عربي21:
2025-08-01@04:33:39 GMT

حركة فتح بين الأمس واليوم في الذكرى الـ60 لانطلاقتها

تاريخ النشر: 10th, January 2025 GMT

في أحراش يعبد ونفق عيلبون في الأول من كانون الثاني/ يناير عام 1965؛ أُعلن عن انطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني" فتح"، وأعلن عن استشهاد شهيد الثورة الأول "أحمد موسى" لتبدأ مرحلة جديدة من النضال الوطني الفلسطيني، شكلت له الجماهير الفلسطينية والعربية حاضنة قوية لما جسد لها من طموحاتٍ وآمال لتحرير فلسطين وهزيمة المشروع الصهيوني في المنطقة، وأصبحت هذه الانطلاقة تأريخا لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة.

وكان شعار "فتح ديمومة الثورة والعاصفة شعلة الكفاح المسلح" ملهما لكافة أطياف الشعب الفلسطيني وحركات وفصائل العمل الوطني في تصعيد وتعزيز النضال ضد الصهيونية والإمبريالية العالمية، مما أكسبه الدعم الواسع من أحرار العالم والقوى الثورية فيه، فحاز الكفاح الفلسطيني ممثلا بقائده الرمز أبو عمار على راية الثورة العالمية، تقديرا لنضال شعبنا في مسيرة الثورة العالمية وفي مناهضة الصهيونية والإمبريالية والاستعمار.

ومع تلاحق التطورات والأحداث العالمية، وتراجع موازين القوى لصالح القوى المضادة والعالم الغربي، وزيادة الهيمنة الأمريكية في العالم، وبروز سياسة القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية، وانكشاف ظهر الثورة بخسارة داعميها وحلفائها؛ تفشى الفساد والتجاوزات داخل صفوفها، وذلك من خلال دور العملاء والمنتفعين وتدخلات الأنظمة الرجعية منها والتقدمية، وتكالب مؤامرات التصفية للوجود الفلسطيني المسلح في دول الطوق، وبدأ الحديث عن التسوية والتراجع عن مبادئ وأهداف النضال الفلسطيني.

لم يكن متوقعا أن تصل الروح الانهزامية لدى المقاوم الفتحاوي إلى هذه الدرجة من التنازل والمساومة، بل إلى الاصطفاف في خندق الأعداء، وكأننا أصبحنا أمام ثورة مضادة من خلال ما تقوم به السلطة الوطنية في رام الله؛ ممثلة بأجهزتها الأمنية القمعية والتي تقوم بحصار المقاومين وملاحقتهم واعتقالهم أو قتلهم، والمطالبة أيضا بتسليم السلاح تحت ذرائع واهية، واعتبارهم خارجين عن القانون
وبرغم كل هذا الاختلال في موازين القوى وضعف الدعم العربي وحصار الثورة، لم يكن متوقعا أن تصل الروح الانهزامية لدى المقاوم الفتحاوي إلى هذه الدرجة من التنازل والمساومة، بل إلى الاصطفاف في خندق الأعداء، وكأننا أصبحنا أمام ثورة مضادة من خلال ما تقوم به السلطة الوطنية في رام الله؛ ممثلة بأجهزتها الأمنية القمعية والتي تقوم بحصار المقاومين وملاحقتهم واعتقالهم أو قتلهم، والمطالبة أيضا بتسليم السلاح تحت ذرائع واهية، واعتبارهم خارجين عن القانون، وأنهم ينفذون أجندات خارجية، ذلك في الوقت الذي تُشن فيه أبشع حرب نازية على شعبنا في قطاع غزة، وارتكاب مختلف أشكال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

