أكتب في انتظار تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، الذي يفترض أن تقف بموجبه آلة المجزرة الإسرائيلية، بعد أكثر من ٤٦ ألف ضحية فلسطينية أمام أعين العالم، غير الضحايا في لبنان وسوريا. والسؤال الذي يدفعني للكتابة هنا يشبه كتابة ما بعد الصدمة، من أنا؟ ومن هؤلاء؟ من نكون نحن ومن الآخر، والآخرون؟ ليقع هذا وأشباهه؛ لأن ما حدث مزلزل، ومباشر ظل يصلنا لحظة وقوعه، ونحن آمنون نواصل حياتنا كما هي، بل وربما سافرنا وارتحلنا وعدنا، ونحن نتفرج، على المجزرة، لزمن طويل، ممدد بالفظاعة والخجل والعجز والكذب على الذات؛ وهذه مأساة حقيقية مزرية للإنسان المعاصر، أن تتحول المجزرة إلى موضوع فرجة مباشرة، على الهاتف.
هذا النوع من الرعب المعمم الذي يهز أركان الكيان الإنساني جعلني، بالإضافة لأسباب أخرى، أتوقف عن متابعة الأخبار منذ مدة، مندفعًا للبحث عن فهم ما، آملًا في أن الانهماك في البحث سيخفف شيئًا ما من أساي الشخصي، ذلك أن مجرد التفكير بالرقعة العربية الشاسعة من الخراب الذي يحيط بإسرائيل المتوحشة مرعب، حديقة خلفية لجيش إسرائيل، في دول الطوق أو ما تبقى من كل الأنظمة العربية التي ضعفت وتهلهلت وانهارت وكان آخرها النظام البعثي في سوريا؛ تلك الأنظمة التي سقطت مخلّفة وراءها الخراب، والفوضى، بعد العمران والنظام والاستقرار الشكلاني على الأقل لعقود طويلة، لكنني أنظر بتأثير اللحظة فأراه العمران والنظام الذي فشل في البقاء، لم يعرف كيف يصعد ببلده، ولا كيف يطور ذاته، رغم كل التحالفات المزعومة، ولا كيف يستوعب متغيّرات المنطقة، ولا كيف يحمي نفسه في النهاية من فساده وانحلاله وسقوطه ومعاركه المخزية، تاركًا الإنسان العادي مكشوفًا عاريًا أمام كل من يملك السلاح، أجمل أحلام شبابه الهجرة، بكل ما تحمله الهجرة من معان، تلك الأنظمة التي ظلت طوال عقود تتبجح بأسطوانات الأمن والأمان والقبضة الحديدية والحكم العسكري.
للثقافة العامة يد فيما حدث ولا يمكن ألا نلوم الثقافة، لقد تعودنا على إلقاء اللوم على غيرنا منذ الحقبة الاستعمارية، وقد خرج الاستعمار القديم منذ منتصف القرن الماضي، فعدنا نلقي اللوم على الهيمنة والنفوذ، بوصفها الاستعمار الجديد، ما بعد الكولونيالي، كما تعودنا على إلقاء اللوم على أشقائنا وإخوتنا، وباختصار تعودنا على إلقاء اللوم على الآخر، وهو الأمر نفسه الذي ما زلنا نفعله إلى اليوم، حتى أصبح الأمر عادة قارّة نعود إليها عند كل مشكلة، صغرت أو كبرت، سياسية كانت أو شخصية؛ لم لا يكون الآخر مجرد شماعة وهناك مشكلة فينا نحن؟ فعلينا أن نصغي حتى للتهم الموجهة إلينا من أعدائنا، إن إلقاء اللوم على الآخرين سهل، وهو يعفي الذات من المساءلة، فهل نحن نتهرب من أنفسنا ومن مواجهة أخطائنا؟ ومنذ متى ونحن نفعل ذلك؟
لا تفيدنا ثقافة إلقاء اللوم على الآخر في شيء، وبهذه الطريقة نحن نطالب الآخر بأن يصلح من نفسه، ولا نطالب أنفسنا بإصلاح ذواتنا، نطالب الآخر بأن يحسن من أساليبه معنا، وهو يفعل ذلك بدوافعه الذاتية بالمناسبة دون توقف، لكن كل ذلك مبني على فهمه ومنظوره لذاته، ومبني على فهم ودراسة لنا نحن، بوصفنا ظاهرة يريد مواصلة السيطرة عليها واستغلالها؛ والمكتبة مليئة بالكتب الأجنبية عنا، ونحن نذهب إليها لنعرف من نحن، أو لنعرف ماذا حدث بالضبط، أو على الأقل لنحصل على رواية أدق عن روايتنا نحن للأحداث، لكن عبارة سقراط الكلاسيكية لا تقول اعرف نفسك فحسب، بل أعرف نفسك بنفسك.
