روايات مؤلمة.. مخيمات النازحين تفترش ساحات وشوارع مدينة غزة
تاريخ النشر: 17th, December 2024 GMT
الثورة /وكالات
مع إمعان جيش الاحتلال الإسرائيلي بالإبادة والتطهير العرقي بمحافظة شمال قطاع غزة، تتواصل موجات النزوح نحو مدينة غزة حيث يعيش النازحون أوضاعا إنسانية قاسية داخل مخيمات إيواء مؤقتة.
وشهدت مدينة غزة انتشار مخيمات جديدة في ساحات عامة ونوادٍ وملاعب لاستقبال النازحين من شمال القطاع، تضم مئات العائلات التي اضطرت إلى النزوح تحت تهديد القصف والموت.
وفي هذه المخيمات البدائية، يعاني السكان من نقص حاد في إمدادات الطعام والمياه، إضافة إلى الأجواء المناخية شديدة البرودة التي تزيد من معاناتهم. ورغم المبادرات الشعبية والخيرية التي تحاول توفير بعض الاحتياجات الأساسية، إلا أن الإمكانيات المحدودة لا تكفي لسد احتياجات يومية.
وقبل بدء العدوان العسكري في 5 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كان يعيش في محافظة شمال القطاع نحو 200 ألف فلسطيني، إلا أن التهجير القسري أدى إلى نزوح نحو 130 ألف شخص، بحسب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
وتوجه النازحون إلى مدينة غزة، خاصة مناطق الغرب والوسط، بعد رفضهم الانتقال إلى جنوب القطاع كما طلب الجيش الإسرائيلي.
وفي ظل سياسية الحصار المطبق على المحافظة، منع جيش الاحتلال دخول أكثر من 8 آلاف شاحنة مساعدات وبضائع من الدخول، بحسب بيان للمكتب الإعلامي الحكومي. ويؤكد مسؤولون أمميون أن جيش الاحتلال يرفض بشكل متكرر طلبات السماح بإدخال مساعدات للمحافظة التي أعلنتها حكومة غزة في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، “منطقة منكوبة”.
مخيمات جديدة
وعلى مدار أيام حرب الإبادة الجماعية التي سبقت العملية العسكرية في محافظة الشمال قبل نحو شهرين، لم يعتد أهالي مدينة غزة على رؤية تجمعات المخيمات هذه.
فكان كل من ينزح أو يتم تدمير بيوتهم يلجأون إلى منازل أقاربهم وأصدقائهم أو مراكز النزوح في المدارس والمراكز الصحية. لكن مع ازدياد أعداد نازحي الشمال بشكل كبير فإنه لم يعد هناك متسع في المنازل أو المراكز، ما اضطر النازحون للإقامة داخل هذه الخيام التي لا تحميهم من غارات إسرائيلية قريبة، ولا تقيهم برد الشتاء.
وفي 5 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي اجتاح جيش الاحتلال شمال قطاع غزة. ويقول الفلسطينيون إن جيش الاحتلال يرغب في احتلال المنطقة وتحويلها إلى منطقة عازلة بعد تهجيرهم منها تحت وطأة قصف دموي ومنع إدخال الغذاء والماء والأدوية.
وإثر تلك العملية، اضطر عشرات الآلاف من فلسطينيي شمال القطاع إلى النزوح قسرا باتجاه مدينة غزة، حيث أقام معظمهم في خيام ومراكز إيواء.
أوضاع صعبة
وفي مخيم جديد أقيم وسط مخيم الشاطئ غرب غزة، نزحت عائلة رشدي غبن من بلدة بيت لاهيا قبل شهر، ويقول إن عائلته تتكون من 13 فردا ولا يوجد لهم معارف أو أقارب بمدينة غزة، فاضطر للبحث عن خيمة بعد المبيت ليومين في الشارع.
ويضيف غبن واصفا الحياة في المخيمات: “الوضع في الخيام صعب جدا خاصة في أوقات الليل التي يشتد خلالها البرد.. لكن يبقى أهون من الشارع والعراء”. ويتابع: “كثير من النازحين من بلدة بيت لاهيا لجأوا إلى الخيام لأنه لا يوجد لهم بديل ومكثوا فيها على أمل الرجوع القريب إلى منازلهم وممتلكاتهم”.
