أم كلثوم شجرة والشيوخ جذورها
تاريخ النشر: 25th, December 2024 GMT
عاشت أم كلثوم حياتها تحت مظلة بطانة من المشايخ، تعهَّدوها بالرعاية، وحموها من كلاب السكك الذين أرادوا نهش لحمها الأخضر، وهي لا تزال فتاة صغيرة، لا تعرف أن الناس في المدن متوحشون، وماكرون، وقتلة.
كانت أم كلثوم شجرة والشيوخ جذورها، ولم تهتز مع رياح النميمة، أو أسافين منافسات العهد البائد، فلا شيء تخشاه، شرفها كالجنيه الذهب، وسمعتها فوق مستوى الشبهات، ولو قُدِّر لها أن تعيش ألف عامٍ لما تغيَّر شيء في الفتاة الريفية التي ظلَّت تحتفظ بها أسفل فساتينها «الشانيل».
فتحت عينيها على أبٍ يحب الناس والحيوانات والطيور، وقلبه يسع الدنيا وما فيها، ويغنِّي بصوت شجي رائع قصائد في حب النبي صلى الله عليه وسلم وآله، ويرفع الأذان في مسجد القرية، وحدَّثها أول ما حدَّثها عن ميلادها، وحكى لها قصة أسطورية، وقبل ولادتها دعا الله مرارًا وتكرارًا أن يهبه ولدًا، حتى يصبح يده وسنده، وحلُم بأن يعلِّمه غناء القصائد وترتيل الأناشيد، واصطياد الرزق في الأفراح والحضرات والموالد، وفكَّر كأي رجلٍ بسيط فيمن يتولى شؤون البيت إن حلَّ الأجلُ أبكر من موعده؟ مَن يحمي تلك الزوجة المخلصة الأمينة فاطمة المليجي لو حدث له مكروه؟ كان يهمس بخشوع: «يا رب أنت تعرف بالحال، يا رب امنحني الولد»، وفي ليلة وترية من ليالي رمضان توضأ، ثم سار خفيفًا كسحابة إلى المسجد، وأمضى وقتًا طويلًا في العبادة، وقبل الفجر بقليل، أسند رأسه على أحد الأعمدة وأخذته سِنة من النوم، ورأى امرأة ترفل في النور، وقالت إنها أم كلثوم بنت الرسول، ثم مدَّت يدها إليه بلفافة، وبشَّرته بهدية عظيمة، فتحها فوجد ماسة تتوهَّج كأنها شمس صغيرة، واستيقظ وقد غمرته سكينة لم يشعر بها، قبل ذلك، أبدًا.
في اليوم التالي رأى النسوة العجائز يُحِطن بزوجته، وأدرك من حالة الاستنفار أن لحظة الميلاد قد حانت، ولم يدرِ لماذا توقَّف عن التفكير في الولد؟! قال لنفسه لقد بشَّرته بنت الرسول بهدية عظيمة فماذا يمكن أن يطلب أكثر؟ ثم انتبه إلى أن وقتًا طويلًا قد مرَّ ولم تخرج إحداهن بالبِشارة، واتجه إلى الغرفة، ووجدهن مطرقاتٍ بأسى، وسأل بوجلٍ: ماذا يحدث؟ أجابت امرأة وكأنها تعتذر له: «المولود بنت»!، ولدهشتهن جميعًا فوجئن به يقول بسرور بالغ: «يا مرحبًا بأم كلثوم»!
لقد وصلت الهدية، يجب أن يحافظ عليها بعمره، وعاملها كأميرة، ودلَّلها، وأحاطها بحنانه البالغ، وحين جاء شقيقها خالد إلى الحياة أفهمه أن تلك الطفلة أمانة ربانية، وإن غاب جسده يومًا ما يجب أن يرعاها، وإنها لحمه، ودمه، وشرفه، ولا يجوز أن يغمض عينيه إلا وهي آمنة، ومبتسمة، ومطمئنة.
