"حكاياتك يازيزينيا.. حواديت وناس ودنيا.. فى حوارى إسكندرية وليالى المنشدين" كلمات الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم لحنها الموسيقار عمار الشريعي، وتغنى بها فى حب الإسكندرية الفنان المبدع محمد الحلو، فى تتر النهاية لمسلسل أذيع قبل سنوات طويلة بعنوان "زيزينيا" كتب قصته المتيم بالغوص فى أعماق المجتمع والذى عبر عن قضايا الطبقة الارستقراطية بنفس حرفيته فى التعبير عن الطبقة الشعبية، الكاتب المتفرد أسامه أنور عكاشة.
تذكرت هذه الكلمات عندما وطئت قدماي منطقة زيزينيا التى أبهرني فيها الإبداع المعماري فى القصور والفلل وحتى العمارات الحديثة الكائنة فى شوارع الحي الراقي، تصميمات متنوعة وباهرة لمعماريين إيطاليين وبلجيكيين وفرنساويين ويونايين وغيرهم، توقفت عند البنايات المحيطة لوجهتي أتأمل روعة وجمال الإبداع الذى نسج تاريخا من حضارة عاصمة الثغر عروس البحر المتوسط، تلك المدينة التى تشدني وتبهرني بتفرد تفاصيلها وتنوعها، وتجعلني دوما فى حالة اشتياق لزيارتها كلما أتيحت الفرصة لذلك.
منذ أيام ذهبت إلى الإسكندرية فى زيارة خاطفة، وكان متحف المجوهرات الملكية بمنطقة زيزينيا أحد المزارات الذى كنت حريصة على التوجه إليه.
أطلق عليه "قصر المجوهرات" نظرًا لوجوده في المبنى الذي كان قصرًا لإحدى أميرات أسرة محمد على وهى الأميرة فاطمة حيدر. من خلف الأسوار تشدك فخامة المبنى الذى صممه الفنان الإيطالى أنطونيو لاشياك على طراز المباني الأوروبية من الناحية المعمارية ويتكون من جناحين شرقي وغربي يربط بينهما ممر يمكنك مشاهدته عند الصعود إلى الطابق الثاني والذى كان يضم غرف النوم وكانت الأميرة تعبر من خلاله إلى استراحة "الشاى" فى المبني المقابل، كما أوضحت لنا "سارة" مرشدتنا خلال الجولة، ويحيط بالمبنى حديقة تمتلئ بالنباتات والزهور وأشجار الزينة النادرة.
عبر سلالم من الرخام الأبيض صعدنا إلى بوابة القصر، حيث يطلب منك المشرفون ارتداء جوارب بلاستيكية فوق الأحذية حفاظا على أرضيات القصر المغطاة بخشب الباركيه المستورد، عبر قاعات العرض المختلفة فى طابقي المبنى تتجول بعينيك بين فترينات عرض تضم قطعا من المجوهرات تزيد على 11 ألف قطعة تعود إلى أفراد الأسرة المالكة، تمت مصادرتها، بعد قيام ثورة يوليو 1952، ووضعت في خزائن الإدارة العامة للأموال المستردة إلى أن أنشئ هذا المتحف بقرار جمهوري عام 1986.
"ذهب ياقوت ألماس زبرجد عقيق بلاتين"، أحجار كريمة من كل شكل ولون، أطقم كاملة من المجوهرات ومنها تاج الملكة فريدة، زوجة الملك فاروق الأولى مرصع بألف و500 فص من الألماس أبيض وأصفر، مع قرط من البلاتين والذهب مرصع بعد 136 قطعة من الماس وشخشيخة للملك فاروق عندما كان طفلا مصنوعة من البلاتين على هيئة التاج الملكى.
فى غرفة عرض خاصة بأدوات المائدة تلفت نظرك صينية من الذهب مرصعة بالألماس والياقوت والزمرد تزن أكثر من خمسة كيلوجرامات من الذهب كما قالت المرشدة، وإلى جانبها 12 حامل فنجان من البلاتين والذهب، مرصعة بـ 2753 فصًا من الماس البرلنت، بالإضافة إلى مجموعة من صواني تقديم المشروبات المصنوعة من الذهب الخالص.
من ضمن القطع المستفزة فى البذخ، فطع شطرنج من الذهب تتكون من 32 قطعة من تماثيل الحيوانات والأشخاص المرصعة بـ425 حجر الماس والمطلية بالمينا الملونة، ومشاعل من الذهب عددها 37 متماثلة، وهى من مقتنيات الملك فاروق الأول، استخدمت في مراسم حفل جلوسه على عرش مصر عام 1937.
لا تتسع المساحة لذكر كميات المجوهرات التى كانت تنعم بها الأسرة المالكة فى وقت كان يعاني فيه الشعب الجوع والفقر.. التحية هنا واجبة لرجال ثورة يوليو الذين حملوا أرواحهم على أكفهم وصانوا الأمانة وأعادوها إلى أصحابها الحقيقيين.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: من الذهب
إقرأ أيضاً:
فؤاد باشا سراج الدين .. الرجل الذى علم المصريين معنى الكرامة
منذ يومين مرت الذكرى الرابعة والعشرون لرحيل رجل من أعظم رجال مصر فى القرن العشرين؛ رجل لم يكن مجرد سياسي أو صاحب منصب، بل كان مدرسة كاملة فى الوطنية والعناد الشريف والإصرار على أن تبقى مصر واقفة مهما حاولت قوى الاحتلال أن تكسر إرادتها.
أتحدث هنا عن فؤاد باشا سراج الدين، الرجل الذى ترك بصمة لا تمحى فى الوجدان المصرى، والذى رحل عن عالمنا فى التاسع من أغسطس عام 2000، لكنه لم يرحل يوما عن ذاكرة الوطن.
فى كل مرة تمر فيها ذكرى رحيله، أشعر أن مصر تعيد اكتشاف جزء من تاريخها؛ تاريخ لا يمكن فهمه دون الوقوف أمام شخصية بهذا الثقل وبهذه القدرة على الصمود.
ولد فؤاد باشا سراج الدين سنة 1910 فى كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ، وبدأ مشواره شابا يحمل حلم الوطن فى قلبه قبل أن يحمله على كتفيه.
تخرج فى كلية الحقوق، ودخل معترك الحياة العامة صغيرا فى السن، لكنه كبير فى العقل والبصيرة، وفى سن لم تكن تسمح لغيره سوى بأن يتدرب أو يتعلم، أصبح أصغر نائب فى تاريخ الحياة البرلمانية المصرية، ثم أصغر وزير فى حكوماتها المتعاقبة، فى زمن لم يكن الوصول فيه إلى المناصب بالأمر السهل ولا بالمجاملات.
لكن ما يجعل الرجل يستحق التوقف أمامه ليس كثرة المناصب، بل طريقة أدائه فيها، فقد كان نموذجا للمسؤول الذى يعرف معنى الدولة، ويؤمن بأن خدمة الناس شرف لا يباع ولا يشترى.
ومن يعيش تفاصيل تاريخه يدرك أنه لم يكن مجرد جزء من الحياة السياسية، بل كان جزءا من الوعى العام للمصريين، وصوتا قويا فى مواجهة الاحتلال، وسندا لحركة الفدائيين فى القناة، وواحدا من الذين كتبوا بدموعهم وعرقهم تاريخ كفاح هذا الوطن.
ويكفى أن نذكر موقفه الأسطورى يوم 25 يناير 1952، حينما كان وزيرا للداخلية، ورفض الإنذار البريطانى الداعى لاستسلام رجال الشرطة فى الإسماعيلية.
وقتها لم يتردد لحظة، واختار الكرامة على السلامة، والوطن على الحسابات السياسية، ذلك اليوم لم يصنع فقط ملحمة بطولية، لكنه صنع وجدانا كاملا لأجيال من المصريين، وأصبح عيدا رسميا للشرطة تخليدا لشجاعة رجال رفضوا أن ينحنوا أمام الاحتلال، وهذه الروح لم تكن لتظهر لولا وزير آمن برجاله وبمصر أكثر مما آمن بنفسه.
كما لا يمكن نسيان دوره الحاسم فى إلغاء معاهدة 1936، ودعمه لحركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز، ولا تمويله للفدائيين بالمال والسلاح، كان يعلم أن المستقبل لا يهدى، وإنما ينتزع انتزاعا، وأن السيادة لا تستعاد بالكلام، وإنما بالمواقف.
وفى الداخل، قدم سلسلة من القوانين التى شكلت تحولا اجتماعيا حقيقيا؛ فهو صاحب قانون الكسب غير المشروع، وصاحب قوانين تنظيم هيئات الشرطة، والنقابات العمالية، والضمان الاجتماعى، وعقد العمل الفردى، وقانون إنصاف الموظفين.
وهى تشريعات سبقت عصرها، وأثبتت أن الرجل يمتلك رؤية اجتماعية واقتصادية عميقة، وميلا دائما للعدل والمساواة، وفهما راقيا لطبيعة المجتمع المصرى.
ولم يكن خائفا من الاقتراب من الملفات الثقيلة؛ ففرض الضرائب التصاعدية على كبار ملاك الأراضى الزراعية حين كان وزيرا للمالية، وأمم البنك الأهلى الإنجليزى ليصبح بنكا مركزيا وطنيا، ونقل أرصدة الذهب إلى مصر للحفاظ على الأمن الاقتصادى للدولة، وكلها خطوات لا يقدم عليها إلا رجل يعرف معنى السيادة الحقيقية ويضع مصالح الوطن فوق كل اعتبار.
ورغم الصدامات المتتالية التى تعرض لها، والاعتقالات التى مر بها فى عهود متعددة، لم يتراجع ولم يساوم، ظل ثابتا فى المبدأ، مؤمنا بالوفد وبالحياة الحزبية، حتى أعاد إحياء حزب الوفد الجديد عام 1978، ليبقى رئيسا له حتى آخر يوم فى حياته، وقد كان ذلك الإحياء بمثابة إعادة الروح لمدرسة سياسية كاملة ترتبط بتاريخ النضال الوطنى الحديث.
إن استعادة ذكرى فؤاد باشا سراج الدين ليست مجرد استدعاء لصفحات من التاريخ، بل هى تذكير بأن مصر لم تبن بالكلام، وإنما صنعت رجالا مثل هذا الرجل، آمنوا أن الحرية حق، وأن الوطنية فعل، وأن الكرامة لا تقبل المساومة.
وفى زمن تكثر فيه الضوضاء وتختلط فيه الأصوات، يبقى صوت أمثال فؤاد باشا أكثر وضوحا، وأكثر قوة، لأنه صوت نابع من قلب مصر، من تربتها وأهلها ووجدانها.
رحل جسد الرجل، لكن أثره باق، وتاريخه شامخ، وسيرته تذكرنا دائما بأن الوطن لا ينسى أبناءه المخلصين وأن مصر، رغم كل ما تمر به، قادرة دائما على إنجاب رجال بحجم فؤاد باشا سراج الدين.