والأكثر غرابة أن تصدر تصريحات من أعلى المستويات في السلطة وحركة فتح، أمثال محمود الهباش المتأرجح دينيا، والجاغوب وأنور رجب وحسين الشيخ، والسفير الفلسطيني في الأردن، وأحمد المجدلاني المصطاف على شواطئ هرتزيليا، ولعل أبلغها وآخرها ما صرح به الفريق رجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة بقوله بأن "لا وحدة وطنية مع هؤلاء"، و"أن مهمة الأمن الفلسطيني ليست مقاومة الاحتلال أو الاشتباك معه". إذا ما هي مهمته وما هو دوره؟ ألا يتماهى هذا مع أهداف الاحتلال بقتل المقاومين ونزع أسلحتهم، وتدمير المخيم الرمز والأيقونة جنين؟ ألا يستهدف هذا ما يرمز إليه هذا المخيم لحق العودة وقضية اللاجئين؟ وهل أصبح تسليم المناضلين بل عشرات المناضلين منذ انتفاضة الأقصى عام 2000 وحتى يومنا هذا، وممارسة القمع من قبل الأجهزة الأمنية بحق شعبنا وحصار المخيم، هي المهام الحقيقية لهذه الأجهزة؟ هل هذه التصريحات وهذه الممارسات تتناسب مع الوحدة الوطنية المنشودة ؟ وهل يليق هذا بحركة فتح ذات الأمجاد والتاريخ النضالي العريق والإنجازات التي يفخر بها كل ثائر، بل كل فرد من أفراد شعبنا؟ هل يمثلها هذا الخطاب؟ أليس هذا تنكرا لدماء الشهداء والشهداء القادة الذين سقطوا دفاعا عن البندقية والقضية؟ ألا يشكل هذا طعنا للمواجهة الأخيرة التي أبداها القائد الرمز أبو عمار ضد قوات الاحتلال قبل استشهاده؟

أية قراءة موضوعية لكل هذه الممارسات ليس لها إلا تفسير واحد؛ وهو تقديم أوراق اعتماد جديدة للإدارة الأمريكية القادمة إلى البيت الأبيض ولقادة "إسرائيل"؛ تمهيدا لليوم التالي للحرب في غزة وتمهيدا لاستحقاق "خلافة فخامة الرئيس" واستعراضا للقوة ووفاء لتعليمات دايتون، ولإقناع قادة الاحتلال والأمريكان بقدرة الأجهزة الأمنية والسلطة الوطنية على الإمساك بزمام الأمور
إن أية قراءة موضوعية لكل هذه الممارسات ليس لها إلا تفسير واحد؛ وهو تقديم أوراق اعتماد جديدة للإدارة الأمريكية القادمة إلى البيت الأبيض ولقادة "إسرائيل"؛ تمهيدا لليوم التالي للحرب في غزة وتمهيدا لاستحقاق "خلافة فخامة الرئيس" واستعراضا للقوة ووفاء لتعليمات دايتون، ولإقناع قادة الاحتلال والأمريكان بقدرة الأجهزة الأمنية والسلطة الوطنية على الإمساك بزمام الأمور، متناسين مشاريع الضم والتهويد التي عبر عنها قادة الاحتلال وأركان الإدارة الأمريكية القادمة، ومتناسين فكر وعقيدة الصهاينة التي نبع منها مشروع نتنياهو للشرق الأوسط الجديد في الاستيلاء على الأرض وتهجير أبناء شعبنا إلى مناف جديدة، وتصفية القضية الفلسطينية عبر القضاء على المقاومة.

أليس من العار أيها المقاوم الفتحاوي الأصيل الملتزم أن تخلع ثوبك، وترتدي ثوب الرجل القمعي السلطوي الدايتوني ضد شعبك ومقاوميه؟ وأنتم يا سيادة الفريق رجوب كم كنا مزهوين وفخورين بحديثكم مع الشهيد صالح العاروي في المقابلة التي جمعتكما وأنتما تتحدثان عن الوحدة الوطنية ووأد الانقسام! وكم كنا نفخر برؤيتكم تحملون راية فلسطين وأنتم تتقدمون وفدها الرياضي في المحافل الدولية! وكم ترك في نفوسنا أثرا طيبا ذاك الاعتقال والاحتجاز الأخير لسيادتكم من قبل الصهاينة متجاوزين حصانتكم! وقلنا حينذاك إنه لشرف كبير لكم وبراءة تامة من اتهامات السوء التي سبق أن قيلت عنكم. ليس من الجائز يا سيادة الفريق أن تُلقي بتاريخك النضالي المشرف، وسنوات اعتقالك الـ17 إلى مهاوي التراجع والتماهي مع أجندة المحتلين، ولا يليق بك أن تتخلى عن دور المقاوم الفتحاوي الأصيل الملتزم الذي مارس الكفاح المسلح قولا وفعلا، ولم يأبه آنذاك لموازين القوى واختلالها، وكنت ترى في الكفاح المسلح استراتيجية وليس تكتيكا كما نصت عليه مبادئ الحركة.