لم ينتبه الشيح إبراهيم أن تلك الطفلة «العفريتة» تستمع إليه وهو يدندن بالأناشيد، أو يحاول تحفيظ خالد قصيدة جديدة، ثم بدأت في تقليده، وتضع يدها على أذنه كما يفعل، وترفع صوتها، وتعيد وتزيد حتى تتسلطن، وتعمَّدت طوال الوقت ألا تغنِّي في حضوره، لكنه عاد إلى البيت ذات يوم ووقف خلفها، ولحسن الحظ لم تشعر به، ومضت تشدو، ياه، ما هذا الصوت الملائكي؟! ما تلك الهبة العُظمى؟! إن صوتها يكاد أن يحمله إلى سماء قريتهم «طماي الزهايرة»، ولقد تخيَّل أنه أورث حلاوة صوته لخالد، لكن الحلاوة كلها ذهبت إلى تلك الحورية، واحتضنها، وصفّق لها، وحملها على كتفيه وهو يكاد أن يُجنَّ من الفرح.
في الليالي الحارة طاب له أن يصعد بها إلى السطح بصحبة شقيقها وأمها، يجلسون على أشولة الدقيق والذرة والبلح المجفَّف، الأب يغني، والفتاة تتشجَّع فتغني معه، ثم يصمت فتكمل بمفردها، ويطبِّل لها على كفَّة ميزان نحاس صدئة، أو صفيحة جبنٍ فارغة، أو خشبة، بينما تصفق الأم بحماس، ووصل صوتها إلى الجيران فخلبهم، وكثَّفوا ظهورهم على الأسطح، لحضور حفلاتٍ مجانية، ويستمتعون فيها بهبوب النسمات اللطيفة، وفي الصيف القائظ، وبصوت أكثر سحرًا من صوت الشيخ إبراهيم.
وبمرور الوقت فكَّر الأب في جرِّها إلى الموالد، بصحبة خالد، لكنها رفضت بعناد طفولي، ورغبت في ألا تترك عالمها الصغير، والطيور التي تطاردها، والعجائز اللواتي تشدُّ أثوابهن، والأطفال الذين تهرول حافية معهم في الشارع، لكنه وعدها أنها لو سمعت كلامه سيغرقها في بحرٍ من الحلوى، ونجحت حيلته، وخرجت معه إلى حفلة شيخ البلد، وغنَّت، وانبهر الناس بصوتها، وصفقوا لها، ورأت الفرحة تكاد تنط من وجهَي أبيها وشقيقها، ولم تكن المرة الوحيدة التي رأتهما يهللان، ولقد أصبحت نجمة في الدلتا فمَن ينافسها؟
لكن النجاح أقلق الشيخ إبراهيم، صحيح أنها لا تتحرك خطوة إلا بصحبته، لكن تلك الأضواء الباهرة التي تجذبها لا تناسبهم، وإنهم عائلة محافظة، وتحبُّ الظل، وتنفر من الاختلاط الزائد عن الحد بالغرباء، لكنه طمأن نفسه، على الدوام، بقدرته على حمايتها، ثم إن شقيقها خالد صار فتى يافعًا، واخشوشن صوته، ونمت له أظافر، ولو اقترب منها أحدٌ لخلع عينيه، وفرح حين وجدها تناديه بالشيخ خالد، فهذا يعني أنها تراه رجلًا لا صبيًّا، ولم يحاول أن يثنيها عن تغيير الأسمال التي ترتديها، وبدت بالعقال على رأسها، والجاكت ذي الوبر الجملي كأنها صبي من البادية، لا فتاة من الريف، وهذا يطمئنه، فلن يطمع فيها الطامعون، لكن الحياة ادَّخرت له مفاجأة كبرى، بطلها شيخٌ آخر.
