لا حق للدول في الوجود ولكن الحق للشعوب
تاريخ النشر: 29th, January 2025 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
في واشنطن التي تغلي اليوم بالتناحر الحزبي، يتفق الديمقراطيون والجمهوريون على هذا الأمر في الأقل: لإسرائيل حق في الوجود. وقد تأكد هذا الحق على لسان رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسن وخصمه الديمقراطي زعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفريز وعلى لسان أنطوني بلينكن وزير الخارجية في إدارة بايدن وخلفه الجمهوري ماركو روبيو، وعلى لسان بيت هيجسيث وزير الدفاع الجديد في حكومة ترامب، وزعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ تشاك شومر.
وما بهذه الطريقة يكون حديث ساسة واشنطن بعامة عن البلاد الأخرى. فهم في الغالب يبدأون بحقوق الأفراد، ثم يتساءلون عن نصيب دولة معينة من حسن تمثيل الشعب الذي تسيطر عليه. ولو كانت أمريكا تبالي بحياة من يعيشون في ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، لتبين بوضوح أن التساؤل عن حق إسرائيل في الوجود هو السؤال الخاطئ. وخير منه هذا السؤال: هل تحسن إسرائيل، بما هي دولة يهودية، حماية حقوق جميع الأفراد الخاضعين لسيطرتها؟
والإجابة هي لا.
وتأملوا هذا السيناريو: إذا انفصلت أسكتلندا قانونيا، أو أنهى البريطانيون الحكم الملكي، فلن تصبح الممكلة المتحدة مملكة أو متحدة. وسوف تنتهي بريطانيا التي نعرفها من الوجود، وسوف يقبل روبيو وشومر وزملاؤهما هذا التحول ويرونه شرعيا لاعتقادهم أن الدول ينبغي أن تقوم على رضا المحكومين.
وهذه نقطة يؤكدها الزعماء الأمريكيون قطعيا وهم يتناقشون مع أعداء أمريكا. وهم كثيرا ما يدعون إلى أن تُستبدل بأنظمة الحكم القمعية دول تتحقق فيها الأعراف الديمقراطية الليبرالية على نحو أفضل. في عام 2017، ذهب جون بولتن ـ الذي أصبح لاحقا في إدارة ترامب الأولى مستشارا للأمن الوطني ـ إلى أن «سياسة الولايات المتحدة المعلنة ينبغي أن تطيح بنظام الملالي في طهران». وفي 2020، وصف وزير الخارجية مايك بومبيو جمهورية الصين الشعبية بأنها «نظام حكم ماركسي لينيني» وبأنها «ّذات أيديولوجية استبدادية مفلسة». وحثَّ كلا المسؤولين الأمريكيين كلا البلدين لا على استبدال قائد بقائد وحسب، وإنما على تغيير نظاميهما السياسيين، وذلك يعني في جوهره إقامة الدولة من جديد. فيكون معنى ذلك في حالة جمهورية الصين الشعبية ـ الخاضعة لسيطرة الحزب الشيوعي، أو في حالة جمهورية إيران الإسلامية التي تتبع حكما إسلاميا، تغيير اسم البلد الرسمي نفسه على الأرجح.
في 2020، أعلن الوزير بومبيو في خطبة له أن مؤسسي أمريكا كانوا يؤمنون بأن «الحكم يوجد لا لتقليص حقوق الأفراد أو إلغائها وفق أهواء من يتولون السلطة، وإنما يوجد الحكم لضمان هذه الحقوق. فهل يكون للدول التي تنكر على الأفراد حقوقهم «حق وجود» بالشكل الراهن؟ ما يوحي به كلام الوزير بومبيو أن هذا الحق لا يكون لها.
ماذا لو تكلمنا عن إسرائيل بمثل تلك الطريقة؟ قرابة نصف البشر الخاضعين لسيطرة إسرائيل فلسطينيون. وليس بوسع أكثرهم ـ من المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة ـ أن يصبحوا مواطنين في الدولة التي تفرض عليهم سلطة الحياة أو الموت. وقد فرضت إسرائيل هذه السلطة في غزة حتى قبل غزو حماس في السابع من أكتوبر سنة 2023، بل منذ أن سيطرت على المجال الجوي للقطاع، والساحل، والسجل السكاني، وأغلب الممرات البرية، فجعلت من غزة بحسب وصف هيومان رايتس ووتش «سجنا مفتوحا».