نأمل يا سيادة الفريق، أنت وأخوتك الآخرين في الحركة العودة معا؛ لنتمثل مبادئ وأهداف حركتنا فتح التي انطلقت من أجلها قبل 60 عاما، ونأمل أن نوقد شعلة الثورة مع كل فصائل العمل الوطني، ونلقي باتفاقات أوسلو وملاحقها إلى مزابل التاريخ، والتي قال عنها ذات يوم القائد الرمز أبو عمار أن "أوسلو فخ، وقد وقعنا فيه".

نأمل يا سيادة الفريق أن تتقدم صفوفنا ونحمل راية فلسطين معك ووراءك؛ لكي تبقى فتح ديمومة الثورة وشعله الكفاح المسلح.

[email protected]

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطيني فتح مقاومة الاحتلال احتلال فلسطين مقاومة فتح مقالات مقالات مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الکفاح المسلح

إقرأ أيضاً:

فخاخ الطحين.. حيث يصطاد الاحتلال جوع الفلسطيني

لم تكن ماريا شيخ العيد، ذات الأربعين عامًا، تملك ترف الاختيار بين الموت أو الانتظار. في فجر رمادي من يونيو، شدّت حجابها على رأسها وخرجت وحدها من خيمتها المتواضعة في مواصي خان يونس، تاركة خلفها سبعة أفواه صغيرة جائعة، وعدتهم بكيس دقيق وقليل من الزيت والسكر من مركز توزيع المساعدات غرب رفح، وقالت إنها لن تعود إلا به. لم تعلم أنها ستعود فعلًا، لكن لا محمّلة بالخير، بل محمولة في كيس أبيض كُتب عليه «هنا تنتهي القصة».

دماء على كيس الطحين

ماريا، هي شهيدة المساعدات الثانية في عائلتها، بعد أن فقدت زوجها بالطريقة ذاتها قبل نحو شهرين. فكانت لصغارها الأم والأب والمعيل في وقتٍ لم يعد فيه للغزيين إلا الأمل. كانت تحتمي بضعفها كامرأة، في يومٍ خُصص لتوزيع المساعدات للنساء فقط. زحفت وسط الزحام، تواسي قلبها المتعب بصورة أطفالها ينتظرونها عند مدخل البيت. لكنها لم تصل، فطلقة واحدة من قناصٍ إسرائيلي وضعت نهاية لصراعها مع الجوع، وأسقطتها أرضًا، جثةً تنزف في صحراء «المساعدات».

تركت ماريا 7 أطفال، أكبرهم (14 عامًا)، أيتامًا تمامًا، ينتحبون بكاءً من الفقد، وتصرخ أمعاؤهم من شدة الجوع، محاصرين بين وجع اليتم والهزال على بوابات مستشفى ناصر الطبي بخان يونس.

أسبوعان من الجوع كانوا كافيين ليحفروا في قلب ماريا رغبة بالحياة، أو ما تبقى منها. خرجت لترى المساعدات، فكان في انتظارها رصاص، وبدل كيس الدقيق، كيس موتى. هكذا يعود الفلسطيني من رحلة الخبز في زمن الحصار.