وقفت أم كلثوم ذات صباحٍ مشمسٍ ملتصقة بعامود محطة قطار السنبلاوين، تراقب الشيخين إبراهيم وخالد وأعضاء الفرقة، في انتظار قطارٍ يحملهم إلى إحدى قرى الدلتا. سمعتْ الشيخ إبراهيم يهتف: «الشيخ أبو العلا.. مش مصدق عيني»! كاد قلبها يرقص حين سمعت الاسم. هرولت بسرعة ناحيته. جذبته من طرف جلبابه، كأنها تتأكد أن المطرب العظيم الذي استمعت إلى أغنيته «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيَّعا»، عشرات المرات، على فونوغراف العمدة بشر مثلهم من لحم ودم. سلَّم عليها بحفاوة ووضع يده على رأسها بأبوية. لم تكن وحدها المهتمة. الناس أيضًا على الرصيف أحاطوا به وتكاثروا عليه، كلُّ واحد يحاول أن يفوز منه بكلمة أو إيماءة أو سلام. وبحسِّها الطفولي أرادت أن تستأثر به لنفسها. لم تجد أمامها سوى جذبه من طرف الجلباب كالمرة الأولى. فطن الشيخ أبو العلا إلى غيرتها، فركَّز معها، وأحاط رقبتها بذراعه. ترجَّته أن يذهب معهم إلى الفرح، فقال ببساطة: «آجي عشان خاطر عيونك»! وهناك ذُهل بصوتها، وقال للشيخ إبراهيم أمام أعضاء التخت وهو يشير إليها: «دي حورية من حوريات الجنة!». فرحت بالإطراء، ثم قالت له بحماس: «الحورية بتقولك تعالى معانا على البيت!»، ولدهشتها ودهشة الشيخ إبراهيم قبِل ببساطة. بمجرد أن فتحت الأم الباب صاحت أم كلثوم: «ادبحي كل الحمام يا ماما عشان جالنا أحسن مطرب في الدنيا!».
اعتبرته يومًا لا يُنسى. الشيخ أبو العلا أراد أن يُسعِدها فاستجاب لكل أوامرها، إذا طلبت طقطوقة غنَّى، وإن طلبت موالاً غنَّى، وإن طلبت أغنية غنَّى، لكنه فجأة قال لها: «الله! أومال أنا هفضل أغني لوحدي يا عفريتة؟! أنا عايز اسمعك كمان!».
وبذكاء فطري غنَّت «أفديه إن حفظ الفؤاد أو ضيَّعا». اهتز قلب الشيخ أبو العلا، ولمعت عيناه، وصفَّق حين انتهت. أثنى عليها ثناء طويلاً، حتى أنها أطرقت خجلاً، ثم دبَّت الحماسة في عروقها حين التفتَ إلى أبيها وقال له فجأة: «لازم أم كلثوم تسافر القاهرة وتغني قدَّام جمهور أكبر وذوقه مختلف. بنتك يا شيخ إبراهيم نجمة حرام تدفنها هنا!»..
نظرت أم كلثوم إلى وجه أبيها فرأت التعبير الرافض المعتاد فكاد أن يستولي عليها اليأس، تمنَّت من أعماقها أن يستمر الشيخ أبو العلا في الإلحاح، أرادت أن تجذبه من جلبابه كما فعلت على المحطة لكنها تراجعت فقد أدركت أنها ستكون حركة مكشوفة لأبيها. ثم تحدَّث الأب وباح للشيخ أبو العلا بمخاوفه، وأغلبها يتعلق بتربيتهم المحافظة، التي تستوجب أن يكون تحركهم بحساب، وكلامهم بحساب، وتعاملهم مع الغرباء بحساب. لعب الوسواس في رأس الشيخ إبراهيم، صوَّر له ابنته وقد أضاعتها النجومية وأنستها أخلاق الريف. فكَّر في متاهة القاهرة وظنَّ أنها قادرة على أن تبتلعه هو وفاطمة وأم كلثوم وخالد وكل العائلة. فهِم الشيخ أبو العلا كلماته، وفطن إلى ظنونه، فقال بأبوية: «لا تقلق يا شيخ إبراهيم، بنتك هتفضل في الحفظ والصون بأخلاقها وتربيتها، وانت هتفضل قريِّب منها دايمًا، حرام تدفن موهبتها. دي جوهرة، كنز يا مولانا»..