ويشير إلى أنهم لم يرغبوا في “مغادرة بيت لاهيا لولا أن الجيش الإسرائيلي أخرج الجميع منها بالقوة”. ويختم قائلا: “رضينا بحياة الجوع والعطش داخل منازلنا في بلدتنا حتى لا نخرج منها للخيام، لكننا للأسف في النهاية اضطررنا للخروج للحفاظ على أرواحنا”.
غياب البدائل
وفي مخيم آخر أقيم في حي النصر غرب مدينة غزة، تعيش فيه عشرات العائلات النازحة من شمال قطاع غزة، يقول يحيى زقوت وهو من بين الذين يسكنون المخيم برفقة عائلته: “اليوم لا مكان يؤوي النازحين سوى المخيمات في مدينة غزة لأن البيوت والمدارس لم يعد فيها متسع”.
ويتابع: “كل شوارع مدينة غزة وساحاتها العامة تحولت إلى مخيمات تؤوي نازحين… فلا يوجد بديل للناس”، واصفا حياة الخيام بـ “الصعبة والمرة والممتلئة بالقهر طوال الليل والنهار”. ويلفت زقوت إلى أنهم “رفضوا الخروج من شمال قطاع غزة والنزوح جنوباً بداية الحرب لتجنب حياة الخيام والتشرد”.
ويتابع: “بعد الصمود لأكثر من 14 شهراً أجبرنا الاحتلال على هذه الحياة المليئة بالذل والإهانة والتي لا يوجد فيها أدنى مقومات الحياة الإنسانية كل ساكن في الخيام يعاني قهرا وألما داخليا لا يمكن وصفه لأن كل تفاصيل الحياة متعبة، خاصة مع البرد الشديد في ساعات الليل الذي بات يأكل أجسادنا”.
ويضيف: “نتمنى في أقرب وقت أن ينتهي اجتياح شمال القطاع وتتوقف الغارات والاستهدافات الإسرائيلية ونعود إلى بلداتنا وأحيائنا بسلام”.
أوضاع مأساوية
وتروي الشابة ريم، الفلسطينية والنازحة من شمال غزة، معاناتها، حيث هجرت برفقة أسرتها قسرا تحت القصف الإسرائيلي المكثف والحصار الذي فرضته قوات الاحتلال. وتقول لوكالة الأناضول إن رحلة النزوح كانت محفوفة بالمخاطر، خاصة بالنسبة لكبار السن والأطفال الذين عانوا من الجوع والجفاف والعطش.
وتضيف، أن وصولها إلى غرب مدينة غزة كان بعد مواجهة أجواء طقس قاسية حيث كان تساقط للأمطار ورياح شديدة، “فقد لجأنا إلى مدينة غزة دون أي مأوى يحمي عائلاتنا، نعاني من نقص الملابس والطعام، ونعيش في ظروف قاسية للغاية، ولا أحد يلتفت إلينا بعين العطف أو الرحمة”.
ورغم المعاناة، تعرب الشابة الفلسطينية عن أملها قائلة: “أتمنى أن تنتهي الحرب قريبا وأن أعود إلى منزلي في بلدة بيت لاهيا”.
نزوح شاق وقاسٍ مع طفل معاق
أما محمد أبو عايش، وهو فلسطيني نازح آخر، فقد تحدث عن مأساته قائلا: “نزحنا من شمال غزة بعد أن قصفت قوات الاحتلال إحدى المدارس التي كنا نحتمي بها لمدة 20 يوما”. ويضيف: “أسفر القصف عن إصابة أكثر من 40 شخصا، بينهم أطفال ونساء”.
ويتابع: “اضطررنا إلى الفرار عندما وقع القصف، وتوجهنا إلى غرب مدينة غزة، كنت أعاني أثناء النزوح بسبب عدم وجود وسيلة نقل، واضطررت إلى حمل طفلي المعاق طوال الطريق وسط ظروف قاسية واستهدافات مستمرة”. ويشير إلى أن الوضع في مخيمات النزوح مأساوي حيث إنها تفتقر لأدنى مقومات الحياة من ماء وطعام وفراش.