وحتى أقلية الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية ممن يحملون المواطنة الإسرائيلية ـ ويوصفون أحيانا بـ’عرب إسرائيل’ ـ تعوزهم المساواة القانونية. فالصندوق الوطني اليهودي، الذي قصر التزاماته على «اليهود» وأكد أنه لا يعمل «من أجل نفع جميع مواطني الدولة»، فيحوز قرابة نصف مقاعد جهاز الدولة المسؤول عن تخصيص أغلب أرض إسرائيل.
في الشهر الماضي، وعد الوزير بلينكن بأن الولايات المتحدة سوف تساعد السوريين على إقامة دولة «احتوائية غير طائفية». بينما إسرائيل الموجودة اليوم فعليا فاشلة في هذا الاختبار.
ومع ذلك، فبالنسبة لأغلب قادة المجتمع اليهودي الأمريكي المنظم، لا مجال للتفكير في بلد احتوائي غير طائفي في هذه الأرض. ولليهود حق الغضب حينما يدعو القادة الإيرانيون إلى محو إسرائيل عن الخريطة. لكن هناك فارق حاسم بين دولة ينتهي وجودها بغزو من جيرانها لها، ودولة ينتهي وجودها بتبنِّيها شكلا في الحكم أكثر تمثيلا.
ولا يكتفي القادة الأمريكيون اليهود بإصرارهم على حق إسرائيل في الوجود، إنما يصرون على حقها في الوجود بوصفها دولة يهودية، ويتشبثون في فكرة أنها يمكن أن تكون يهودية وديمقراطية معا برغم التناقض الأساسي بين التفوق القانوني لمجموعة عرقية دينية ومبدأ المساواة الديمقراطي في ظل القانون.
إن الإيمان بأن لدولة يهودية قيمةً مطلقة ـ بغض النظر عن أثرها على الشعب الذي يعيش فيها ـ مناقض لطريقة الأمريكيين في الحديث عن البلاد الأخرى. وهو مناقض أيضا للتراث اليهودي الذي لا يرى أن للدول حقوقا، بل ينظر إليها في ارتياب عميق. ففي الإنجيل أن شيوخ الإسرائيليين يطلبون من النبي صمويل أن يجعل لهم ملكا يحكمهم. فيأمر الرب صمويل بأن يحقق للشيوخ رغبتهم على أن يحذرهم من أن حاكمهم سوف يرتكب انتهاكات شنيعة. ويقول لهم صمويل إن «يوما سيأتي فيبكون فيه بسبب الملك الذي اختاروه بأنفسهم».
والمعنى واضح، وهو أن الممالك ـ أو الدول بموجب اللغة المحدثة ـ ليست مقدسة. فإن هي إلا أدوات تحمي الحياة أو تدمرها. ولقد كتب الناقد الاجتماعي الإسرائيلي الأورثوذكسي يشعياهو ليبوفيتز سنة 1975 يقول «إنني أنكر بشدة أن تكون للدولة أي قيمة في ذاتها على الإطلاق». ولم يكن ليبوفيتز أناركيا. وبرغم أنه كان يعد نفسه صهيونيا، فقد أصر أن تحاكَم الدول ـ ومنها الدولة اليهودية ـ بناء على معاملتها للبشر الخاضعين لسيطرتها. فلا حق للدول في الوجود وإنما هذا الحق للشعوب.
يخاطر بعض أعظم أبطال الإنجيل ـ ومنهم موسى ومردخاي وغيرهما ـ بحياتهم إذ يرفضون معاملة الحكام الطغاة بوصفهم آلهة. وبرفضهم عبادة سلطة الدولة، فهم يرفضون الوثنية، وذلك الرفض من ركائز الديانة اليهودية حتى لقد وصفه الحبر يوحنان في التلمود بأنه التعريف الجوهري للمؤمن باليهودية.
غير أن هذا الشكل من الوثنية ـ أي عبادة الدولة ـ يبدو اليوم مستشريا في الحياة اليهودية الأمريكية السائدة. وتبجيل أي كيان سياسي أمر خطير. لكنه يصبح خطيرا بصفة خاصة حينما يخص كيانا يصنف بعض الناس باعتبارهم أرقى أو أدنى قانونيا بناء على انتمائهم القبلي. وحينما تصر أهم الجماعات اليهودية الأمريكية ـ شأن الزعماء الأمريكيين ـ مرارا وتكرارا على أن لإسرائيل حقا في الوجود، فهي تقول عمليا إن إسرائيل لا يمكن أن تأتي بعمل ـ مهما بلغ إيذاؤه للشعب الخاضع لسيطرتها ـ فيستوجب إعادة التفكير في طبيعتها كدولة.
