المعرفة كأيقونة لمشروع التقدم الاجتماعي
تاريخ النشر: 29th, December 2024 GMT
تضع دول العالم بناء مجتمع المعرفة ضمن أولويات خططها ومهامها التي تعدها للمسـتقبل لتخطو نحو التطور والتنمية بخطى ثابتة تسـتند إلى أسس معرفية، وهناك حقيقة تستحق الوقوف عندها ولا تقبل الجدل وهي أن جل أمم الأرض الناهضة لم تحقق تقدما يذكر، ولم يكن لها أن تحقق هذا الحضور الكبير في عالم اليوم قوةً ومكانةً وتأثيرًا إلا عندما توجهت لمسائل وقضايا تتركز حول قضايا تطوير التكنولوجيا والإنتاج العلمي وبناء المجتمع المعرفي.
إنَّ المعرفة وعصرها أصبحا عاملين أساسيين لزحزحة التفكير التقليدي، حيث لم تعد الأساليب القديمة في القيادة والإدارة قادرة على مواكبتها وذلك ما خلق معيارًا مهمًا لقياس مستوى تميز أي مجتمع عن الآخر من خلال مدى تميز نشاطاته المعرفية الرئيسية، وتتمثل تلك النشاطات في توليد المعرفة من خلال البحث والتطوير، ونشرها بالتعليم والتدريب وعبر وسائل الاتصال المختلفة، ثم توظيف المعرفة والاستفادة منها في الارتقاء بالإنسان وإمكاناته الاجتماعية والمهنية، وفي تقديم منتجات حديثة ذكية ومتجددة.
إلا أن ما يثير الاستغراب هذا التوهم الكبير بإمكانية صناعة عالم متقدم ماديًا وتقنيًا دون الولوج أيضًا لعالم الأفكار الكبرى التي شكلت الجسد الذي نما في أحشائه العلم، وتبلور وازدهر وأسهم في تقدم البشرية، ومن المحزن أن يلجأ البعض عندما لا يستطيع ربط سياق المعرفة ومنهجها بمحاولة تفكيك المقترحات التطويرية بحجة أن طرحها نظري بينما العملي في رأي تلك الفئة أن تأتي الحلول متسقة مع واقعهم الحالي الذي هم أوجدوا مشكلاته وأصبحوا جزءًا من المشكلة وليس حلها... إن ما تبحث عنه تلك الفئة من مؤشرات تقليدية وغير تقدمية والتي لا يجب أن تكون من خارج الصندوق بحيث لا تتجاوز أطر التفكير بواقع اجتماعي مغرق في قضاياه، وبالتالي تأتي فكرة التغيير في سياق لا تتحرك فيه عناصر التقدم ضمن مشروع ثابت وراسخ ليصبح الإنجاز مشروعا احتفاليا معزولا عن السياق العام في المجتمع فهو وإن حقق تقدمًا في مرحلة إلا أنه يمكن أن يتعثر في مراحل أخرى.... أما السبب فيعود إلى أن التقدم لا يقوده تراث والتنمية المادية والاجتماعية والبشرية لا تقودها أحلام وأمنيات ولكن يقودها خطط شاملة وخيال قيادي مبدع يشجع الفكر، ويحفزه ويوجد بيئة لديها قابلية إلى خلق ثقافة معرفية متميزة في المجتمع، تشكل الدعم الفاعل له والتشجيع والمساندة وتحترم قدرات التفكير والإبداع والبحث والتجديد وتبرزها بصورة جلية.