في المقابل يمكننا المواصلة بعيدًا في جلد الذات، والنواح على الذات كأننا أمام جثة، لكن تلك إحدى مصائبنا الأخرى التي استغرقت فكرنا حتى صارت لازمة تتكرر، وكأننا أمام خيارين متطرفين، إلقاء اللوم على الآخر أو قتل أنفسنا عبر جلد ذواتنا واحتقار أنفسنا، والعبارات الجاهزة أكثر من أن تعد وأن تحصى، هكذا نحن، نقول، وكأننا لا نعرف من نحن بعد كل هذه القرون، وكأننا لم ندرس أنفسنا، ولم ننظر لوجوهنا في مرآتنا، أو في أي مرآة، يبدو كما لو أننا لم نحاول الإجابة، أو أن الإجابة التي قدّمها لنا مفكرونا وعلماؤنا لا قيمة لها، فنحن لا نبني عليها شيئًا، بل نهرب طوال الوقت للماضي السحيق، لما قبل كل هذا، للحظة قديمة، صنم ما، نتمسح به ونرفض كل صورة أخرى، ونحن أسرى تلك الصورة التي يقدمها الفقه القديم معتمدًا على كتب التراث بوصفها الصورة التي يجب أن نكون عليها، تلك الصورة نفسها التي حين حاول متحمسونا بعثها في الحاضر أنتجوا لنا القاعدة وداعش والنصرة، وأشباهها.
أما نحن فلا نملك صورة لنا الآن، وحتى الصور القديمة لنا هي صور متلاعب بها، بالفوتوشوب التاريخي، لأغراض سلطوية وسياسية وتاريخية، بل هناك الكثير من الصور المحجوبة والممنوعة من التداول، لنا نحن، وبيننا نحن، وكل تلك الظلمة تمنعنا من معرفة من نكون نحن، ليس في الماضي فحسب، بل الآن، من نحن الآن؟ ولا عجب بعدها أن يذهب كل منا في جهة ، وأننا قابلون دومًا للخلافات وافتعال المشاكل بل والحروب مع بعضنا البعض، وأن كل تقدم وتطور شكلاني أقمناه يبقى فترة قبل أن يسقط وينهار بنا معه.
هل نعتقد أننا نتقدم فعلًا؟ وأن لا وجه للشبه بين قاهرة وبغداد عشرينيات القرن الماضي ودبي والرياض عشرينيات هذا القرن؟
بعض الأسئلة تعود باستمرار باحثة عن إجابة أكثر دقة وعمقًا، الشاب الذي يبحث عن جذوره وتاريخه ويحاول معرفة من يكون مدفوعًا بسؤال من أنا؟، كما تعلمنا رواية جوستاين غاردنر عالم صوفي، هو مثال مصغّر عن المؤرخ الذي يفني عمره وجهده في البحث والتنقيب في تاريخ الأمة، مدفوعًا بسؤال من كنا؟ أو من نكون؟ والسؤال نفسه له غرض وجداني أكبر في داخل الفرد أو الجماعة أو البشرية كلها، لا يمكننا حصره بالطبع، لكننا يمكن أن نقول أن من أغراضه الواضحة محاولة تعيين موقع الفرد وسط الجماعة، والجماعة وسط الجماعات الأخرى، والأمة بين الأمم، والبشرية في الأرض.