ولقد فعلت ذلك حتى حينما تزايدت انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان بصورة صارخة. فعلى مدار قرابة ستة عشر عاما، منذ أن رجع بنيامين نتنياهو إلى السلطة سنة 2009، خضعت إسرائيل لحكم زعماء يتباهون بمنع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من تأسيس بلدهم، وإجبارهم بالتالي على الحياة بوصفهم (لامواطنين) على الدوام، بلا أي حقوق أساسية في ظل الحكم الإسرائيلي. في عام 2021، اتهمت جماعة حقوق الإنسان الإسرائيلية الكبرى (بيتسليم) إسرائيل بممارسة الفصل العنصري. وأورد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية هجمات للمستوطنين الإسرائيليين على الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية في 2024 تتجاوز هجماتهم في أي عام منذ أن بدأ الرصد قبل قرابة عشرين عاما.
غير أن القادة اليهود الأمريكيين ـ والساسة الأمريكيين ـ مستمرون في إصرارهم على أن التشكيك في شرعية الدولة اليهودية أمر غير مشروع، بل ويندرج في عداد معاداة السامية. وبذلك جعلنا من إسرائيل مذبحا مقدسا. وتحققت مخاوف ليبوفيتز: «عندما تكون أمة وبلد ودولة قيما مطلقة، فأي شيء حينئد يستساغ».
كثيرا ما يقول القادة اليهود الأمريكيون إن وجود دولة يهودية ضروري لحماية حياة اليهود. فلا يمكن أن يأمن اليهود دونما حكم يهودي. وإنني أتفهم ما يجعل كثيرا من اليهود الأمريكيين ـ وهم بصفة عامة يؤمنون أنه لا ينبغي للدول التمييز بناء على الدين أو العرق أو العنصر ـ يستثنون إسرائيل. فذلك ناجم عن آلام تاريخ شعبنا. لكن برغم معاداة السامية العالمية، يبدو أننا معشر يهود الشتات ـ الذين نعلق الأمن على مبدأ المساواة القانونية ـ أشد أمنا من يهود إسرائيل.
وليس هذا من قبيل الصدفة. فالبلاد التي يكون لكل فرد صوت في حكمها تنزع إلى أن تكون أكثر أمنا للجميع. وقد تبين لدراسة أجريت سنة 2020 على مئة وست وأربعين حالة صراع عرقي في العالم منذ الحرب العالمية الثانية أن الجماعات العرقية التي أقصيت من سلطة الدولة كانت أكثر احتمالا بثلاث مرات لأن تحمل السلاح مقارنة بالجماعات الممثلة في الحكم.
ويمكن أن نرى هذه الآلية حتى في إسرائيل نفسها. ففي كل يوم، يضع اليهود الإسرائيليون أنفسهم وهم في أضعف حالاتهم بين أيدي الفلسطينيين، أي على طاولات العمليات. وذلك لأن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل يمثلون 20% من أطباء إسرائيل، و30% من ممرضاتها، و60% من صيادلتها.
لماذا يجد اليهود الإسرائيليون أن الفلسطينيين من مواطني إسرائيل أقل خطورة من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة؟ يرجع سبب ذلك إلى حد كبير إلى أن الفلسطينيين من مواطني إسرائيل يمكن أن يصوتوا في الانتخابات الإسرائيلية. ولذلك، وبرغم أنهم يواجهون تمييزا شديدا، فإن لديهم على الأقل بعض السبل السلمية والقانونية لإسماع صوتهم. قارنوا ذلك مع الفلسطينيين في غزة، أو في الضفة الغربية، ممن يعدمون سبيلا قانونيا للتأثير على الدولة التي تقصفهم وتسجنهم.
فمن ينكر على شعب حقوقه الأساسية، يعرضه لعنف هائل. وعاجلا أم آجلا، يكون هذه العنف خطرا على الجميع. لقد حدث في عام 1956 أن رأى طف صغير عمره ثلاث سنوات اسمه زياد النخالة جنودا إسرائيليين يقتلون أباه في مدينة خان يونس بقطاع غزة. وبعد قرابة سبعين سنة، يرأس جماعة الجهاد الإسلامي وهي جماعة أصغر من حماس ولكنها تنافسها في التشدد.