استمر الجدال ساعة، جملة من الشيخ أبو العلا، وجملة من الشيخ إبراهيم، حتى ألقى الشيخ أبو العلا ثعبانه الأكبر قائلاً: «عندي الحل!» ونظر الاثنان إليه بدهشة، الأب وأم كلثوم، واستمعا له وهو يقترح عريسًا من أقربائه يتزوجها ويضعها في عينيه، وبهذا لا محلَّ للمخاوف التي تسيطر على هذا البيت الجميل. ثم قال: «أو حتى لو عايزني أكتب أنا عليها!». لان الأب، وبدأ التعبير الرافض على وجهه في الذوبان، وعاد قلب أم كلثوم ليرقص فرحًا، حين قال أخيرًا: «خلاص اللي تشوفه يا مولانا!». وبدلاً من أن تجري أم كلثوم ناحية الأب هرولت باتجاه الشيخ أبو العلا واحتضنته ببراءة وهي تقول: «شكرًا يا أحسن مطرب في الدنيا»!
جاءت إلى القاهرة فتاة بريئة غضَّة تتخيل أنها في قلب الأحلام، لكنها كلما غنَّت، وكلما كسبت أرضًا و»سمِّيعة» ومعجبين و»مهاويس» طالها الشرر، ومسَّتها الكراهية. لم تتركها منيرة المهدية ولا فاطمة قدري ولا بقية نجمات الزمن الغابر في حالها، سلَّطن عليها الكتبة. رشقوها بالمنجنيق، وبالسهام المسمَّمة. لم يتورعوا عن لمزها في شرفها، حتى أن الشيخ إبراهيم اتخذ قرارا بأن يحزموا حقائبهم ويعودوا إلى «طماي الزهايرة» فورًا. اتضح أن القاهرة ليست فقط مدينة الحب والجمال، لكنها كذلك مدينة الحقد والغيظ والخوض في الأعراض. نجت أم كلثوم من تلك النهاية لحسن الحظ، بفضل الله، ثم الشيوخ. سهروا لحراسة أحلامها، إن صوب أحدٌ عليها حجرًا ردوا عليه بصخرة. إن رماها بكلمة أتحفوه بخطبة. إن زام عليها زأروا في وجهه. ولحسن الحظ ظهر الشيخ زكريا مجددًا في حياتها. بدا لها منذ سنوات رجلاً كبيرًا، رغم أنه كان في بدايات العشرين، ورأت شاربه ضخما يليق بأستاذ مع أنه خفيف جدا ويبدو كأنه مرسوم بالقلم الرصاص. لم تشعر أبدا أن أباها وأخاها يتضايقان من وجوده، فهو يكمل بطانة المشايخ في البيت والشغل. إنها لا تزال فتاة صغيرة، أما هو فملحن ناجح، أمسك بخيط الأحلام الذهبي، مطاردا الأنغام في كل مكان. لا تنسى أبدا حين سحرته بصوتها، فصارت شمسه التي يتبعها أينما أشرقت. لمست قلبه وعاملته كأخٍ لها، لا يغيب أسبوع إلا ويطبُّ عليهم، يأكل ويتسامر ويغني معهم. وكان كلما نادى أبوها: «يا شيخ»، تضحك قائلة: «حدد أنهي شيخ؟! زكريا ولا خالد؟!». لم تعرف أن الجفوة ستفصل بينهما سنوات، لكنه سيعود إليها بنفس الحب الجارف، يحدثها عن حلمه الذي لن يتحقق بأن تختم القرآن على إيقاعٍ يصنعه لها بنفسه.
ورغم أن الشيخ إبراهيم غادر فجأة، وكسر قلبها، إلا أنها ألزمت نفسها بتعاليمه. لم تنسَ أبدا أنها ابنة الحقول، حتى وهي تهيمن على العالم العربي شرقا وغربا. كل خطوة لها كانت بحساب. حين عرضوا عليها فيلم «وداد» اشترطت عدم وجود قبلات، أو مشاهد غرامية، أو لقطات تمسُّ صورتها أو تتعارض مع التقاليد الشرقية. الصحافة سخرتْ منها وتندَّرتْ عليها، صوَّرتها كأنها امرأة رجعية ترتدي الجاكت فوق الفستان، لكنها لم تهتز، مضت تنفِّذ ما في رأسها، وما يناسب شخصيتها. حتى أنها حين رأت بعض العمال يفطرون في نهار رمضان، يتناولون الطعام ويدخنون بشكل فج، اعترضت، وطلبت من مسؤولي «استوديو مصر» احترام الشهر الفضيل، فهدَّدوا المفطرين بالخصم.
