«طوفان الأقصى» و«ردع العدوان»: إغلاق النقاش وفتحه
تاريخ النشر: 1st, January 2025 GMT
ما بين 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ويومنا هذا هبّ علينا زلزالان: عمليّة «طوفان الأقصى» وعمليّة «ردع العدوان». وبالتضامن كما بالتناقض بين العمليّتين، تغيّر كلّ شيء تقريباً في المشرق العربيّ، وتغيّرت أشياء كثيرة في عموم الشرق الأوسط.
لكنّ أحد الفوارق الأساسيّة بين العمليّتين يتّصل بالنقاش العامّ.
فالبيئة العربيّة التي أيّدت «الطوفان» مارست تحريماً على كلّ نقد أو حتّى تحفّظ، وهذا علماً بأنّ التأييد كان أمراً صعباً على مَن احتفظ بعدد من القناعات العقلانيّة والإنسانيّة والنفعيّة.
فلهؤلاء الأخيرين بدا «الطوفان» عملاً مرتجلاً لا يتخلّله تمييز بين بشر وبشر، ولا اعتبار لتوازنات القوى، ناهيك عن ارتكازه إلى أشدّ الأفكار والقيم بدائيّة، وإفضائه إلى كارثة محقّقة بحقّ الشعب الفلسطينيّ. رغم هذا، لم تبق كلمة في كتاب الأهاجي إلاّ استُخدمت ضدّ الذين عارضوا ذاك الحدث أو حذّروا منه. فالخيانة والعمالة والصهينَة والارتزاق راحت تتسابق ناشرةً جوّاً مَقيتاً من امتداح الذات المرفق بإسكات كلّ صوت نافر. وفي سيادة وعي كهذا، إباديّ للعقل وللأخلاق وللحرّيّة، غُضّ النظر عمّا لا يُغضّ عنه النظر. فإذا بعقلانيّين مفترضين يهزجون وراء يحيى السنوار ومحمّد الضيف، وإذا بملاحدة مفترضين يستعيرون لغة حسن نصر الله الغيبيّة، فيما وَجدت نِسويّات متشدّدات في الناطق أبي عبيدة، وربّما في زميله يحيى سريع، الرجل الأمثل لمجتمع المساواة الجندريّة.
باختصار، أغلقت التفاهة المدجّجة بقوّة «القضيّة» باب النقاش، وبدا واضحاً أنّ شرط هذه «القضيّة» الشارط تعطيل كلّ شيء حيّ. فإنسان «الطوفان» تكشّف عن إنسان آحاديّ البُعد، لا يستطيع أن يكون «مع» و«ضدّ» في وقت واحد، إنسانٍ قَبَليّ يضحّي بكلّ معنى وقيمة كي يقاتل إسرائيل، وكي يقاتلها كيفما اتّفق. إنّه، بكلمة، أقرب إلى جنديّ ينفّذ، لكنّه بعد ذاك لا يعترض، مكرّساً كلّ نفسه لملاقاة فرحة الانتصار المبين.
في المقابل، لم تتصرّف البيئة المتحمّسة لإسقاط الأسد ونظامه على هذا النحو، بل زوّدتنا بمشهد مختلف. فهي لم تنتظر خصوم الثورة وأعداءها كي يوجّهوا سهامهم للحكم الجديد، بل بادرت بنفسها إلى ممارسة النقد، ومارسته بقسوة لا ترحم. هكذا خرجت منها أعلى أصوات الهجوم على السلطة التي أنجزت إسقاط الأسد وفتح السجون وإتاحة العودة للاّجئين وتحرير سوريّا من النفوذين الإيرانيّ والروسيّ. وبالفعل فُتح باب النقاش الذي طال كلّ شيء تقريباً، من السياسة إلى الاجتماع، ومن مفهوم الشرعيّة إلى وضع النساء...
ولئن رأى البعض في المبايعة التي حظي بها «الطوفان» دليلاً على قوميّة المعركة، أو دينيّتها، بما يجعل «قضيّة» «الطوفان» تعبيراً عن «تناقض رئيسيّ» لأجله تؤجَّل الحياة، اختلف الأمر في التعليق على «ردع العدوان». فنحن نادراً ما سمعنا تعبير «قضيّة» يُطلق وصفاً لحدث يتّصل مباشرة بحياة 24 مليون إنسان، وينهي 54 عاماً من حكم مجرم. فكأنّما عصفَ بالبيئة الداعمة لإطاحة الأسد قلق من لغة المبايعة رافق احتفالها بالحدث. وبعد كلّ حساب، فإنّ اللغة تلك، التي أحاطت بـ«الطوفان»، أختُ لغة الطغيان الأسديّة في خنق التناقضات وتأجيل الحياة.