مصائد للذبح

في ظلال المجاعة الخانقة التي تضرب قطاع غزة، خرجت منظمة أُطلق عليها اسم «غزة الإنسانية» إلى العلن في 25 مايو الماضي، وهي مبادرة مشتركة أمريكية إسرائيلية، قيل إنها جاءت لتوزيع المساعدات الغذائية على المدنيين. لكن الأرض تشهد بما هو خلاف ذلك، فالمراكز التي خصصت لتوزيع الطعام أصبحت شراك موت، حيث يُقتل فيها الناس وهم يحملون بطاقات الانتظار بدلًا من البنادق، ويحملون الأطفال بدلًا من الأكياس.

هذه المنظمة، رغم صيغتها الوردية، لم تكن يومًا محل ثقة لدى الفلسطينيين، ولا حتى لدى منظمات الإغاثة الدولية. جميع التقارير الأممية أكدت أن هذه المراكز تحوّلت إلى «مصائد للذبح»، وأنها وُضعت لا لتخفيف المجاعة، بل لتجميل صورة الاحتلال الغاصب، وتبرير وحشيته أمام الرأي العام الغربي.

منذ مايو وحتى الآن، استُشهد أكثر من 1066 فلسطينيا أمام هذه المراكز. الرقم لا يعكس الحجم الكامل للفاجعة، لأن بين القتلى أطفالًا ونساءً وعجزة، لم تكن أيديهم قادرة على حمل السلاح، بل فقط أكياس بلاستيكية صغيرة أمِلوا أن يملؤوها بالقليل من الغذاء.

تزامنًا مع تفاقم المجاعة وإغلاق المعابر منذ الثاني من مارس، تحولت هذه المراكز إلى نقاط تجمع مرصودة ناريًّا، حيث تنتهي حياة الناس في اللحظة التي يصلون فيها إلى بوابة النجاة. لا حديث عن شحنات أو كميات، بل عن دقة القنّاص، وزاوية الرؤية، وسرعة الرصاصة في ملاحقة الحلم.

شاهدة نجت

في منطقة الشاكوش بمدينة رفح، وفي يوم قائظ لم يرحم الوجوه المتشققة ولا الأجساد الظامئة، سقطت نجاة شاهين مغشيًا عليها. كانت قد جاءت مشيًا على الأقدام من دير البلح، في محاولة منها لانتزاع بعض الطحين لأبنائها الذين غرقوا في الجوع. خمس وخمسون عامًا من العمر لم تكن ثقيلة عليها بقدر ما أثقلها الانتظار والخذلان.

حين اقترب منها بعض الشبان، رأوا في وجهها علامات جفاف لم يسبق لهم أن شاهدوها من قبل، قدموا لها شربة ماء في كيس بلاستيكي، فقد نفدت الأكواب، وتحوّلت الصحراء إلى مساحة لا مكان فيها لراحة ولا كرامة. ارتشفت الماء كله، ثم سكبته على وجهها المحترق من الشمس. لم تستطع الحديث، واكتفت بالبكاء، بينما غطت وجهها بحجابها وهمست: «رموا علينا قنابل.. رموا علينا رصاص».

أرادت فقط أن تطعم أبناءها، لكنها وجدت نفسها بين القنابل والدخان. قالت لهم إنهم كذبوا عليهم، إنهم وعدوهم بمساعدات فإذا بالجحيم ينتظر عند كل مفترق. مشهد نجاة لم يكن الوحيد، لكن دموعها كانت كافية لتلخص قهر أمهات غزة، اللواتي يتنقلن بين الجوع والقصف بحثًا عن شقفة خبز وجرعة ماء.

ساحة حرب

هناك في محيط مراكز توزيع المساعدات، لا شيء يشبه المساعدات ولا ما يحيط بها يشبه الحياة. في مشهد أشبه بساحة حرب، تتراكض الأجساد الهزيلة وتتعثر، بينما يصفر الرصاص فوق الرؤوس كأنّه يتعمّد إصابة الجائع في قلبه. العشرات يركضون حفاة، يتدافعون بعشوائية، ثمّ فجأة يسقط البعض أرضًا، فيما يصرخ آخرون: «هربنا.. هربنا»، كأنهم نفضوا أيديهم من كل شيء عدا الغريزة.

يعلو صراخ النساء، يركض الأطفال وهم يصرخون بلا اتجاه، يلتفون حول شاحنة ظنّوها تحمل الخلاص، فإذا بها تصير فخًا مكشوفًا، ونيشانًا ثابتًا لجنود الاحتلال المختبئين خلف أكوام الرمل. عندها لا يسع الناس سوى الارتماء على الأرض، والاحتماء ببعضهم، بأجسادهم، بأكياس الطحين الممزقة على الرمال.

الوجوه شاحبة، والأعين مذهولة، كأنهم يفيقون كل مرة على حقيقة أنهم مستهدفون حتى في لحظة بحثهم عن كسرة خبز. تلك اللحظة التي يفترض أن تكون استثناءً من الموت، تحوّلت هي ذاتها إلى مرمى نيران، إلى كمين حي، إلى لغم إنساني.

في هذا المشهد، لا ترى أعلامًا بيضاء، ولا ممرات آمنة، بل مجرد بشر يتسابقون مع الموت على رغيف. كل شيء يوحي بأنّ هناك من أراد للمساعدات أن تُلقى كطُعم، وأن يُختبر الفلسطينيون بين جوعهم وخوفهم. وللأسف، لا يخيّبون الظنّ: فهم يأتون رغم كل شيء، يتقاطرون من كل حي، حاملين أملًا ممزوجًا بالدم.

رصاص زكيم

في أقصى شمال القطاع، وتحديدًا في المنطقة المعروفة باسم زكيم، التي تحولت إلى ساحة موت شبه يومية، يخرج المواطنون من منازلهم التي استهلكها القصف والجوع على حد سواء، لا يحملون سوى قلوبهم، وأملًا بأن تأتي شاحنات المساعدات متأخرة، لكن غير مرصودة.

أحد هؤلاء، سعيد حمدان، في الأربعين من عمره، كان يركض وقد حمل على ظهره كيس دقيق ثقيل، لكنه بدا عليه وكأنه يحمل طفله الرضيع. كان يلهث، ويتلفت يمينًا ويسارًا، وعيناه تترقبان الموت في أي لحظة. صرخ: «كنت سأموت! كنت سأدفع روحي ثمنًا لكيس الطحين هذا!».

لم يكن يبالغ. القنابل كانت تتساقط على رؤوس الناس، بينما كانت شاحنات المساعدات تفرغ حمولتها بعيدًا، تحت حراسة الاحتلال. وُضعت الحواجز، ثم أطلقت الرصاصات، وراح الضحايا يتساقطون واحدًا تلو الآخر، كما لو أن كل كيس طحين كان يحتاج إلى تضحية إنسانية.

جحيم النابلسي

وفي محور «نتساريم» وسط القطاع، بدا المشهد أكثر قسوةً ودهشة. ليس فقط لأن عدد الضحايا كان أكبر، بل لأن الطرق المؤدية إلى شاحنات المساعدات كانت مفروشة بالجثث، والدماء تغسل الإسفلت. خرج الناس جائعين، وعادوا محمولين على الأكتاف، فالخبز هنا لا يأتي إلا مع الرصاص.

أحمد الأخرس، شاب ثلاثيني، كان يقود دراجته بسرعة خيالية. يحمل حقيبة صغيرة على ظهره، وقد علا وجهه البؤس والهلع، قال: «منذ أسبوع وأنا أذهب إلى مراكز توزيع المساعدات في النابلسي، وأرى الموت بعيني. أتعرض للذل كي أحصل على لقمة الطحين لإخوتي وللصغار من أهلي».

كل يوم يغامر بحياته، ولا يضمن العودة. أضاف خلال حديثه لـ«عُمان» أن المساعدات لا تصل إلى المستحقين، وأن من يموتون هناك لا يُعرفون بأسمائهم، بل يُحسبون أرقامًا. لا شفقة، لا إنقاذ، فقط قنابل ودموع، وجرعة ألم تُضاف إلى أرشيف لا ينتهي من المآسي.

رفح المحاصرة

أما مدينة رفح، التي باتت رمزًا للموت الصامت، فالقصة فيها تتكرر بصورة أكثر ظلمة. هناك، يقف الناس في طوابير طويلة، لا يطمحون بشيء أكثر من كرتونة طعام صغيرة، فيها القليل من الزيت وأرز وربما السكر إن حالفهم الحظ.

محمد الأشقر، رجل في الأربعينات، كان يحمل كرتونة خفيفة فوق كتفه كمن يحمل كنزًا. قال لـ«عُمان»: «قالوا إن هناك مساعدات، وذهبنا لجلبها، الحمد لله ربنا وفقنا في الحصول على هذه الكرتونة. لا نجد اللقمة. نحصل عليها بالموت والشقاء والتعب. من فم الحصار هذا».

كان جسده نحيفًا كجذع شجرة ضربتها النار، لكن عينيه تلمعان بوميض النصر الصغير، كمن انتصر على الجوع ولو مؤقتًا. لم يكن يعرف هل سيعود اليوم التالي حيًا أم لا، لكنه كان سعيدًا بتلك الوجبة التي سيشاركها مع أسرته المنهكة.

حرب بالتجويع

زاهر الوحيدي، رئيس وحدة المعلومات بوزارة الصحة في قطاع غزة، تحدث لـ«عُمان» قائلًا: «استُشهد أكثر من 1066 شخصًا من طالبي ومنتظري المساعدات أمام مراكز التوزيع التي تديرها ما يسمى منظمة غزة الإنسانية، والتي بدأت عملها في مايو الماضي». وأضاف أن قصة الجوع الشديد بدأت بعد الثاني من مارس 2025، حين أُغلقت المعابر وتوقفت التهدئة.

وأوضح الوحيدي، أن وزارة الصحة بدأت ترصد ارتفاعًا مروعًا في أعداد الوفيات الناتجة عن المجاعة وسوء التغذية، فبعد أن كانت الوفيات مقتصرة على الأطفال دون سن الخامسة، بدأت الأرقام تشمل كبار السن، ومرضى السرطان، وضغط الدم، والسكري، وهي فئات لم تعد تملك مقاومة الحرب بالتجويع.

وأكد أن هذه ليست مجاعة عادية، بل هي حرب معلنة من قبل الاحتلال عبر أدوات التجويع، بعدما فشل في كسر إرادة الشعب الفلسطيني بالقصف والصواريخ، فلجأ إلى أسوأ وسيلة عرفتها البشرية: الجوع.

واختتم الوحيدي تصريحه بالقول: «حتى الأمس، سجلنا 122 حالة وفاة نتيجة المجاعة، من بينهم 83 طفلًا. هذه الأرقام تتزايد بشكل يومي، وإن لم يتم فتح المعابر بشكل فوري، فإن الكارثة الإنسانية ستتفاقم إلى مستوى لم يشهده العالم من قبل».

مقالات مشابهة

  • منظومة الإفراج الجمركي.. مدبولي: إزالة العوائق التي تعرقل حركة التجارة
  • “حماس” في الذكرى الأولى لاغتيال هنية: استشهاد القادة يزيدنا تمسكًا بالحقوق والثوابت
  • "حماس" في الذكرى الأولى لاغتيال هنية: استشهاد القادة يزيدنا تمسكًا بالحقوق والثوابت
  • حماس تحيي الذكرى الأولى لاغتيال إسماعيل هنية
  • حركة فتح: زخم دولي غير مسبوق يعيد الاعتراف بحل الدولتين
  • وقفات طلابية تضامنية في حجة مع الشعب الفلسطيني
  • الجبهة الوطنية: الدول التي تسقط لا تنهض مجددا وتجربة مصر العمرانية هي الأنجح
  • فخاخ الطحين.. حيث يصطاد الاحتلال جوع الفلسطيني
  • تجاوز الـ60 ألفاً.. إحصتئيات حرب غزة
  • من دفء الأمس إلى صمت اليوم.. التحولات الاجتماعية في المجتمع السعودي