فلا تقدم ولا تنمية ولا حضور ولا إنجاز طالما كنا متخلفين علميًا وتقنيًا، ومتراجعين في قدرتنا على إنتاج وتوظيف العلوم التقنية لصالح مشروع كبير يتجاوز في تركيزه الجدل المسيطر على مشهدنا الغارق حتى أذنيه في احتفالات مظهرية لم تستطع صنع الفارق.. لذلك يجب أن يعاد طرح السؤال على النحو التالي: كيف يمكن لنا أن نستخدم المعرفة لقيادة التطوير دون التأثر سلبًا ببعض الفئات التي لا تزال تتساءل ما هو العلم ؟ كيف يمكن لنا أن نتعاطى مع مشروع تقدمي معرفي دون أن يكون ثمة تأسيس لعقل جمعي يؤمن بحرية تداول الأفكار ومناقشتها وتوليدها ؟
إن التحولات والمتغيرات من حولنا التي طالت مفاهيم مهمة كالقيم الاجتماعية، المواطنة والانتماء، دور المرأة والعدالة الاجتماعية، المشروع الثقافي والتباساته، حرية التعبير وقضاياه، التفكير الديني ودوره في صياغة المجتمع، النخب وعلاقاتها بصناعة القرار ... كل هذه قضايا ليست كلامًا عابرًا أو توهمًا ثقافيًا أو حشوًا مصطنعًا، وعليه هل يمكن صياغة مشروع تقدمي دون مجتمع قادر على حسم خياراته تجاه تلك القضايا وسواها؟ هل يمكن أن نتقدم خطوة عبر ثقافة عمل وإنتاج قديمة ونتوجه نحو مجتمع المعرفة دون أن يكون بمقدورنا أن نقدم أيضًا مشروعًا يطول مسارات وأولويات وقضايا هي شغل الناس الشاغل.
ومن الأهمية بمكان التأكيد على أنه أصبح لمجتمع المعرفة أبعاد مختلفة ومتداخلة وهي أبعاد اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية وثقافية وسياسية.. وهذه الأبعاد لابد أن تستغل بالشكل الأمثل حتى لا نظل على هامش المجتمع الدولي، ولذا فمن الضرورة عند وجود القناعة ببناء مجتمع المعرفة العماني، أن تتم دراسة التجارب الناجحة للدول المتطورة التي أقامت مجتمعاتها المعرفية وفق خصائصها الذاتية مع الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى التي أصبحت لديها المعرفة بمثابة (DNA) التفوق في صياغة أنماط الحياة وتشكيل الذوق الفني والقيم، وضاعفت من سرعة المنجزات العلمية والإبداعية .
إن الحديث عن أهمية مجتمع العلم والمعرفة وضرورة المضي فيه يجب أن تواكبه ثقافة اجتماعية لاحتضانه، مرتبطة بالمشروع الوطني الذي تتسع مساحته لتطول قضايا كبرى تتعلق بالإنسان تكوينًا وهويةً واختيارًا وقدرة على صناعة عالمه أو المشاركة في صناعته على النحو الذي يريده أو يأمله أو يطمح إليه... والفصل بينهما يذكرنا بالسؤال الأزلي هل تأتي عربة المعرفة وتطبيقاتها العلمية قبل حصان التقدم الاجتماعي أم الرهان أن يجرّ هذا الحصان العربة بما فيها ؟ هل يمكن تجزئة المعرفة إلى عناوين يمكن الاقتراب منها ومباشرتها، وأخرى يجب حذفها وتأجيلها ؟.... إن الربط بين المشروعين الوطن والمعرفة يجعلنا نركز على إيجاد الأسس المهمة لجعل الوطن حاضنة للمجتمع المعرفي، رؤيةً وبشرًا وإمكانيات وبما يبشر بإمكانية تحقيق إنجازات كبرى على المسارين، ويسهل على المشروع المعرفي أن يتماهى مع الوطن ورأس ماله البشري والاجتماعي .
وختامًا، فإن إثارة الأسئلة الشاقة على المستوى الثقافي والاجتماعي هي وسيلتنا لنشارك في عضوية نادي التنمية العالمي ونحقق مجتمع المعرفة ونعزز حضور العلم ونتائجه وحصاده.... إن ما يتهمه البعض بأنه سجال ثقافي غير منتج قد يكون في الأساس منطلقًا حقيقيًا؛ لكي يحقق تأثيرًا في عقل المجتمع بل ويعول عليه أن يدعم التوجه نحو بناء مجتمع معرفي وطني وبرؤية جمعية تشكل الوعي الحقيقي الذي لا يرى العلم من ثقب المحاضرات الثقافية والتقنية المادية فقط ولكن من خلال قدرة القاعدة الاجتماعية على إنتاج عقل قادر على استعادة السؤال بلا وجل، عقل يؤمن بمشروع تحول يطول الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية... فالمعادلة الجديدة ليست الموارد الطبيعية ولا الموارد البشرية بل قوة المعرفة والمستقبل من نصيب أولئك الذين يكونون مستعدين لطرح أسئلة صعبة أساسها المعرفة، ويجرؤون على الحلم بعالم أفضل متسلحين بالمعرفة وقيادة التغيير .
د. خالد الحمداني كاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مجتمع المعرفة مشروع ا
إقرأ أيضاً:
الكاتب الأردني محمد النابلسي: الأطفال العمانيون الباحثون عن المعرفة لديهم استعداد للدخول في حوار عميق حول أفكار فلسفية
العُمانية: يرى الكاتب الأردني والمختص في أدب الأطفال واليافعين، محمد النابلسي، أن الطفل العُماني الباحث عن العلم والمعرفة، شغوف بالثقافة، يتسم بالهدوء ودائما يخفي بداخله نضجًا غير عادي. ومن خلال لقاءه الأخير بمجموعة من الأطفال خلال فترة معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الـ 29 2025، أشار النابلسي إلى أن الأطفال في سلطنة عُمان لديهم استعداد للدخول في حوار معمّق حول أفكار فلسفية بأسلوب بسيط، وأسئلة لم يسمعها من قبل في أي بلد آخر، ـ وفق تعبيره ـ وقال: وجدت أن التواصل مع الطفل العُماني يحتاج إلى صبر، لكنه يثمر كثيرًا من الفهم والنضج.
فالنابلسي الذي لديه العديد من المشاركات في مؤتمرات ثقافية ومتخصصة في مجال الكتب والمسرح يمتلك رصيدًا أدبيًّا خاصًّا بأدب الطفل واليافعين بما فيها "تمر ومسالا " ورواية "الحكي عن أيمن وفراشاته" و"نشارة الخشب" وغيرها من الإصدارات، كما حصل على جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال (القصة الخيالية) - المركز الأول عن سنة 2020 عن قصة "غول المكتبة"، كما أخرج مسرحيات "الليلة الكبيرة" و "رحلة حمودي البحرية".
وفي حديث خاص لوكالة الأنباء العُمانية يتحدث النابلسي عن شغفه بأدب الطفل وما أوقد روح البدايات والمحفزات لا تزال تؤكد ثبات واستمرارية هذا الشغف، وإسهام الخلفية الثقافية للمبدع والكاتب واستمراريته في أن يكون مبتكرًا فيما يود أن يقدمه من نتاج إبداعي مغاير ويقول: بدأت علاقتي بأدب الطفل من باب شخصي جدًا، شغفي بالقراءة كان المحفز الرئيس للكتابة، والفكرة دائمًا مرتكزها حول إضافة شيء جديد، وليس تكرار للآخر، قد أتقاطع مع الكثير من الكتّاب والأدباء في بعض الأفكار، لكن لكل منا لغته ورسالته وأسلوبه الخاص، المسألة مرتبطة بإثراء مشهد الكتابة للطفل.
ويضيف: من هنا بدأ الحلم، أن أكون كاتبًا يسهم في تشكيل ذاكرة جديدة للطفل العربي لا أن ينقل له ثقافة مستوردة فقط، ولا اجترار ثقافة مبنية على شعارات مفرغة من محتواها أو عنترية اللهجة، فالشغف لا يولد مرة واحدة، بل يتجدد كلما التقيت بطفل يروي لي ماذا فعلت به إحدى قصصي، أو معلم يستخدمها داخل الصف، أو أمّ تشكرني لأن كلمات بسيطة أثارت نقاشًا عائليًّا عميقًا، وما يؤكد هذا الثبات هو إدراكي أن هذه الرسالة أعمق من مجرد حكاية. الكتابة للطفل فعل ثقافي، وتربوي، وإنساني. وكوني عشت في بيئات مختلفة ومتعددة الثقافات – ما بين الكويت والأردن والإمارات وتجربتي الخليجية عامة – أضاف هذا لي أدوات لفهم الطفل العربي بتنوّعه الجغرافي واللغوي والاجتماعي. ويبيّن أن الخلفية الثقافية للكاتب ليست رفاهية، بل ضرورة، لأنها تمنحنا وعيًا نقديًّا يُغني التجربة، ويمنحنا القدرة على تقديم محتوى لا يكرر نفسه، بل يُبدع من رحم الاختلافات والبيئات.
ويتطرق النابلسي إلى تجربته الخاصة مع أدب الطفل في سلطنة عُمان، وهي المشاركة الأخيرة في معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الـ29 2025، وتقديمك لعدد من الحلقات العلمية والعملية، ويشير إلى علاقة التواصل مع الطفل العُماني، ورؤيته في تجارب مسرح الطفل في الوطن العربي وأوجه التقدم أو القصور فيها ويوضح: زيارتي الأخيرة لسلطنة عُمان تعد واحدة من أكثر التجارب ثراءً في مسيرتي الأدبية. لم تكن فقط زيارة لمعرض، بل رحلة لاكتشاف الطفل العُماني، بثقافته، وفضوله، وهدوئه الذي يخفي بداخله نضجًا غير عادي. قدّمتُ في تلك المشاركة حلقتين في ركن الضاد "فن كتابة الرسائل إلى المستقبل"، و" الكتابة الإبداعية لليافعين".
ما لفت نظري هو مدى الاستعداد الذي أبداه الأطفال للدخول في حوار معمّق حول أفكار فلسفية بأسلوب بسيط. أسئلة لم أسمعها من قبل في أي بلد آخر. وجدت أن التواصل مع الطفل العُماني يحتاج إلى صبر، لكنه يثمر كثيرًا من الفهم والنضج.
التجربة جعلتني أقتنع أكثر أن الطفل العربي ليس جوهرًا واحدًا كما يدعي الكثير، ولكنه تنوّع ثري، وعلى الكاتب أن يتحرك بهذا الوعي. وأرى أن المؤسسات الثقافية العُمانية تملك بنية تنظيمية رصينة، تدعم مشاركة الكتّاب العرب، وهناك حاجة لتعزيز حضور أدب الطفل في تفاصيل المعرض، عبر جلسات حوارية أكبر، ومشاركات نقدية أكثر، وعقد بعض الملتقيات والفعاليات التي تهم صنّاع كتب الطفل ضمن البرنامج الثقافي للمعرض.
ولأن سلطنة عُمان تمتاز بتنوع ثقافي وحضاري يتقاطع مع الجانب الاجتماعي، ما يُشكّل ثروة حقيقية لإيجاد صوت أدبي مغاير، هنا يشير "النابلسي" إلى الكيفية التي يمكن من خلالها توظيف هذا التنوع في صياغة أدب طفل يُعبّر عن الواقع العُماني بخصوصيته، وأن يكون قادرًا على العبور نحو الفضاءات الثقافية العربية بطرق ذات نطاق شمولي ويقول: سلطنة عُمان تمتاز بثقافة متعددة الطبقات: تاريخ غني، تنوع جغرافي من الجبل إلى البحر، ولهجات محلية ذات إيقاع شعري، وعلاقات اجتماعية مبنية على المروءة والكرم والهوية المجتمعية المتماسكة. كل هذه العناصر تُشكل خامات ثمينة لأدب الطفل، ولكي نعبر بهذه الخصوصية إلى فضاء عربي أوسع، نحتاج إلى "الأدب المُتشبّع محليًا، المنفتح عالميًا". على الكاتب أن يستثمر في التفاصيل العُمانية – من حكايات الجدات، إلى البيئة البحرية، إلى الأزياء والاحتفالات – ولكن أن يُعيد صياغتها ضمن حبكة تصلح لأي قارئ عربي. هذا هو سر الأدب الذي يُصدّر ثقافته دون أن يُغلق أبوابه، فأدب الطفل العُماني قادر على أن يكون جسرًا ثقافيًا، متى ما تم توظيف عناصره بخيال حر ووعي عميق.
وينتقل "النابلسي" إلى مسرح الطفل والإخراج المسرحي، والعلاقة بين النص الأدبي للطفل والمسرح الموجَّه له اليوم، ليوضح التحديات التي تواجه الإخراج، وخاصة الأعمال الموجَّهة للأطفال مقارنةً بمسرح الكبار ويقول: من وجهة نظري، مسرح الطفل هو أحد أكثر الأدوات التربوية تأثيرًا في وعي أجيال سابقة، لكنه لم يحصل على مكانته بعد في ذهنية هذا الجيل من الأطفال، لأنه للأسف يُدار في الغالب من باب الترفيه لا التربية. النصوص المسرحية المقدمة للأطفال في الوطن العربي غالبًا ما تقع في فخ التبسيط المفرط، أو العظة المباشرة، أو التكرار. بينما في تجارب مسرحية في دول مثل تونس والمغرب، نرى اتجاهات جديدة تجمع بين الفن والتربية والمعالجة النفسية بطريقة احترافية.
ويبيّن: من التحديات التي تواجه الإخراج المسرحي الموجّه للأطفال: الميزانيات الضعيفة، غياب التدريب المتخصص، وأحيانًا النظرة الدونية لفن الطفل من قبل بعض صنّاع المسرح الكبار. يعتقد البعض أن إخراج عمل مسرحي للطفل أسهل من عمل للكبار، بينما الحقيقة هي العكس تمامًا. الطفل لا يُجامل، ولا ينتظر "ذروة الأحداث"، بل يحتاج لشد انتباهه منذ الدقيقة الأولى. أرى أن العلاقة بين النص المسرحي الموجّه للطفل والإخراج بحاجة إلى إعادة بناء. كثير من النصوص لا تُكتب بروح المسرح بل بروح الكتاب المقروء، وهذا يُعيق المخرج في تحويله إلى مشهد بصري حي. الكتابة للمسرح يجب أن تُراعي الحركة، الصوت، الإيقاع، والحوار الداخلي والخارجي للشخصيات.
ويذهب "النابلسي" إلى الممكنات التي تجعل من مسرح الطفل وسيلة تربوية وفكرية تُسهم في بناء وعي الأجيال في ظل الخيارات البصرية المتعددة المتاحة، والتي قد تُشكّل تحديًا حقيقيًّا لدى صنّاع العمل المسرحي على وجه التحديد، ويؤكد بقوله: في ظل وفرة الخيارات البصرية الحديثة تبدو مهمة المسرح أكثر صعوبة، لكنها ليست مستحيلة. ما يُميز المسرح هو حضوره الحي، واللقاء المباشر بين الطفل والفن، وهو ما لا تستطيع الوسائط الرقمية تحقيقه بنفس التأثير. التحدي هنا هو أن نُعيد صياغة المسرح ليكون مواكبًا للزمن لا مُجمدًا في قوالب تقليدية. أؤمن أن ممكنات مسرح الطفل التربوية تكمن في عناصر مثل التشاركية، والاندماج، والتعبير عن الذات. الطفل عندما يصبح جزءًا من التجربة، تتضاعف الاستفادة. علينا أيضًا أن نكسر فكرة المسرح الذي "يشرح" أو "يعظ"، ونبني عوضًا عنه مسرحًا "يُسائل" و "يُفكر". في هذا الإطار، من الممكن توظيف تقنيات الواقع المعزز أو المسرح التفاعلي، مع الحفاظ على البنية الإنسانية للمسرح كفن حي. لن ينافس المسرح الألعاب، لكنه يستطيع أن يقدم شيئًا لا تقدمه الألعاب: الإنسان.
وفيما يتعلق بالعولمة الثقافية والطفرة التكنولوجية، وما يمكن أن يقوم به المسرح ليحافظ على هويته ويظل قريبًا من واقع حياة الطفل، مرورًا باللغة التي لا يزال يتلقاها الطفل اليوم، التي ما إذا كانت صالحة، أم أن الوقت قد حان لتفكيكها وإعادة بنائها بما يُناسب المتغيرات الجديدة، يقول "النابلسي": قد أكون من المتحفظين على مصطلح العولمة في عالم كبير ومتعدد الثقافات، فالعالم دائمًا كان فيه هذا التعدد، والحفاظ على التراث كجزء من الهوية، يشترط أن يكون دون الوقوع في فخ "الحنين المزيف". مسرح الطفل في العالم العربي لا يجب أن يكون مسرحًا يعيد تدوير التراث فقط، ويفترض أن للهوية شكلًا واحدًا، والعولمة هو العدو الأكبر، بل عليه أن يُفسّر الحاضر ويستشرف المستقبل. اللغة التي نخاطب بها الطفل اليوم بحاجة فعلًا لإعادة تفكيك. لغة المسرح يجب أن تُجيد مخاطبة الحواس الخمس، أن تبتعد عن المباشرة، وتستخدم الصورة، الإشارة، الموسيقى، والإيقاع، والمزاج الذي يحمله الطفل ضمن المحفزات البصرية والذهنية المحيطة به. يجب أن تكون اللغة "حية"، لا جامدة، وأن تنتمي لعالم الطفل كما يراه لا كما نريد نحن أن يراه. نحتاج إلى كتاب مسرحيين يُجيدون لغة الشاشة كما يُجيدون لغة الركح. المسرح إن أراد البقاء، عليه أن يُخاطب الطفل بلغته، لا بلغة زمن آخر.
ويذهب النابلسي للحديث عن واقع الجوائز الأدبية كونه حاصلًا على "جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال"، ودورها في دعم الأديب على المستوى الفني والأدبي، وأهميتها بالنسبة له وما إذا حققت الجوائز الثقافية الغاية من وجودها وتوظيفها كمنصات لتحفيز الكتابة النوعية في أدب الطفل فيالعالمالعربي ويؤكد: حصولي على جائزة عبدالحميد شومان لأدب الأطفال (القصة الخيالية) لم يكن فقط تتويجًا لنصّ أدبي، بل اعترافًا بأن الحلم الذي حملته طويلًا يمكن أن يصبح واقعًا. الجوائز الأدبية لها أثر مضاعف: شخصي وفني. لقد منحتني ثقة، وفتحًا لأبواب النشر والتعاون، وفنيًا، حمّلتني مسؤولية أن أكون في مستوى التوقعات، وأن أواصل دون أن أكرر. ولكن أقول إن هناك كثيرًا من الجوائز تتحول إلى لحظة احتفالية فقط، دون متابعة الأثر أو دعم نشر النصوص الفائزة أو حتى المعايير الواضحة في التقييم. من المهم أن تتحول الجوائز إلى "منصات بناء" لا مجرد "منصات تتويج". يمكن أن تقدم منحًا، برامج إقامة، أو دعمًا لإنتاج النصوص مسرحيًّا أو بصريًّا. أؤمن بأن الكتابة للطفل عمل وطني، ثقافي، مستقبلي. هي ليست فقط حول متعة القراءة، بل هي صياغة وعي جديد، وصناعة أمل طويل المدى، تتكاتف بها كل الأطراف.