بين القصف والنزوح
من جانبها، تحدثت عبير الرضيع، وهي نازحة من بيت لاهيا، عن تجربتها قائلة: “نزحنا تحت القصف والدمار، عشنا أصعب أيام حياتنا، القصف كان من كل جانب، ودُمرت منازلنا بالكامل”. وتضيف: “لجأنا في البداية إلى المدارس، لكن القوات الإسرائيلية حاصرتنا بالطائرات، ما اضطرنا إلى النزوح مع الآلاف من السكان”.
وتشير الرضيع إلى تدهور أوضاعها قائلة: “لم نتمكن من حمل سوى القليل من الأغراض معنا، الآن، نعاني من أمراض مختلفة بسبب الظروف السيئة”. وتابعت: “لا توجد هنا خيام، ولا طعام، ولا ماء صالح للشرب، ولا حتى فراش للنوم، طفلي تعرض لهجوم من كلب، والحشرات منتشرة في كل مكان”.
ولم يسمح جيش الاحتلال للنازحين بحمل أمتعتهم أثناء النزوح، ما جعل حياتهم داخل الخيام ومراكز الإيواء غاية في الصعوبة، وتفتقر إلى أبسط مقومات العيش الإنساني. وحسب المكتب الإعلامي الحكومي، فقد بلغ عدد النازحين داخل القطاع منذ بدء الإبادة الجماعية الإسرائيلية مليوني شخص من أصل 2.3 مليون إجمالي الفلسطينيين فيه.
وبدعم أمريكي يرتكب الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر 2023 إبادة جماعية في غزة خلفت أكثر من 151 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
صرخة الخبز في غزة: الأسواق تحوّلت إلى ساحات تجويع وعقاب جماعي
نوثّق معاناة أهالي القطاع.. وشهود عيان: الغذاء أداة للقتل
مسئولة في برنامج الأغذية العالمي لـ«الأسبوع»: ثلث سكان غزة لا يأكلون لأيام
أمهات في غزة يُواجهن الموت جوعًا وألمًا في خيام لا تقي من الحر ولا تحمي من الخطر
ريهان: «مش محتاجين شفقة.. محتاجين نعيش بكرامة.. والعدس صار حلمًا»
رجاء: «المجاعة تفتك بالصغار قبل الكبار.. ونحاول فقط البقاء على قيد الحياة»
الاحتلال يقصف مراكز الإغاثة ويمنع دخول المساعدات.. والمجاعة باتت واقعًا لا تحذيرًا
رغيف الخبز حلم.. وعلبة الحليب سلعة نادرة.. والأطفال الجوعى ينتظرون الشفقة
نساء يُخاطرن بحياتهن للحصول على الطعام.. ومراكز الإغاثة تحوّلت إلى مصائد موت
مياه الشرب ملوّثة.. وحقوقي فلسطيني: تجويع المدنيين أداة للإبادة الصامتة
بقايا الأسواق تعمل بدون رقيب.. والمساعدات الإنسانية تُباع بأسعار خيالية
من كان يتخيل أن تتحول غزة، التي صمدت أسواقها الشعبية لعقود في وجه الحصار، إلى مسرح مجاعة يتصارع فيه الأهالي يوميًا على فتات البقاء؟ وبعد شهور من التجويع الإسرائيلي الممنهج، جاءت مصر، كعادتها، لتمارس دورها الأخلاقي والإنساني، معلنة استئناف إدخال المساعدات الغذائية والإنسانية عبر معبر رفح، وسط تعهدات رسمية بـ«توسّع ملموس» في المرحلة المقبلة، يفتح نافذة أمل وسط ركام الكارثة.
في لحظة بلغ فيها الجوع أقصى مداه، وانهارت الأسواق وسلاسل الإمداد تحت وطأة الحصار والعدوان، بدت غزة وكأنها تخرج من الزمن، لتصبح ساحتها اليومية صراعًا مريرًا من أجل النجاة، لا مجرد الحياة. من أسواق الشجاعية والزاوية وخانيونس، لم يتبقَّ سوى صدى أطلال صامتة، وغصة جوع ثقيلة، وخيام ممزقة لا تصدّ حرًّا ولا تردّ بردًا.
