يكمُن في السيطرة على التقنيات، بحيث تظل في مجالات مُعيَّنة تُفيد المجتمعات البشرية ولا تضرُّها، وهذا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بثقافة المجتمعات التي تُطوِّر التقنيات والمبادئ والقيم التي تُؤمِن بها، ومن هُنا فإن التقنيات التي يتم إنتاجها في الغرب إنما هي نتاج الثقافة والقيم الغربية، لكنها تؤثر بشكل كبير جدًا على سلوكنا وعلى طريقة تفكيرنا، بحيث غدت أجيالنا اليوم نتاج هذه التقنيات سلوكًا وتفكيرًا، بقدر كَوْنِ هذه التقنيات منتجات لعقول البشر التي انتجتها.

وأخيرًا.. من الخطأ النظر إلى هذه البحوث العلمية على أنها تَرَفٌ فكريٌ؛ بل هي بحوث سيكون لها بالغ الأثر علينا في المستقبل القريب، ولربما ستغدو جزءًا من الاستراتيجية الأمنية لبعض الدول؛ إذ بدلًا من استخدام الآلة الحربية للتخلص من الأعداء، فإنَّ التقنية الحيوية قد تُوفِّر بديلًا طبيعيًا ودون الحاجة إلى خوض حروب طاحنة، ولذا رُبما نشهد في هذا القرن نهاية الانسان بنسخته الحالية؛ لتُنتَج منه نسخةٌ مُطوَرةُ من فصيل "الإنسانيات"، لكن هذه المرة بانتخابٍ بشريٍ وبأجندة سياسية لا بانتخاب الطبيعة!

* سلسة من المقالات عن تاريخ علوم الحياة وحاضرها وفلسفتها والتقنيات القائمة عليها

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مختصان لـ"اليوم": مبالغ المشاهير الخرافية تشوّه مفهوم النجاح وتربك وعي الشباب