ثمّ لئن كانت الأداة التي نفّذت العمليّتين سياسيّة – دينيّة، فإنّ البيئة التي بايعت «الطوفان» صدرت عن مقدّمات آيديولوجيّة، دينيّة أو قوميّة أو يساريّة يؤرّقها حسم «التناقض الرئيسيّ» مع الإمبرياليّة، وهو ما كان سبباً وراء التماهي، الذي لا يخالطه تحفّظ، مع السنوار ونصر الله. أمّا في الحالة الثانية، وبنتيجة الابتعاد عن عالم «القضايا» ولغتها، وربّما بتأثير احتكاك النقّاد السوريّين بمجتمعات ديمقراطيّة لجأوا إليها، فإنّ الأداة التي نفّذت «ردع العدوان» لم تُكافأ بغير النقد والتحفّظ.
فالذين واللواتي شكروا أحمد الشرع، سريعاً ما قرنوا شكرهم بنقده. ونعرف أنّ ثمّة في ثقافتنا، بالقديم منها والحديث، ما يطالب الشاكر بأن يطأطئ رأسه أمام المشكور، فلا يتوقّف عند نواقصه وقصوره التي يتكفّل تفاديها بإبقائه مشكوراً وإبقاء الشاكر شاكراً. ومن بين آلاف التعابير عن هذا الموقف المركّب، كتب الشاعر فرج بيرقدار، وهو نزيل سجون الأسد لسنوات طويلة: «للحقيقة والأمانة نجحت إدارة العمليات العسكرية في تحقيق ما يشبه المعجزة، أعني أنها نجحت في كتابة الحلقة الأخيرة من مسلسل حكم عائلة الأسد، وأعتقد أن معظم السوريين يقدِّرون لها هذه المأثرة. ولكن نجاح إدارة العمليات في هذه الخطوة، بل القفزة الرائعة، لا يعني أنها صارت تلقائياً تمثل الثورة وأهدافها الأولى والأساسية. تمثيل الثورة يقتضي إنجاز خطوات كثيرة أبسط معاييرها أن تكون بأقوالها وأفعالها نقيضاً للأسد وأجهزته».
هكذا نجدنا أمام حدث كبير يقول لنا، كما لو أنّه يؤجّل الحياة أو يُقفلها: «لا تناقشوا، بايعوا»، وأمام حدث كبير آخر يطالبنا بالنقاش وبجعل «مائة زهرة تتفتّح ومائة مدرسة تتبارى»، بحسب الشعار الذي رفعه ماو تسي تونغ قبل أن يخونه. فأيّ الوجهتين نختار؟
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: سقوط الأسد حصاد 2024 الحرب في سوريا عودة ترامب خليجي 26 إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية غزة وإسرائيل سقوط الأسد إيران وإسرائيل الحرب في سوريا إسرائيل وحزب الله ردع العدوان ة التی
إقرأ أيضاً:
بلا مواربة
#بلا_مواربة
د. #هاشم_غرايبه
على مستوى أمتنا، وبعد مرور عشرين شهرا على معركة الطوفان المجيدة، باتت الأمور مكشوفة، فمن كان قلبه عليها، وغاية مراده انتصارها واستعادتها مجدها الغابر، ارتفعت روحه المعنوية لشحنة الأمل الهائلة التي زودته بها حركة المقاوكة الإسلامية، لتثبت أن الإيمان الصادق يصتع المعجزات، فيعوض التباين الهائل في القدرات العسكرية والتقنية.
أما من كان في قلوبهم مرض، فقد تلقوا ضربة قاسية، فسكتوا بداية فلم يجرؤوا على اظهار مشاعرهم الحقيقية، بل تظاهروا بتأييد المقاومين، مع محاولة انكار البعد الإسلامي الذي صنع هذه البسالة، مؤملين أنفسهم أن يتم القضاء عليهم سريعا، لكنهم مع مرور الأيام، ومع فشل العدوان على شراسته، بدت خيبة أملهم، فلم يتمكنوا من كتمان ما تكنه صدورهم من حقد على متبعي منهج الله، فبدت ألسنتهم تكشف ما في نفوسهم من البغضاء.
هذه الفئة التي كانت تمثل معسكر المنافقين التاريخي كانت متخفية وراء شعارات زاهية، فظل تمييزها عن المخلصين الحقيقيين للأمة صعبا على الكثيرين، كونها تدعي أنها وباتخاذها منهجا بديلا لمنهج الله، فإنها بذلك تسعى لمصلحة الأمة، وتهدف لتحقيق تقدمها بمنهج حداثي أكثر نفعا وجدوى.
لكنها بعد هذه المعركة الفاصلة، بات من السهل تحديدها، بل أصبح تمييز مكونات هذا المعسكر واضحا بيّناً.
الفئة الأولى الأهم هي أنظمة (سايكس بيكو) الحاكمة ورهطها وأدواتها الترويجية من مشايخ طاعة ولي الأمر، وهؤلاء هم الأسطع وضوحا منذ تأسيسها قبل قرن، إذ أنها ملتزمة على الدوام بإملاءات من أوجدها (المستعمر الغربي)، والتي مهما حاولت الادعاء بأن قراراتها استجابة للمصلحة الوطنية والقومية، فإنها كانت تفشل في اقناع المواطنين بأنها نابعة من قناعاتها وليست مفروضة عليها من أولى أمرها.
لقد كان لعملية الطوفان وقوعا مزلزلا على هذه الفئة، وربما لا تقل هولا عن الصدمة التي تلقاها المعسكر الصهيو- صليبي، فقد أسقطت كل مقولاتهم عن عدم قدرة الأمة على مواجهة العدو، وأنه لا مناص أمامها غير الاذعان لشروطه وتقبل هيمنته بالتطبيع، كما دحضت كل حججهم للبطش بالإسلاميين بادعاء أنهم يتاجرون بالدين.
أما الفئة الأخرى من المنافقين، فهم خليط متنوع من المسيسين الذين يتبعون منهجا فكريا منافسا للمعارضين الإسلاميين، وكانت حجتهم أن الاسلاميين عملاء للغرب، فكانت عملية الطوفان ورد الغرب العنيف عليها قاصمة لادعائهم ذاك، وكاشفة للسبب الحقيقي لعدائهم لهم، وهو أنهم لافتقارهم الى الشعبية في مجتمع يعادون منهجه الإسلامي، فهم يعتقدون أن فرصهم ستتعزز بالقضاء على الإخوان المسلمين أو بقمعهم على الأقل، لذلك فهم يفرحون بكل ما يصب في ذلك الاتجاه، ويكرهون أن ينسب فضل الى أية فئة تنتهج الاسلام.
يضاف الى هؤلاء المسيسين فئة غير مسيسة من الذين يستطيبون القعود ولا يحبون بذل الجهد ولا الجهاد، لذلك يكرهون أن يقوم نظام سياسي يتبع منهج الله ويطبق الاسلام.
ومعهم فئة أخرى من المواطنين غير المسلمين، فهؤلاء لا يريدون أن تقوم للاسلام دولة، حسدا من عند انفسهم، أو تخوفا منهم أنها ستغمطهم حقوقهم.
لوجاهة ما سبق ذكره، يلزم الوعي لأساليبهم الخبيثة، التي تصب بلا شك في القضاء على الروح الجهادية التي أحيتها عملية الطوفان، وإشاعة الانهزامية في الأمة وتقبلها التطبيع مع العدو، وبث الإحباط في نفوس المقاومين وقاعدتهم الشعبية الحاضنة في القطاع لكسر شوكتهم والقضاء على فكرة المقاومة.
في هذه الحالة يحسن بنا الاستنارة بالتجربة الأفغانية.
كثيرون منا انساقوا وراء الإعلام الغربي المضلل وأذنابه بيننا، فتكونت لديهم فكرة مزورة، وهي أن طالبان تتكون من أشخاص متشددين جاهلين رافضين للعلم والتحضر، ويمنعون تعلم الفتيات.
والحقيقة عكس ذلك تماما، فالحركة تأسست أصلا بين طلاب الجامعات، وليس بين الأميين كما يزعم معادو الاسلام، لذلك فقياداتهم يحملون الشهادات العلمية، وليست تخصصاتهم مقتصرة على العلوم الدينية بل على العلوم التقنية والتطبيقية أيضا.
بعد احتلال بلادهم حاول الغرب تحويلها الى العلمانية على يد عملائهم من الأنظمة العميلة، ففشلوا بسبب صمود المقاومة الإسلامية (طالبان)، وبعد زمن يئس المستعمر وانسحب، فزال الزبد، وهرب أذنابه المحليون في ساعة واحدة، وتسلم المقاومون السلطة بلا قتال، وبدؤوا في العمل لنهضة بلادهم.
الخلاصة أنه لا يحيي العزائم غير الإيمان، ولا يتحقق الصمود إلا بالتلاحم بين القاعدة الشعبية والمقاومة.