وسط هذا الخراب، تروي أمهات ومتضررون لـ«الأسبوع» مشاهد تقشعر لها الأبدان: أطفال يتظاهرون بالشبع كي لا يثقلوا كاهل أمهاتهم، رضّع ينامون على وجع بطونهم، ومقايضات مذلة بين علبة حليب وكيلو تمر، جوع لا يُقاس بالدخل، بل يُقاس بالبقاء، تجاوز الفقر ووصل حدود الإبادة، فيما تقر منظمات دولية أن ما يجري لم يعد أزمة عابرة، بل سياسة مُمنهجة تهدد حياة أكثر من مليوني إنسان، نصفهم أطفال.
«في هذا المشهد القاسي، لا تكفي بيانات التضامن، ولا تنفع الخطب. ما يحتاجه الغزيون ممرٌ آمن لرغيف الخبز، وسندٌ حقيقي لصبر الأمهات اللواتي يقاومن المجاعة بالدموع والدعاء»، كما تقول الفلسطينية ريهان حازم شراب.
فقدنا الحياة
تقول «ريهان» من مدينة خانيونس، إحدى النازحات قسرًا لـ«الأسبوع»: الحياة التي كنا نعرفها لم تعد موجودة. تحوّلت إلى صراع يومي على أبسط مقومات البقاء، في خيمة صغيرة داخل مخيم مكتظ بالناجين من الموت، فيما التجويع المتعمد يقربنا منه. كل يوم أصعب من اللي قبله. لا كهربا، ولا غاز، والمياه غالبًا غير صالحة للشرب. الحرب سلبت منا كل شيء، حتى أبسط الأكلات صارت حلما. قلوبنا مليانة وجع. العدس، صار حلمنا».
ريهان، وهي أم لطفلين (راكان 10 سنوات، وتوتو 8 سنوات)، تعيش منفصلة مع طفليها منذ بداية الحرب، بعد أن تفاقمت مشكلاتها الزوجية تحت وطأة الظروف. تقول: «راح لأهله، وأنا مع أولادي عند أهلي». تتنقّل بين الخيام وبيت العائلة، لكنها منذ شهرين تعيش ظروفًا لا تُحتمل: «حرّ قاتل، الخيمة لا تقي من الشمس أو الغبار، والمياه قليلة، والأكل على قدّه».
تستعيد أيامها قبل الحرب: «كنا نعيش ببساطة وكرامة، نطبخ ونفرح ونتقاسم اللقمة». كانت تملك مشغلًا صغيرًا للمشغولات اليدوية في بيتها، مصدر رزق شريف يُعيل أسرتها، لكنه دُمّر مع البيت: «ضاع تعب سنين».
تضيف ريهان بحزن شديد: «أطفالي بيظلوا جوعانين، ما في شي. الأسعار نار، والسلع مش موجودة. الناس عم تبيع آخر ما تملك عشان علبة دواء أو علبة حليب أطفال»، تستكمل حديثها: «محمد، ابن شقيقتي، أبوه استُشهد بالحرب، وأمه
ما بتقدر ترضع طبيعي بسبب سوء التغذية والجوع. عنده فقر دم حاد، وقالوا لازم يتغذى، بس كيف؟ صرنا نعمل مقايضات، وآخر مرة أعطيتهم كيلو عجوة، وأخذت علبة حليب للطفل الرضيع».
تقسم «والله، الوضع أكبر من طاقتنا. كل يوم بدعي: يا رب يعدي اليوم على خير. مش طالبين رفاهية، بدنا نعيش بكرامة. إحنا مش محتاجين شفقة، بدنا الناس تفهم الحقيقة وتدعي لنا».
وعن مراكز توزيع المساعدات، تقول ريهان بنبرة تغلبها الحسرة: «أجوع، أتحمّل، أبلع القهر، بس ما أعرّض حياتي أو حياة أولادي للخطر. الطريق خطير، الفوضى مخيفة، والناس بتستغل وجعنا. أحيانًا أولادي يقولوا لي: يمّا، إحنا شبعانين، كلي إنتِ، وهم جعانين».
وعن التكيات، التي يُفترض أن تكون ملاذًا للفقراء، توضح ريهان واقعًا أكثر مرارة: «ليست دائمًا حاضرة، أحيانًا التوزيع بيكون لأسماء أو مناطق محددة. كثير ناس بيروحوا ويستنوا ساعات، ويرجعوا بدون شيء. حاولنا أكثر من مرة وما طلع لنا
إشي، يا بيقولوا التوزيع خلص، أو مش مسجّلين، أو إنه اليوم بس للعائلات النازحة الجديدة بس رغم هيك، بنضل نترجّى ربنا ييسّر، ويحنّن قلوب الناس علينا».
معاناة يوميةمن قلب المأساة، تروي «رجاء حمدونة» تفاصيل معاناتها اليومية لـ«الأسبوع»، وسط ظروف إنسانية متدهورة وأوضاع غذائية وصحية بالغة القسوة. تقول السيدة (التي تعول طفلة مريضة عمرها أربع سنوات، وتقيم في مخيم مخصص بأبناء الشهداء في مدينة خانيونس):
«الأوضاع صعبة جدًا، المجاعة تفتك بالصغار قبل الكبار. ابنتي تحتاج إلى تغذية خاصة، أعاني في محاولة توفير الطعام لها ولشقيقيها، بعد أن فقدت زوجي واثنين من أبنائي في الحرب. لا يوجد أي بدائل: لا طحين، ولا خبز، حتى التكية التي كانت تقدم وجبات بسيطة توقفت منذ أيام، بسبب قلة المواد الغذائية».
تشكو «رجاء» من تدهور الوضع الصحي لعائلتها نتيجة شُحّ الموارد الأساسية، وعلى رأسها مياه الشرب، فتقول: «مياه الشرب غير صالحة للاستهلاك. نشربها لأن لا خيار آخر. أنا وأطفالي نعاني من أعراض صحية خطيرة: إسهال مزمن، نزلات معوية، التهابات حادة في الأمعاء، آلام شديدة في المعدة، وهزال بسبب قلة الطعام وسوء التغذية. طعامنا دُقّة غزاوية: طحين أو عدس يُحمّص مع توابل بسيطة مثل الهيل والشطّة، تُتناول إما وحدها أو مع الخبز إذا توفّر».
تتابع، متأثرة بموقف يومي بسيط لكنه موجع: «قبل أيام، حاولت تجهيز طبق شوربة مكرونة لأطفالي، رغم عدم وجود صلصة. سكبت لابنتي الصغيرة صحنًا منها، لكنها قالت لي: «ماما، بدي أخليها للصبح عشان ألاقي أكل». هذه طفلة، أربع سنوات، صارت تحلم بحاجة تأكلها الصبح. البنت تأخذ أدوية مزمنة، وعلاجات لكهرباء زائدة بالجسم، قلة التغذية تؤثر على جسمها. أعيش بستر من الله وبعض المحسنين. نحاول فقط أن نبقى على قيد الحياة».
الإبادة الشاملةيتطرق المواطن الفلسطيني محمد أسليم، وهو محامٍ من شمال غزة ونازح في أحد المخيمات، خلال حديثه إلى «الأسبوع»، إلى ما وصفه بـ«الإبادة الجماعية» التي يتعرض لها سكان القطاع، موضحًا أن المأساة لم تعد تقتصر على القتل والإصابات المباشرة، بل امتدت إلى تفاصيل الحياة اليومية. يقول: «الأسواق أصبحت ساحة جديدة للانتهاكات. المشهد لم يعد يحتمل تأويلاً أخلاقيًا أو إنسانيًا، بعدما تحوّلت شاحنات المساعدات الإنسانية إلى غنائم تستولي عليها عصابات منظمة، مدعومة ضمنيًا من الاحتلال، وتعمل تحت غطاء تأمين توزيع المساعدات».
يوضح اسليم: «ما يحدث استنزاف أخلاقي واقتصادي لكرامة المجوّعين. كيلو الدقيق يصل إلى 50 دولارًا، والسكر بـ100 دولار، حتى المساعدات المرسلة بأسماء منظمات إنسانية تُنهب وتُعرض علنًا في الأسواق. الموت جوعًا بات بديلًا لعدم الشراء».
يواصل حديثه برصدٍ واقعي لما آلت إليه حياة النازحين: «رغيف الخبز أصبح حلمًا. محظوظ من يستطيع تأمين وجبة طعام واحدة يوميًا. نحن أسرة مكونة من 7 أفراد، نشتري كل يوم أو يومين كيلو دقيق فقط، يكفي لنحو 10 إلى 12 رغيفًا من الخبز، نكتفي بوجبتين: نصف رغيف لكل شخص، وباقي اليوم نكتفي بتكية عدس نشربها دون خبز. هكذا نمضي يومنا. الواقع في غزة تجاوز الكارثة».
تحذير حقوقييحذّر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان من أزمة تجويع ممنهجة تهدد قطاع غزة، بفعل الحصار الإسرائيلي المشدد المستمر منذ 2 مارس، والذي أدى إلى انهيار خطير في الأوضاع الغذائية والصحية. ووفقًا للمركز، فإن الأزمة ليست طارئة بل ناتجة عن سياسة منظمة تستهدف المدنيين عبر تدمير البنية التحتية ومنع المساعدات وخلق فوضى تعيق الوصول إلى الغذاء.
وأكد مدير وحدة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالمركز، فضل المزيني، لـ«الأسبوع»، تحقق المؤشرات الدولية الثلاث لإعلان المجاعة: تجاوز نسبة الأسر التي تعاني من انعدام شديد للغذاء 20%، والهزال الحاد لدى الأطفال 30%، وارتفاع متوقع في الوفيات المرتبطة بالجوع. وأضاف أن تقرير «شبكة التصنيف المرحلي المتكامل» (IPC) أظهر أن نحو نصف مليون شخص في غزة يعيشون في المرحلة الخامسة (الجوع الكارثي)، وأن جميع سكان القطاع يعانون بدرجات متفاوتة من انعدام الأمن الغذائي، بينهم 71 ألف طفل و17 ألف امرأة بحاجة لتدخلات علاجية عاجلة.
وحذر المزيني من استخدام الاحتلال مراكز توزيع المساعدات منذ مايو كأداة للقتل، مشيرًا إلى مقتل 1061 فلسطينيًا وإصابة 5634 خلال محاولتهم الوصول للغذاء. ودعا الأمم المتحدة والمقرّر الخاص المعني بالحق في الغذاء إلى تقييم ميداني عاجل، محذرًا من أن تأخير إعلان المجاعة رسميًا سيؤدي إلى سقوط آلاف الضحايا.
وطالب المركز الجنائية الدولية بفتح تحقيق في جريمة التجويع، والاتحاد الأوروبي بضمان تنفيذ تفاهماته مع إسرائيل بشأن دخول المساعدات ومراقبة آليات توزيعها، مؤكدًا أن بعض مراكز التوزيع تحوّلت إلى مصائد موت، خاصة للنساء، مع تصاعد الانتهاكات بحقهن.
ولفت المزيني إلى أن النساء يتحمّلن العبء الأكبر، إذ يُجبرن على السير لمسافات تتجاوز 5 كيلومترات دون وسائل نقل، تحت تهديد القتل والعنف. واستشهد بحادثة مقتل السيدة خديجة أبو عنزة (45 عامًا) برصاص الاحتلال خلال محاولتها الوصول إلى مركز توزيع مساعدات في غرب رفح، بالتزامن مع تخصيص «مؤسسة غزة الإنسانية» (الأمريكية- الإسرائيلية) ذلك اليوم لتوزيع المساعدات للنساء فقط.
تجويع.. وتهديداتقالت المتحدثة الإقليمية باسم برنامج الأغذية العالمي، الدكتورة عبير عطيفة، في تصريحات خاصة لـ«الأسبوع»، إن قطاع غزة يواجه «مستويات غير مسبوقة من التجويع»، محذرة من أن الأوضاع الميدانية والأمنية تهدد العمليات الإنسانية وتفاقم الكارثة اليومية التي يعيشها السكان، وأوضحت عطيفة أن «التقييمات الأخيرة التي أجراها البرنامج أكدت أن نحو ثلث سكان غزة لا يتناولون الطعام لأيام متتالية، بينما يواجه ما يقرب من 470 ألف شخص ظروفًا كارثية تُصنف ضمن المرحلة الخامسة - الأعلى - من انعدام الأمن الغذائي» بحسب المؤشر الدولي.