وفي السابع من أكتوبر، قتل مقاتلو حماس والجماعة الإسلامية قرابة ألف ومائتي شخص إسرائيلي واختطفوا مائتين وأربعين. وردت إسرائيل على ذلك بمجزرة عبر هجوم على غزة تقدر مجلة لانسيت الطبية البريطانية قتلاه بأكثر من ستين ألفا، ودمرت أغلب مستشفيات القطاع ومدارسه وزراعته. ويمثل دمار غزة دليلا مريعا على فشل إسرائيل في حماية وكرامة جميع البشر الخاضعين لسلطتها.
والفشل في حماية أنفس الفلسطينيين في غزة يمثل في النهاية خطرا على اليهود. ففي هذه الحرب، قتلت إسرائيل في غزة بالفعل أكثر بمائة مرة ممن قتلت في المجزرة التي أودت بحياة والد زياد النخالة. فكم من ولد في الثالثة من العمر الآن سوف يطلب الثأر بعد سبعة عقود من الآن؟
ومثلما حذر عامي أيالون، رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) حتى قبل نشوب الحرب الراهنة في غزة بقوله «إننا لو استمررنا في نشر الإذلال واليأس، فسوف تزداد شعبية حماس. وإذا تمكنا من إبعاد حماس عن السلطة، فسوف نواجه القاعدة، وبعد القاعدة داعشا، وبعد داعش ما لا يعلم إلا الله».
ولكن، باسم سلامة اليهود، يبدو أن المنظمات اليهودية الأمريكية تتسامح مع أي شيء تفعله إسرائيل في الفلسطينيين وإن يكن حربا تعتبرها الآن منظمة العفو الدولية إبادة جماعية، شأنها في ذلك شأن عمر بارتوف الباحث البارز في الهولوكوست المولود في إسرائيل. ولكن ما لا يستطيع الزعماء اليهود والسياسيون الأمريكيون أن يقبلوه هو المساواة بين الفلسطينيين واليهود ـ لأن من شأن هذا أن ينتهك حق إسرائيل في الوجود بوصفها دولة يهودية.
بيتر بينارت كتاب الرأي المشاركين نيويورك تايمز وأستاذ في كلية نيومارك للصحافة في جامعة مدينة نيويورك، ومحرر في مجلة (جويش كارنتس)، وكاتب نشرة (بينارت نوتبوك) الأسبوعية.
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حق إسرائیل فی الوجود فی الضفة الغربیة الفلسطینیین فی الأمریکیین ـ دولة یهودیة یمکن أن فی غزة فی عام إلى أن
إقرأ أيضاً:
حقيقة الأهداف الأميركية في سوريا
نفت وزارة الخارجية السورية وجود اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن إقامة قاعدة عسكرية أميركية في جنوب سوريا، ويبدو النفي ظاهريا صحيحا؛ ذلك أن وزارة الخارجية لطالما سكتت في السابق عن التعليق على القضايا التي قد تكون صحيحة، كما أن الوزارة التي يقودها الوزير الشيباني تعتبر شريكا أساسيا في صنع القرار السياسي، فيما يخص العلاقات الخارجية.
بيد أن ثمة مؤشرات عديدة على وجود نوع من التنسيق مع الجانب الأميركي، في المجال العسكري، ما يعني أن نفي الوزارة صحيح من زاوية معينة، وهي عدم وجود قاعدة بشكل صريح، لكن قد يتخذ هذا الوجود تسميات أخرى أو نمطا مختلفا لظروف وأسباب معينة.
إعادة انتشاريمكن وضع التحرك العسكري الأميركي في سوريا في إطار إعادة انتشار، أو تموضع جديد ضمن الأراضي السورية، على اعتبار أن القوات الأميركية موجودة بالأصل في قواعد بشرق سوريا وفي "التنف".
ومن ثم قد لا تضطر واشنطن إلى زيادة أصولها العسكرية في سوريا، وإنما إعادة تنظيم هذا الوجود بما يتناسب والتطورات الجديدة، المتمثلة بإعادة دمج قوات "قسد" ضمن هياكل الجيش السوري، وكذلك الاتفاق الأمني بين سوريا وإسرائيل، والمزمع توقيعه في مرحلة قريبة.