أحبَّت أم كلثوم الشيوخ وانجذبت إليهم. لسنوات كانت تذهب بصحبة أبيها، وأحيانا الشيخ زكريا أو أحمد رامي أو محمد القصبجي إلى مقرأة الشيخ محمد رفعت في السيدة زينب، تضع الطرحة على رأسها، وتجلس وسطهم. أحيانا تشارك في ترتيل حزبٍ يحددونه لها، وأحيانا تنتظر حتى ينتهوا من سكرتهم وتدور بينها وبين مولانا الشيخ رفعت مباراة حامية في التلاوة والغناء. هي تقرأ ما تيسَّر من قصار السور، وهو يغنِّي «زارني طيفك في المنام»، أو «طلع الفجر ولاح»، أو «أراك عصىَّ الدمع» أو «حقك أنت المُنى والطلب»! لو قُدِّر للناس، في تلك الأيام، أن يطَّلعوا على جلسات السمر تلك لجُنُّوا، فالشيخة هي أم كلثوم والمغني هو الشيخ رفعت وأحيانا الشيخ مصطفى إسماعيل!
حسن عبدالموجود صحفي وقاص مصري
اعتمد هذا المقال بشكل أساسي على كتاب «أم كلثوم وعصر من الفن» للدكتورة نعمات أحمد فؤاد
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشیخ أبو العلا الشیخ إبراهیم شیخ إبراهیم ت أم کلثوم
إقرأ أيضاً:
إبراهيم شقلاوي يكتب: الفاشر تحتضر ..!
تعيش مدينة الفاشر تحت حصار خانق تفرضه ميليشيا الدعم السريع منذ أكثر من عام، في ظل انهيار تام في الخدمات، وظلال مجاعة باتت تُخيّم على سكانها الذين يتجاوز عددهم مئات الآلاف. ورغم هذه الكارثة الإنسانية، لم يتخذ مجلس الأمن الدولي خطوات عملية ترتقي إلى حجم المأساة.
في يونيو 2024، تبنّى المجلس قراره رقم 2736، الذي طالب بوقف الحصار فورًا، وخفض التصعيد في الفاشر ومحيطها، وضمان حماية المدنيين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية. إلا أن هذا القرار بقي حبراً على ورق، بلا أدوات تنفيذية، بينما تتدهور الأوضاع المعيشية في المدينة بوتيرة متسارعة.
وقد أكد الخبير الأممي المعني بحالة حقوق الإنسان في السودان، رضوان نويصر، أمس أن أولويات عمله تتركز في أربعة ملفات أساسية: حماية المدنيين، تسهيل وصول المساعدات، المساءلة، وعدم الإفلات من العقاب، إضافة إلى ضمان حرية عمل المنظمات الإنسانية والحقوقية. وفي لقاء محدود مع الصحفيين،عبّر عن قلقه من استمرار التدهور، مشيرًا إلى غياب أي تطورات ملموسة على الأرض.
في المقابل، صدرت تصريحات متباينة من الحكومة. ففي مؤتمر صحفي بمدينة بورتسودان في يوليو 2025، أعلنت الحكومة السودانية أن رؤيتها الإنسانية تقوم على مبدأ تقديم الدعم للجميع دون تمييز ديني أو عرقي أو جهوي. كما أكدت فتح المعابر والمسارات والمطارات، بما في ذلك المنافذ الخارجة عن سيطرتها – مثل معبر أدري الحدودي مع تشاد – لاستقبال المساعدات، وتم تمديد فتحه لثلاثة أشهر إضافية. وجاء ذلك بالتزامن مع إعلان رسمي بقبول هدنة إنسانية في الفاشر، استجابة لمقترح من الأمم المتحدة لتأمين وصول المساعدات إلى السكان المحاصرين.
من جانبه، أوضح الفريق الركن الصادق إسماعيل، مستشار مجلس السيادة للشؤون الإنسانية، أن ولايتي شمال دارفور وجنوب كردفان من أكثر المناطق تضررًا واحتياجًا، داعيًا المنظمات إلى تكثيف جهودها بعد فتح المسارات. كما أعلنت الحكومة تشكيل لجنة طوارئ وطنية لدعم مفوضية العون الإنساني.