ولفتت المسئولة الأممية إلى أن «البرنامج رصد ارتفاعًا حادًا في معدلات سوء التغذية، خاصة بين النساء والأطفال، إذ يحتاج نحو 90 ألفًا منهم إلى تدخل علاجي فوري». وشددت على أن المساعدات الغذائية التي يقدمها البرنامج باتت «السبيل الوحيد لبقاء الغالبية العظمى من السكان على قيد الحياة، وسط ظروف استثنائية من العجز الكامل وانهيار الخدمات الأساسية».
وحذّرت عطيفة من أن أي تأخير في دخول قوافل الإغاثة يؤدي إلى تجمهر مئات المدنيين الجائعين على طول الطرق المعروفة لمسارات الشاحنات، ما يعرضهم وفرق البرنامج إلى مخاطر جسيمة تشمل: «القصف، نيران القناصة، المراقبة الجوية، وأعمال عدائية نشطة».
وأكدت أن البرنامج «سجل وقوع حوادث قاتلة قرب قوافل إنسانية»، معتبرة أن «أي عنف يُمارَس ضد مدنيين يبحثون عن الغذاء هو انتهاك صريح للمبادئ الإنسانية الأساسية». وأشارت إلى أن البرنامج تمكن منذ 21 مايو الماضي من تفريغ 1387 شاحنة محملة بأكثر من 26 ألف طن متري من المساعدات الغذائية عند معبري كرم أبو سالم جنوبًا وزيكيم شمالًا، تم إدخال 22 ألف طن متري منها إلى غزة عبر 1833 شاحنة.
لكن عطيفة نبّهت إلى أن هذه الكميات «لا تغطي سوى نسبة ضئيلة من الاحتياج الفعلي»، مؤكدة أن الوضع يتطلب دخول أكثر من 62 ألف طن متري شهريًا لتأمين الاحتياجات الغذائية الأساسية لسكان القطاع. وأضافت: «الوصول إلى الغذاء الطازج والمغذي مثل الخضروات والفواكه واللحوم ومنتجات الألبان أمر غير ممكن حاليًا دون السماح بإعادة إدخال البضائع التجارية».
كما أشارت إلى أن أسطول الشاحنات التابع للبرنامج يواجه صعوبات كبيرة في الصيانة، بسبب نقص قطع الغيار والقيود المفروضة على دخول المعدات، ما يهدد استمرارية العمليات الإنسانية في الميدان.
وفيما يتعلق بالمساعدات الجاهزة للتوزيع، قالت عطيفة إن «نحو 3500 طن متري من الغذاء - تعادل حمولة 300 شاحنة - لا تزال بانتظار الاستلام داخل غزة»، رغم جاهزيتها، مشيرة إلى أن الفترة بين 19 و25 يوليو الجاري شهدت دخول 349 شاحنة محمّلة بـ4200 طن متري من الغذاء، بينما تلقى البرنامج 138 طلب إذن لتسيير القوافل، لم يُوافق سوى على 76 منها.
ولفتت إلى أن سائقي القوافل يضطرون للانتظار حتى 46 ساعة بعد التحميل للحصول على تصاريح المرور، مما يؤدي إلى تجمهر المدنيين الجوعى على الطرق. وأوضحت أن مهمة إيصال الشاحنة الواحدة قد تستغرق 12 ساعة في المتوسط لإتمامها بعد التحرك.
واختتمت المسئولة الأممية حديثها بالتأكيد على أن «برنامج الأغذية العالمي يستخدم معبرين فقط حتى الآن، مع محدودية الطرق الآمنة والمفتوحة»، مضيفة أن البرنامج لا يمتلك سوى 60 سائقًا معتمدًا لنقل المساعدات داخل القطاع، وهو عدد «غير كافٍ مطلقًا» لتلبية الاحتياجات المتزايدة. وشددت على أن البرنامج «جاهز لتوسيع نطاق عملياته على الفور»، حال توافرت الشروط المطلوبة، لضمان وصول الغذاء إلى من هم في أمسّ الحاجة إليه، في الوقت المناسب، وبشكل آمن وكريم.