بشكل أو بآخر نحن في محاولة فهم، محاولة للاقتراب من الحقيقة برأي كارل بوبر، ما دامت الحقيقة اليقينية والقطعية والنهائية غير ممكنة بالإثبات الفيزيائي لنظرية النسبية، هكذا ستكون كل محاولة في هذا السبيل محكومة بأنها مجرد اقتراب واحد أو حتى أكثر بقليل، من وجوه الحقيقة الألف.
عادة سيروي الأب لابنه رواية مشذبة، رسمية، عن نفسه، بوصفه واقعًا تحت تأثير سلطة الأب، وسيروي الابن مشاهداته عن الأب، ويكوّن تصوره الخاص عن أبيه وعن نفسه، وكذلك تفعل كل سلطة، أما ما هي الصورة الأقرب للأب، والابن، فتلك حكاية ستختلف حولها الآراء من واقع اختلاف الخطاب ومحركاته وسلطته، لكن هناك دومًا حاجة إلى تصور ما عن الذات، تنبني عليه أفعال تلك الذات المستقبلية، ولا شيء أفضل من الصدق الخالص والحقيقة إذا أريد لذلك البناء والعمل التالي أن يدوم.
إذًا من نحن؟ من كنا ومن نحن اليوم؟ ما الذي أنتجنا؟ وأين نحن اليوم؟ ما هو تصورنا الذاتي عن أنفسنا؟ كيف رأينا وكيف نرى أنفسنا؟ بما نحن كبشر، وككتل بشرية وجماعات تخضع لتأثيرات ، بينية وثقافية وسياسية وبيئية، ذلك هو مناخ الأسئلة التي تحملها هذه الزاوية، وهذه هي الفاتحة.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من نحن
إقرأ أيضاً:
شليق: الدبيبة ورّط نفسه بصدام مع تشكيلات مسلحة موّلتها حكومته
???? شليق: الدبيبة موّل الميليشيات لسنوات.. ثم حاول تصفيتها بميليشيات أخرى
???? دعم ثم صدام ????
قال السياسي الليبي رمضان شليق إن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ارتكب “خطأً كبيرًا”، عندما **اعتقد أنه قادر على استخدام الميليشيات ثم التخلص منها”، مشيرًا إلى أن هذا التقدير الخاطئ أدى إلى الانفجار الأمني الأخير في العاصمة طرابلس.
???? منح وشرعية بلا مؤسسات ????️
وفي تصريح لموقع العين الإخبارية، أوضح شليق أن المنطقة الغربية وطرابلس بشكل خاص تخلو من مؤسسات عسكرية نظامية، وتخضع لسيطرة تشكيلات مسلحة ذات ولاءات جهوية وقبلية ومصلحية نشأت عقب أحداث 2011، مضيفًا أن الحكومات المتعاقبة، وعلى رأسها حكومة الدبيبة، أغدقت المال والشرعية على هذه التشكيلات.
???? انقلاب على الحلفاء ????
وتساءل شليق مستنكرًا:
“كيف لحكومة أن تموّل ميليشيات لخمس سنوات، ثم تقرر فجأة تصفية بعضها، والاستعانة بالبعض الآخر ضد حلفاء الأمس؟”، معتبرًا ذلك تخبطًا سياسيًا وأمنيًا واضحًا في إدارة الملف الداخلي.
???? سخط شعبي وتصعيد سياسي ????
وفي ختام تصريحه، لفت شليق إلى أن الشارع الليبي غاضب من هذه السياسات، إذ تُوقَف المنح والعلاج في الخارج، وتُهمل احتياجات المواطنين الأساسية، في وقت تُصرف فيه الملايين على جماعات مسلحة لا تمثل أي دور وطني حقيقي، على حد وصفه.