أكد مختصون في علم النفس والتربية أن اهتمام الجمهور المتزايد بأرقام دخل المشاهير ليس أمرًا عابرًا، بل يعكس دوافع نفسية متجذرة أبرزها الفضول والمقارنة الاجتماعية، والتي تبدأ منذ الطفولة وتستمر مدى الحياة.
وأوضحوا في حديثهم لـ"اليوم" أن هذا الفضول الفطري يدفع الأفراد لمتابعة تفاصيل حياة المشاهير، فيما تسهم المقارنة الاجتماعية في تغذية شعور داخلي بعدم الرضا، خاصة عندما تُطرح أرقام خيالية تُربط بالنجاح والثروة. كما حذروا من خطورة هذا المحتوى على الشباب، لما له من آثار نفسية وسلوكية تمتد إلى تشكيل قناعات خاطئة وتقليد أنماط غير واقعية، داعين إلى دور توعوي أكبر من الإعلام والمجتمع لتوجيه البوصلة نحو نماذج حقيقية أكثر قيمة وصدقًا.
أخبار متعلقة حج 1446هـ .. وصول أولى رحلات ضيوف الرحمن من الجزائرالقبض على 7 مهربي ومروجي مخدرات في منطقتينالفضول وحب الاستطلاع
وأكد أستاذ علم النفس البروفيسور محمد بن مترك القحطاني، أن اهتمام الجمهور بالأرقام التي تُنشر حول دخل المشاهير يعود إلى دافع نفسي متجذر في الإنسان يُعرف بـ"دافع الفضول وحب الاستطلاع"، مشيرًا إلى أنه دافع يظهر منذ مرحلة الطفولة ويستمر طيلة حياة الفرد.د .محمد بن مترك القحطانيالقحطاني
وأوضح أن هذا الدافع يدفع الأشخاص للسعي إلى معرفة تفاصيل حياة الآخرين، خاصة المشاهير، من باب إشباع حاجة داخلية فطرية للمعرفة.
ولفت القحطاني إلى أن هذا الفضول يبدأ مبكرًا؛ فالطفل يركض نحو الباب لمجرد سماع صوت طرقه، أو يرفع سماعة الهاتف دون طلب من أحد، وهو السلوك ذاته الذي يفسر انجذاب البالغين لمتابعة حياة المشاهير وتفاصيل دخولهم ونمط معيشتهم.
وأشار إلى أن هذه الممارسات تنبع من الرغبة في الفهم والاطلاع، وهي حاجة نفسية يشارك فيها الجميع بدرجات متفاوتة. وأضاف أن "المقارنة الاجتماعية" تعد أحد المحركات الرئيسة لهذا الاهتمام، إذ يميل الفرد بطبيعته إلى قياس وضعه مقارنة بالآخرين، وخاصة أولئك الذين يعيشون حياة الرفاهية والشهرة.
المشاهير وسيلة ترفيه
وبين أن بعض الأفراد ينظرون إلى المشاهير كوسيلة للترفيه، بينما يرى آخرون فيهم نماذج مثالية يسعون لمحاكاتها، سواء في الشكل أو السلوك أو أسلوب الحياة.
وحذر القحطاني من أن نشر أرقام خيالية عن دخول المشاهير يخلق تصورات مشوشة وغير واقعية حول مفهومي النجاح والثروة، موضحًا أن بعض الشباب قد يشعر بالإحباط أو حتى الانكسار عندما يدرك صعوبة تحقيق تلك النجاحات، مما يؤثر على سلامته النفسية وثقته بذاته.
وبيّن أن النفس البشرية تنجذب بطبعها إلى الأمور غير المألوفة، سواء كانت أصواتًا مرتفعة أو أحداثًا مفاجئة، وهذا ما يفسر انجذاب الجمهور للأرقام الفلكية المتداولة حول المشاهير، حيث تثير هذه الأرقام الخيال وتغذي روح المغامرة الكامنة في الإنسان.
التأثر بالمشاهير يغير سلوك المستهلك
وأشار إلى أن سلوك المستهلك يتأثر مباشرة بتصوراته عن المشاهير، موضحًا أن ظهور أحدهم وهو يروّج لمنتج معين يمنح المتابعين انطباعًا ضمنيًا بجودة المنتج. وأضاف أن كثيرًا من القرارات الشرائية، خصوصًا بين الشباب، تنطلق من هذا الارتباط النفسي بين شهرة المروج وقيمة ما يقدمه.
وشدد البروفيسور القحطاني على أهمية الدور التوعوي الذي يجب أن تضطلع به وسائل الإعلام، بمختلف أشكالها، إلى جانب المؤسسات التعليمية وأولياء الأمور، في تعزيز التفكير النقدي لدى النشء، وتحصينهم من تصديق كل ما يُعرض في الإعلام أو عبر المنصات الرقمية على أنه واقع مسلم به.
مسؤولية أخلاقية
وأشار إلى أن المسؤولية الأخلاقية تقع أيضًا على عاتق المشاهير أنفسهم، من خلالرباب أبو سيف رباب أبو سيفالطريقة التي يقدّمون بها ثرواتهم وحياتهم للجمهور، مؤكدًا أن الأجيال الصغيرة تكتسب سلوكياتها من خلال ما يُعرف في علم النفس بـ"التعلم بالنمذجة"، حيث يتأثر الفرد بالنموذج الذي يشاهده ويعيد إنتاجه في حياته الخاصة.