التمهيد لهذا الانتشار، جاء على لسان المبعوث الأميركي توماس براك الذي أكد على هامش زيارة الرئيس الشرع، واشنطن والتوقيع على اتفاق انضمام سوريا للتحالف الدولي لمحاربة " تنظيم الدولة (داعش)"، أن سوريا باتت شريكا أساسيا للولايات المتحدة.
وكذلك تأكيد الرئيس السوري نفسه أثناء زيارته واشنطن، أن سوريا باتت حليفا جيوسياسيا للولايات المتحدة الأميركية، مع ما يتطلبه هذا التحالف من تنسيق أمني مشترك بين الطرفين.
وشهدت الأسابيع الأخيرة تحركات أميركية في البادية السورية، ما يؤشر على وجود توجه أميركي يقضي بإعادة توزيع القوات الأميركية في سوريا ضمن نطاقات جديدة.
إعلانوقد أكدت الزيارات التي قام بها قائد القيادة المركزية الأميركية "سنتكوم" الأدميرال براد كوبر إلى دمشق في سبتمبر/أيلول، وأكتوبر/تشرين الأول، وجود تفاهمات تخص الانتشار العسكري الأميركي.
كما زار وفد عسكري من التحالف الدولي للحرب على الإرهاب، مواقع عسكرية على أطراف البادية، مثل مطار "الضمير"، ومطار "السين"، وهي مناطق مفتوحة على البادية السورية، وتمتاز بقربها من العاصمة دمشق وجنوب سوريا. وبالتزامن وصلت طائرات ومدرعات أميركية إلى قاعدة "التنف"، ما يعكس توجها أميركيا لتعزيز الوجود الأميركي في المنطقة.
ويبدو أن منطقة ريف دمشق من جهاتها الأربع: البادية، وشرق لبنان، وجنوب سوريا، والغرب، هي الوجهة المقصودة للقوات الأميركية والتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وقد أجرت قوات التحالف عمليات إنزال في مناطق الضمير والقلمون مؤخرا، استهدفت خلايا نائمة لتنظيمات متشددة.
على ذلك، يبدو أن الوجود العسكري الأميركي في سوريا قد يتخذ نمطا جديدا على شكل غرفة عمليات لإدارة الأمن ومكافحة الإرهاب، في إطار إعادة هيكلة الوجود الأميركي، تراعي التطورات الجديدة في الملف السوري، وتطوير واشنطن أهدافها على ضوء ذلك.
الأهداف الأميركيةإعادة الانتشار الأميركي في سوريا تفرضه جملة من الاعتبارات الجيوسياسية والأمنية، تشكل دافعا قويا للحراك الأميركي الحالي:
أولا: إعادة تعريف الوجود الأميركي في المنطقة، فالحرب على "تنظيم الدولة" لم تعد كافية بحد ذاتها لتغطية هذا الوجود، نظرا لضعف هذا التنظيم، وبروز قوة محلية قادرة على ردعه.
فلا بد تاليا من إحداث تغيير في شكل هذا الوجود ومهمته، عبر بناء منظومة سياسية وأمنية جديدة على شكل مشروع إستراتيجي يتقاطع فيه الأمن بالسياسة والاقتصاد، وتحويل دور هذا الوجود من مجرد الحرب على تنظيم في طور الانهيار، إلى فاعل رئيسي في ضبط الديناميات التي تشهدها بلاد الشام، على وقع التغيرات الكبيرة التي شهدتها المنطقة.