أما المفوضة سلوى آدم بنية فكشفت عن كارثية موجات النزوح الأخيرة، مشيرة إلى فرار نحو 1.3 مليون شخص من مناطق القتال، بينهم أكثر من نصف مليون من مخيم زمزم إلى الفاشر، وعشرات الآلاف من أبو شوك وطويلة إلى داخل الأراضي التشادية.
ورغم هذه الخطوات الرسمية، تبقى الاستجابة على الأرض دون المستوى المطلوب. فلم يُسجّل أي تحرك عسكري فعّال لفك الحصار أو تأمين خطوط الإمداد نحو الفاشر. والجيش السوداني، رغم امتلاكه القدرات البشرية واللوجستية، لم يطلق حتى الآن أي عملية باتجاه المدينة.. علماً بأن آلاف المقاتلين من القوات المشتركة “حركات سلام جوبا” متواجدون في الخرطوم ، بحسب تقرير لقناة “العربية”. ويرى مراقبون أن الحصار كان من الممكن فكّه سريعًا، لو تحركت هذه القوات المجهّزة لجبهة القتال كما حدث في معارك سابقة أثبتت فيها قدرتها على تفكيك تمركزات الميليشيات.
وما يعمّق المأساة أن الفاشر أصبحت على حافة مجاعة حقيقية. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة بتاريخ 8 يوليو 2025، فإن 38% من الأطفال دون سن الخامسة في المدينة يعانون من سوء تغذية حاد، بينما يعاني 11% منهم من حالات حرجة تهدد حياتهم. وقد وصف والي شمال دارفور، الحافظ بخيت، الأوضاع بأنها “لا تُطاق”، موضحًا أن السكان يعتمدون على “الأمباز” – بقايا الفول السوداني المخصص عادةً لعلف الحيوانات – كغذاء رئيسي، في ظل غياب تام للسلع الأساسية، حيث تجاوز سعر ربع جوال الدخن نصف مليون جنيه سوداني.
وفي تطور لافت، أعلن مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، استعداده للانفتاح على تحالف “صمود”، بل وحتى مع ميليشيا الدعم السريع إذا أبدت التزامًا إيجابيًا، قائلاً: “الجميع سودانيون ويجب أن نتحرك معًا نحو السلام”. وهو خطاب يعكس مرونة تكتيكية وربما سعيًا لبناء تفاهمات جديدة لتخفيف التوتر على الأرض، رغم الانتهاكات الجسيمة التي ما تزال ترتكبها الميليشيا في الفاشر، حسب تقارير محلية ودولية موثقة.
لذلك على المجتمع الدولي، وفي مقدمته مجلس الأمن، أن يتحمل مسؤوليته في تحويل قراراته إلى أدوات تنفيذية فعالة، تتضمن الضغط الجاد على ميليشيا الدعم السريع، وتفعيل آليات الإسقاط الجوي العاجل للمساعدات، وفرض وقف إطلاق النار الإنساني الذي وافقت عليه الحكومة السودانية.
كما أن على الحكومة السودانية أن تتحمل مسؤولياتها كاملة، بتحريك قواتها نحو الفاشر، وتأمين الطرق والمطار، وفرض واقع ميداني جديد يُنهي الحصار.
فما يحدث في الفاشر ليس مجرد أزمة إنسانية، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة السودانية على حماية مواطنيها، واختبار لمدى جدية المجتمع الدولي في الوقوف إلى جانب المدنيين في مناطق النزاع.
بحسب ما نراه من#وجه_الحقيقة لقد تجاوزت المأساة حدود الاحتمال، وبات الصمت شكلًا من أشكال التواطؤ. وإذا لم تُتخذ خطوات حقيقية خلال الأيام القادمة، فقد تسقط الفاشر ليس فقط تحت الحصار، بل في ذاكرة العالم كنقطة سوداء على جبين الإنسانية.
دمتم بخير وعافية.
إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 30 يوليو 2025م [email protected]