وأوضح أن هذا التقليد قد لا يتوقف عند المظاهر السطحية مثل قصة الشعر أو أسلوب اللباس، بل يمتد إلى تبني قناعات وسلوكيات معينة، ما يعزز الحاجة إلى أن يكون النموذج قدوة حقيقية في القيم والمبادئ. ووجّه القحطاني دعوة صادقة إلى الشباب والمراهقين، بل وإلى الكبار أيضًا، لاختيار نماذج إيجابية يحتذون بها.
وأشار "القحطاني" إلى أن الإسلام يزخر بشخصيات عظيمة يُمكن أن تُشكّل مصدر إلهام حقيقي، وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، والسلف الصالح.
وأكد أن هذه النماذج تقدم دروسًا إنسانية رفيعة في الصدق، والكرم، والاحترام، والعطاء، وهي القيم التي يجب أن تُزرع في نفوس الجيل الجديد لتشكل درعًا واقيًا من التأثر السلبي بالمحتوى الإعلامي المضلل.
أزمة المقارنة الاجتماعية
من جهتها قالت أكدت أخصائية التربية الخاصة رباب أبو سيف أن الاهتمام المتزايد بأرقام دخول المشاهير على منصات التواصل الاجتماعي ليس محض فضول عابر، بل يرتبط بآليات نفسية عميقة، أبرزها "المقارنة الاجتماعية"، التي تدفع الأفراد إلى قياس مكانتهم بناءً على نجاحات الآخرين، خاصة من نالوا الشهرة والثروة.
وأوضحت أن هذا النمط المتكرر من المحتوى قد يُحدث تشويشًا في المفاهيم، حيث يصبح المال هو المعيار الوحيد للنجاح، ويُغفل جانب الاجتهاد والعمل الحقيقي، ما ينعكس سلبًا على الرضا الذاتي، لا سيما عند مقارنة الأفراد لدخولهم المحدودة بأرقام خيالية يتم تداولها على نطاق واسع.
وأضافت أن هذه الظاهرة لا تقتصر آثارها على الجانب النفسي فقط، بل تمتد إلى السلوك الاستهلاكي، إذ ينجذب الكثيرون لاقتناء المنتجات التي يروج لها المشاهير في محاولة لمحاكاة نمط حياتهم، وهو ما تستغله الحملات التسويقية التي تصنع صورة زائفة للنجاح السهل.
وحذّرت أبو سيف من التأثيرات السلبية لهذه الرسائل على فئة الشباب، ومنها الشعور بالإحباط، وضياع القيم، وتقليد أنماط حياتية تفوق إمكاناتهم، مشددة على أهمية بناء محتوى توعوي حقيقي يكشف زيف هذه الأرقام، ويعيد تصويب البوصلة نحو نماذج نجاح أكثر واقعية ومصداقية.
واختتمت حديثها بالتأكيد على أن بعض الأفراد قد يقعون في فخ تصديق الأرقام المبالغ فيها تحت تأثير الجماعة أو للهروب من الواقع، مطالبة المشاهير بتحمل مسؤولياتهم الأخلاقية والشفافية مع جمهورهم، خاصة من فئة المراهقين، لأن النجاح الحقيقي لا يُقاس بالأموال فحسب، بل بالأثر الإيجابي والتميز الحقيقي.
التوصيات
تعزيز التفكير النقدي لدى النشء عبر المناهج التعليمية والإعلام التوعوي.
توجيه الإعلام لصناعة محتوى واقعي ومتوازن بعيدًا عن تضخيم الثروات.
دعوة المشاهير للتحلي بالشفافية وتحمل مسؤولياتهم الأخلاقية تجاه جمهورهم.
تحفيز الشباب على اختيار قدوات إيجابية من التاريخ والدين والمجتمع.
توعية الأهل والمعلمين بأهمية توجيه الأبناء نحو قيم العمل والاجتهاد.
ربط مفاهيم النجاح بمعايير جوهرية مثل الإنجاز والأثر المجتمعي لا الثروة فقط.
تحذير الجمهور من الوقوع في فخ الدعاية المضللة المربوطة بالمشاهير.
دعم مبادرات الإعلام الهادف التي تسلط الضوء على نماذج نجاح حقيقية.
تنظيم حملات توعوية للكشف عن زيف بعض الأرقام المتداولة.
تشجيع الشباب على بناء هويتهم بعيدًا عن تقليد أنماط لا تناسب واقعهم.

مقالات مشابهة

  • السيطرة على حريق في محل كهرباء بشبين القناطر دون خسائر بشرية
  • السيطرة على حريق بمحول كهرباء في قرية نوى بالقليوبية دون خسائر بشرية
  • كلهم رجال .. من هم الرهائن الأحياء المتبقون في غزة؟
  • نتنياهو يكشف عدد الأسرى الإسرائيليين الأحياء في غزة
  • الذكاء الاصطناعي يتفوق على علماء الفيروسات.. عبقرية لا مُبالية تهيمن على المختبرات الرطبة
  • هدم كاريان الوردة أقدم الأحياء الصفيحية بالدارالبيضاء
  • دون خسائر بشرية..نفوق مواشى فى حريق بنجع حمادى
  • أحمد بن محمد: نتبنى التقنيات الأكثر تطوراً على مستوى العالم
  • مختصان لـ"اليوم": مبالغ المشاهير الخرافية تشوّه مفهوم النجاح وتربك وعي الشباب
  • نائلة جبر: نزور المحافظات لتوعية الشباب وعرض نماذج ناجحة للتوعية ضد الهجرة غير الشرعية