ثانيا: ضبط التفاعلات في منطقة بلاد الشام: يؤكد السياق العام للتحرك الأميركي وجود توجه إستراتيجي لدى القيادة العسكرية الأميركية يهدف إلى وضع خريطة بلاد الشام تحت القبضة الأميركية:
الهدف الأول: التصدي للنفوذ الإيراني وسد المناطق الرخوة التي من الممكن العبور منها، فضلا عن إغلاق المنطقة في مواجهة مشاريع الصين المستقبلية، وإضعاف الوجود الروسي في سوريا. الهدف الثاني: مراقبة خطوط التماس بما يضمن توفر إنذار مبكر قبل حصول تطورات على نمط عملية طوفان الأقصى عام 2023، وذلك في إطار ترتيبات أميركية تهدف إلى الانتقال لمرحلة صنع السلام التي يسعى الرئيس ترامب إلى أن يصبح أحد أهم فاعليها. ثالثا: إدارة التوازنات وإعادة تشكيل المشهد الإقليمي، تدرك واشنطن أنها إزاء مشهد متحرك وقابل للتفجر في ظل صراعات ناشئة بين أطراف إقليمية تسعى إلى توسيع نطاق نفوذها، مثل إسرائيل، وتركيا، مع وجود نسبة عالية من إمكانية حصول احتكاكات عنيفة بينهما في سوريا، وكذلك أطراف محلية على خلاف مع دمشق، مثل الكرد والدروز، وتسعى إلى تحقيق أهداف انفصالية، ومن ثم فإن الوجود الأميركي في سوريا من شأنه ضبط التفاعلات الجارية، وإعادة توجيهها ضمن أطر جديدة محلية وإقليمية. إعلانوفي السياق ذاته، فإن التحرك الأميركي في سوريا يهدف إلى رسم قواعد تشكيل المشهد الإقليمي، بما يسمح لها بالتحكم في قواعد الاشتباك وإدارة التصعيد، وتوجيه أدوار الفاعلين في المرحلة المقبلة؛ بهدف إخراج المنطقة من دائرة الصراعات وتحويلها إلى قطب اقتصادي يَصب جزءا من عائداته في رصيد أميركا، من خلال انخراط شركاتها في البنى الاقتصادية والاستثمارية في المنطقة، عبر مشاركتها في تشكيل طرق التجارة، وخطوط نقل الغاز، ومشاريع الإعمار.
ويساهم موقع سوريا الجغرافي في تشكيل الموقف الأميركي الجديد، إذ تغادر سوريا منطقة الإهمال الإستراتيجي في تفكير إدارة ترامب التي سبق أن وصف رئيسها سوريا بأرض الرمال والموت، لتصبح عقدة جغرافية تمتد من المتوسط إلى العراق، وتركيا، والأردن، وإسرائيل، وترتبط بمشاريع واشنطن الجيوسياسية والجيوقتصادية في المنطقة بشكل عضوي.
ومن ثم فإن استقرارها يمثل استثمارا مهما ضمن بنية المصالح الأميركية، ولذلك، نلحظ إلقاء أميركا بكامل ثقلها؛ للحفاظ على الأمن فيها، وتثبيت منظومتها الإستراتيجية الجديدة.
يتقاطع الاهتمام الأميركي مع توجه إقليمي يسعى إلى تثبيت الاستقرار في سوريا، والحفاظ على وحدة التراب، ولجم الاندفاعة الإسرائيلية التي تهدف إلى تفتيت سوريا بما يرتد سلبا على أمن دول المنطقة.
وتدرك الأطراف الإقليمية أن انخراط أميركا في الملف السوري، هو أفضل الحلول المتاحة لإخراج سوريا من دائرة الاحتمالات السيئة.
يتزامن ذلك مع رهان سوري بأن التشبيك الأمني والعسكري مع الولايات المتحدة الأميركية سيمنح دمشق فرصة لبناء قدراتها الأمنية والعسكرية، والحصول على الموارد اللازمة لبناء مؤسسات أمنية فاعلة.
كما أن تحولها إلى لاعب فاعل وقادر على ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار على الأرض السورية، يستلزم دعما دوليا لا يمكن استجلابه إلا من خلال التفاهم مع الطرف الأميركي، الذي بدون شك يُعتبر الفاعل الأساسي الذي يتحكم بكامل خيوط اللعبة في المنطقة، بعد تراجع أدوار روسيا، والصين، وانخراط معظم اللاعبين الإقليميين ضمن المشروع الجيوسياسي لواشنطن.
قد يأخذ الوجود الأميركي في سوريا شكلا مختلفا عن النمط القائم على وجود قواعد عسكرية على الأرض، وثمة توقعات بأن يجري دمج خبراء أميركيين ضمن هياكل الجيش السوري، تحت مسمى تدريب القوات، والمساعدة على نجاح عمليات دمج الفصائل من خارج الجيش الحالي؛ "قسَد وفصائل السويداء".
لكن المرجح أن تشهد المرحلة القادمة تكثيفا للإجراءات الأميركية الهادفة إلى إعادة هيكلة الوجود الأميركي في سوريا للتعامل مع المستجدات الطارئة، وترسيخ الترتيبات الأميركية في المنطقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline