ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟

قراءة في كتاب (عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام)، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس/ ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2024

(2- 13)

إهداء المؤلف لكتابه:

“إلى شعوب السودان والإسلام والإنسانية جمعاء، وهي تتوق إلى التحرير والتغيير، فإني أهديكم هذا الكتاب، مستدعياً مقولة المفكر التونسي الدكتور يوسف الصديق: (محمود محمد طه هو المنقذ)”.

بقلم سمية أمين صديق

أشرت في الحلقة السابقة إلى أن فكرةهذا الكتاب: (محمود محمد طه: نحو فهم جديد للإسلام) تقوم على سعي مؤلفه الدكتور عبدالله الفكي البشير للإجابة عن أسئلة عديدة ومتنوعة، تم طرحها عليه على مدى عقد من الزمان. وأوضح المؤلف بأنه واجه تلك الأسئلة في مؤتمرات ومحاضرات كانت في دول عديدة، منها: تونس، والجزائر، والمغرب، ومصر، وقطر، والأردن، والعراق، ولبنان، والسودان، وعبر مشاركات إسفيرية في ألمانيا وأستراليا، والسويد، وغيرها.  جاءت الأسئلة منمتخصصين من الأساتذة والأستاذات، ومن باحثين وباحثات وطلاب وطالبات، وكلها تمحورت حول فكر المفكر محمود محمد طه وسيرته الفكرية. وبهذا فإننا أمام كتاب تفاعلي ذو طبيعة كوكبية، يقول عبد الله:إن كتابه أتى نتيجة للتفاعل مع الباحثين والباحثات والطلاب والطالبات القراء والقارئات. وأن فكرته تبلورت وتعتَّقت عبر رحلة تساؤلات امتدت لنحو عقد من الزمان(2013-2023). وجاءت التساؤلات في منابر حوارية متعددة، وفي بلدن مختلفة”. كتب عبد الله عن أول سؤال واجهه، قائلاً: أول سؤال تلقيته هو: ما الجديد الذي أتى به محمود محمد طه في الفكر الإسلامي؟ وتبعه سؤال ثاني: ما الذي يميز محمود محمد طه عن المفكرين في العالم؟ وسؤال ثالث: ما هي أهم مرتكزات المشروع الفكري لمحمود محمد طه؟ وسؤال رابع: ما هو الفكر الجمهوري وماهي طبيعته؟ وسؤال خامس: كيف بدأ محمود محمد طه؟ وتكررت هذه الأسئلة في العديد من الفعاليات والبلدان. وهناك سؤال ظل حاضراً في بعض المنابر السودانية بصورة خاصة، وقليل من المنابر الأخرى، وهو: هل رفعت الصلاة والتكاليف الدينية عن محمود محمد طه؟ ومما تجدر الإشارة إليه أنه ومن خلال قراءة الكتاب، يمكن ملاحظة أن الأسئلة المطروحة في السودان تختلف في طبيعتها، عن تلك الأسئلة التي طُرحت في تونس أو الجزائر أو العراق وغيرها من البلدان، وهذا يعكس معاني كثيرة، ولكن لا يسع المجال للخوض فيها.

قبل الدخول في قراءة الفصول ومحاورها، وددت الوقوف بإيجاز عند أربعة مواضيع ورد الحديث عنها في الكتاب، لفتت نظري، وفي تقديري، أنها تستحق تسليط الضوء عليها. وأتناولها حسب الترتيب الذي جاءت به في الكتاب. الموضوع الأول: إهداء الكتاب وعبارة المفكر الدكتور يوسف الصديق. والموضوع الثاني: تاريخ شعار محمود محمد طه: “الحرية لنا ولسوانا”. والموضوع الثالث هو حديث المؤلف عن علاقته بالأستاذ عصام عبد الرحمن البوشي، مدير جامعة ود مدني الأهلية، وهو من كبار الإخوان الجمهوريين، وعن رحلته معه في تأليف هذا الكتاب وكتبه الأخرى، والموضوع الرابع، هو حديث المؤلف عن الفنان السوداني تاج السر حسن سيد أحمد، في هذا الكتاب، وفي كل كتبه.

يوسف الصديق إهداء الكتاب ومقولة المفكر التونسي يوسف الصديق

أهدى المؤلف كتابه، كما ورد نص الإهداء أعلاه، إلى شعوب السودان والإسلام والإنسانية جمعاء، مستدعياً مقولة المفكر التونسي الدكتور يُوسُف الصديق: “محمود محمد طه هو المُنقذ”. وفي تقديري تأتي أهمية عبارة الدكتور يُوسُف الصديق، والتي استدعاها المؤلف من أنها تمثل رؤية ثاقبة، وعبارة مدهشة، تستوجب الوقوف عندها والتفكير فيها ملياً، فهي دعوة لنا جميعاً لنعيد النظر في التعاطي مع طرح الأستاذ محمود محمد طه (الفهم الجديد للإسلام). بل وتدعونا إلى ضرورة تبني اتجاه جديد نحوه، مبني علي العلم والأخلاق، والمسؤولية الفردية حتى نتحرر من هيمنة رجال الدين ووصايتهم. حتى ندرك ما عناه ورمى إليه الدكتور يوسف الصديقفي عبارته: “محمود محمد طه هو المنقذ”. والأهمية الخاصة لهذه العبارة أنها صدرت عن مفكر كبير وأستاذ جامعي ظل مشغولاً بالفكر الإسلامي على مدى أكثر من نصف قرن. لقد أورد المؤلف تعريفاً بالدكتور يوسف الصديق. فهو مفكر تونسي ولد عام 1943. درَس الفلسفة ودرّسها بجامعة السوربون الباريسية، وفي تونس. تتلمذ في المدرسة الصادقية وبمكتبة والده الشيخ الحفناوي الصديق. حفظ القرآن صبيا والأحاديث الشريفة والشعر العربي الكلاسيكي. أنجز ترجمات عديدة إلى اللغة الفرنسية شملت الأحاديث النبوية ونهج البلاغة وموطأ الإمام مالك ورسائل ابن سينا، إضافة إلى ترجمة ذات صبغة فكرية لمعاني القرآن. من مؤلّفاته: هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها؛ الآخر والآخرون في القرآن.

الحرية لنا ولسوانا “الحرية لنا و لسوانا”: شعار محمود محمد طه منذ منتصف القرن العشرين

فكرة الكتابة عن تاريخ شعار الأستاذ محمود محمد طه والتوثيق له، فكرة رائعة، وجديرة بالاحتفاء وتسليط الضوء عليها. كتب المؤلف، قائلاً: كان أول ظهور لهذا الشعار ” الحرية لنا ولسوانا” في دستور الحزب الجمهوري الذي أعلنه محمود محمد طه، رئيس الحزب في اجتماع عام، عقد مساء الجمعة 30 نوفمبر 1951. ثم ظهر الشعار في كتاب محمود محمد طه، قل هذه سبيلي:الاقتصاد-الاجتماع-التعليم-المرأة، الذي صدر في مايو 952 . فجاء الشعار ضمن دستور الحزب الجمهوري الذي تضمنه الكتاب بعد الإهداء مباشرة. بعد ذلك أصبح الشعار يظهر في منشورات الحزب الجمهوري ومطبوعاته، وكذلك في الأوراق الرسمية للحزب الجمهوري- الورق المروس. ثم برز الشعار في صدر صحيفة الجمهورية التي أصدرها الحزب الجمهوري، وترأس تحريرها محمود محمد طه، رئيس الحزب، وجاء عددها الأول في صباح يوم الجمعة 15 يناير 1954، ثم توقفت الصحيفة عن الصدور في نهاية مايو 1954. ظل الشعار يظهر في بيانات الحزب الجمهوري، كما ظهر ضمن دستوره لعام 1968. ثم برز الشعار في صدر مجلة الجمهورية، وهي مجلة داخلية شهرية، أصدر الحزب الجمهوري، العدد الأول منها يوم الخميس 17 أبريل 1969، وجاء في صدر العدد أن الجمهورية، مجلة الحزب الجمهوري الداخلية، تصدر شهرية، شعارها “الحرية لنا ولسوانا” رئيس التحرير سعيد الطيب شايب، وسكرتير التحرير عوض الكريم موسي. وأوضح عبد الله، بأن مجلة الجمهورية هي غير صحيفة الجمهورية. وأضاف عبدالله، قائلاً: بقى هذا الشعار مرفوعاً و مرسوماً باسم محمود محمد طه وتلاميذه وتلميذاته “الإخوان والأخوات الجمهوريات” في سيرتهم الفكرية ومسيرتهم السياسية.

عصام البوشي عصام البوشي: مدرسة فكرية متفردة

توقفت كثيراً عند ما كتبه المؤلف في “الشكر و العرفان” عن علاقته بالأستاذ عصام عبدالرحمن البوشي. وهي، فيما يبدو، علاقة فكرية وعلمية وروحية خاصة. أعجبني الوصف الذي قدمه عبدالله عن تلك العلاقة، وعن طبيعة الحوار بينهما، وهو حوار متواصل على مدى نحو (18) عاماً، عبر جلسات عديدة وأحاديث هاتفية تمتد لساعات، إلى جانب المراسلات المكتوبة. وعلى الرغم من أن الأستاذ عصام، من كبار الجمهوريين، وهو الأستاذ الجامعي والمفكروالشاعر، وهو في مقام الأستاذ بالنسبة لعبدالله، إلا أنه، كما أوضح عبدالله، لم يكن يمارس أي أستاذية أو وصاية على عبدالله، بل كان الحوار بينهما، كما فصَّل عبدالله، يقوم على الديمقراطية، والحرية، ومبدأ المسؤولية الفردية، إلى جانب الإقناع بالعقل والحجة. سألت عبدالله عن علاقته بالأستاذ عصام البوشي، فقال لي: “عصام البوشي كان معي، ليس في هذا الكتاب، فحسب، وإنما في كل مؤلفاتي. كنت أهاتفه بشكل يومي، في الصباح وآناء الليل والنهار، دون تحري للوقت المناسب، وإنما حسب أحوال الكتابة عندي، فأجد منه وعنده الترحاب والأريحية والسعة”. وأضاف عبدالله، قائلاً: ومع كامل الأدب والاحترام فإن عصام البوشي  مدرسة فكرية متفردة، عنوانها الديمقراطية والحرية، ولا تعرف الوصاية. كما أنني كُنت أمامه ومعه، حراً في أفكاري وعملي، وحريصاً على تجسيد الفردية في المسئولية والمواجهة والاحترام”.وهذا ما عبر عنه عبدالله في “الشكر والعرفان”. وقدرأيتُ هنا  أن أثبت ما كتبه عبدالله وخصّ  به الأستاذ عصام عبد الرحمن البوشي.  أنقل الكلمات كما هي ، فهي غنية بالقِيَم، وتتحدث عن نفسها، كتب عبد الله، قائلاُ:

“أجدد شكري مع فائق تقديري و إكباري للأستاذ عصام عبد الرحمن البوشي، مدير جامعة ود مدني الأهلية، السودان. لقد ظل عصام، و هو من قيادي الإخوان الجمهوريين و كبار مفكريهم، على مدى نحو عقد ونصف من الزمان، ليس متابعاً لهذا الكتاب و لكل ما أقوم به من أعمال، سواء تأليف الكتب، أو إعداد الأوراق العلمية، أو المقالات الصحفية، أو تقديم المحاضرات، عن الفهم الجديد للإسلام، و السيرة الفكرية لصاحبه محمود محمد طه، فحسب، و إنما كان هو الموجه و المقَّيم و الناقد و الناصح. كنت طيلة هذه السنوات

الخمس عشرة في تواصل يومي معه، أراسله بالبريد الإلكتروني و “الواتساب”، و أهاتفه وقت ما أشاء و أحتاج، وتتكرر المهاتفات في اليوم، واتصل أحيانا إلى خمس مرات، وتبلغ المساحة الزمنية للمهاتفة في بعض الأحيان أكثر من الساعة و الساعتين. نحتفي سوياً بما أقف عليه من وثائق جديدة، و بما أرصده من المواقف و البيانات و المقالات غير المعروفة لمحمود محمد طه، و التي ظلت قابعة في دور الوثائق و الأرشيف القومي داخل السودان و خارجه. أطرح عليه ما يراودني من أفكار و خطط لمشاريع بحثية، فيتداولها معي بعلميه و ديمقراطية و حياد عقلي، لا مجال فيه للمجاملة، أو التحامل على الآخرين، أو الانسياق خلف مشاهد الآخرين، و إنما السماحة و التجسيد لقول محمود محمد طه : ” الناس يحدثوهم بسعة الرحمة الإلهية”.

كانت مداولاتنا عبارة عن منبر حواري حُر، لم أشعر معه بوصاية منه، كما كُنت حراً في أفكاري وعملي، و ساعياً لتجسيد الفردية في المسئولية و المواجهة، و لكن عليَّ إقناعه بالعقل و الحجة. كنا إذا ما وصلنا لمفترق طرق في أمر ما، وأصبحنا أمام خيارين، لا يصدر قراراً من عنده بأفضلية الخيار، وإنما يسألني: لأي الخيارين أنت تميل؟ فأجيب محدداً الخيار الذي أميل إليه، فيقول: خُذ به. كُنت حينما أهاتفه كأنه كان ينتظرني، وعندما نبدأ الحديث كأننا في حضرة اكتمال المحبة والثقة في محمود محد طه، وكلانا لا يجد راحته إلا في سيرته، و فكره، والإكثار من ذكره، و حينما أودعه، يختم قائلاً:”إذا ظهر لك شيء، اتصل مرة ثانية”.

تاج السر حسن الفنان تاج السر حسن: النموذج الإرشادي في الاحترام للمفكر محمود محمد طه

أدهشني موقف الفنان تاج السر حسن سيد أحمد، وتعبيره العملي عما يكنه من احترام للأستاذ محمود محمد طه. الفنان تاج السر هو فنان سوداني وعالمي كبير، تربطه رحلة عمل خاصة بالمؤلف عبد الله، فهو الذي وضع خط غلاف هذا الكتاب، كما قام بوضع خطوط وتصاميم أغلفة جميع كتب الدكتور عبد الله الفكي البشير. وكان يرفض أن يأخذ مقابل نظير عمله، وهو فنان عالمي لديه ارتباطات واسعة، ولهذا ليس لديه وقت، كما أن أعماله عالية التكاليف، كما ذكر عبد الله، وعلى الرغم من ذلك كان تاج السر يفرّغ وقته لأغلفة كتب عبدالله. وقد عبَّر عبدالله عن كل ذلك، شاكراً لتاج السر، فكتب عبدالله، قائلاً:

“والشكر الخالص للفنان السوداني العالمي الأستاذ تاج السر حسنسيد أحمد، الذي قدم، من خلال رحلة عملي معه، نموذجاً إرشادياً نادر المثيل في الاحترام لمحمود محمد طه، والاحتفاء بفكره وسيرته. لقد وضع تاج السر خط وتصميم الغلاف لهذا الكتاب، ولكل كتبي عن محمود محمد طه ومشروع الفهم الجديد للإسلام، وقد صدرت خمس منها، وستصدر الكتبالأخرىتباعاً بإذن الله، وقد أنجز تاج السر تصميم أغلفتها. كان أول درس تلقيته من تاج السر في معاني الاحترام لمحمود محمد طه،في نهار 21 يوليو 2013، حينما قدمت نفسي لتاج السر وأبلغته بأنني أكتب في كتاب بعنوان: صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، وطلبت منه تصميم الغلاف، رحب فوراً بطلبي، فسألته عن التكلفة المالية، وأنا أعرف أنه فنان عالمي كبير، وتكاليف أعماله عالية، لما تنطوي عليه من إبداع ودقة وإتقان، فرد عليَّ بحسم، قائلاً: “العمل عن الأستاذ محمود محمد طه لا يُؤخذ فيه مقابل”، وأضاف، دون أن يمهلني في استكمال الاعجاب والتعبير عن الشكر، قائلاً: أرجو لا تُحرج معي في طلب أي عمل عندك عن الأستاذ محمود محمد طه.ومنذ ذلك الوقت، ظل تاج السر، وعلى الرغم من كثرة مسؤولياته، وتعدد التزاماته،وضيق وقته،يستجيب بمحبةوترحابلكل طلباتي. وكنت مع كل عمل جديد، أكتشف بأن احترامه واحتفاءه بمحمود محمد طه، ينبع من موقف المثقف الحر، الملتزم بالواجب الثقافي والوطني والإنساني والأخلاقي”.

لا جدال في أننا مع الفنان تاج السر حسن، نجد أنفسنا نقف أمام مثقف وفنان كبير صاحب قيم أخلاقية عالية، والتزام إنساني وسداني نادر المثل، كما أنه يمثل نموذجاً إرشادياً، كما ذكر عبد الله، يحتذى في الاحترام للأستاذ محمود محمد طه. التحية والاحترام والتقدير للأستاذ تاج السر حسن سيد أحمد، فمثل هذه المواقف الأخلاقية تضخ الشجاعة في الفضاء السوداني والإنساني، وتمثل معولاً لهدم السردية التكفيرية، وتسهم في تطوير الوعي تجاه من يستحق الاحترام.

نلتقي في الحلقة الثالثة.

ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «1- 13»

الوسومالإخوان الجمهوريين السودان الفهم الجديد للإسلام تاج السر حسن سيد أحمد تونس د. عبد الله الفكي البشير سمية أمين صديق صفاقس محمود محمد طه يوسف الصديق

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: السودان تونس د عبد الله الفكي البشير صفاقس محمود محمد طه يوسف الصديق الأستاذ محمود محمد طه الدکتور یوسف الصدیق الحزب الجمهوری الأستاذ عصام هذا الکتاب الدکتور ی محمد طه عبد الله عصام عبد على مدى الله عن کتب عبد

إقرأ أيضاً:

رحيل محمد هاشم.. صوت النشر الحر صنع أجيالا وأضاء قلب القاهرة الثقافي

فقدت الساحة الثقافية المصرية اليوم واحدًا من أبرز رموزها وأكثرهم تأثيرًا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، برحيل الناشر محمد هاشم، مؤسس دار ميريت وأحد أعمدة حركة النشر المستقل في مصر، ومع إعلان الخبر، عمّت موجة واسعة من الحزن بين الكتّاب والقراء والنشطاء الثقافيين، ممن عرفوا دوره الريادي وشهدوا أثره العميق في تشكيل مشهد أدبي أكثر حرية وجرأة.

أعلن الدكتور أحمد مجاهد، المدير التنفيذي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، خبر الوفاة عبر صفحته على “فيسبوك”، ناعيًا هاشم بكلمات مؤثرة قال فيها: “لا حول ولا قوة إلا بالله، وداعًا للصديق محمد هاشم أحد العلامات البارزة في مسيرة الثقافة والسياسة بمصر”، مضيفًا أنه نشر بالأمس فقط منشورًا يشكو فيه من إصابته بالإنفلونزا التي منعته من حضور خطوبة ابنته.

الخبر وقع كالصاعقة على الوسط الثقافي، فمحمد هاشم لم يكن مجرد ناشر، بل كان شخصية محورية ساهمت في صياغة موجة جديدة من الكتابة المصرية والعربية منذ أواخر التسعينيات.

وُلد محمد هاشم عام 1958 بمدينة طنطا، وبدأ مسيرته المهنية صحفيًا وكاتبًا، جذبته الكتابة منذ سنواته الأولى، لكنه وجد نفسه لاحقًا في موقع أكثر تأثيرًا: موقع الناشر الذي يفتح الباب للأصوات الجديدة ويمنح المساحة للنصوص الخارجة عن المألوف.

في عام 1998، أسس هاشم دار ميريت في وسط القاهرة، في زمن لم تكن فيه حركة النشر المستقل قد نشأت بعد. جاءت ميريت كحلمٍ متمرد، صغير في حجمه، كبير في أثره. 
وقد أسسها هاشم بفلسفة واضحة: النشر يجب أن يكون حرًا، محرّرًا من الرقابة والخوف، ومفتوحًا للكتابة التي تُقلق السائد.

ومع السنوات، تحولت ميريت إلى منصة للأصوات الشابة التي كانت تبحث عن مساحة للتعبير، وقدمت كتّابًا صاروا لاحقًا من أبرز أسماء الأدب المصري المعاصر.

تميّز مشروع هاشم بأنه لم يكن تجاريًا بقدر ما كان ثقافيًا مقاومًا، ودار ميريت لم تكن مجرد دار نشر، بل بيتًا مفتوحًا للكتّاب والفنانين. مقرها في وسط البلد أصبح ملتقى أدبيًا يوميًا، تلتقي فيه الأجيال وتتقاطع فيه التيارات الفكرية، وتُصنع فيه – على طاولة صغيرة – التحولات الكبرى في الكتابة الجديدة.

احتضنت الدار نصوصًا جريئة، اجتماعية وسياسية وفنية، ونشرت أعمالًا أثارت نقاشات واسعة، ورفضت الاستسلام للرقابة، وقدّم هاشم عشرات الكتب التي خرجت من النطاق المحلي إلى الشهرة العربية، وكانت سببًا في إطلاق موجة من الأدب المعاصر المتحرر من القوالب التقليدية.

وبفضل روحه الداعمة، تحولت ميريت إلى مدرسة: مدرسة في الحرية، وفي احترام الكاتب، وفي الإيمان بأن الكلمة الصادقة قادرة على تغيير الوعي.

على المستوى الإنساني، كان محمد هاشم شخصية محبوبة، بسيطة، صريحة، لا يخشى قول رأيه، ولا يتردد في دعم موهبة يراها تستحق. كثير من الكتّاب يعتبرون أن بداياتهم الحقيقية كانت على يديه، وأنه كان “اليد الخفية” التي دفعتهم نحو الجرأة والثقة.

لم يسعَ يومًا إلى الأضواء، ولم يتعامل مع الكتابة كسلعة، بل كرسالة. وقد عرف عنه انحيازه الدائم للحريات، ومواقفه السياسية الواضحة دفاعًا عن العدالة وحقوق الإنسان.

برحيل محمد هاشم، تفقد الثقافة المصرية أحد أهم حراس الكلمة الحرة، وواحدًا من أكثر الفاعلين الذين أثّروا في شكل الكتابة ونقلوها إلى آفاق جديدة، لقد بنى ميراثًا ثقافيًا سيظل حاضرًا في الكتب التي نشرها، والكتّاب الذين آمن بهم، والجيل الذي فتح أمامه أبواب النشر الحرّ.

ستظل «ميريت» شاهدة على بصمته، ليس فقط كدار نشر، بل كفكرة… وموقف… ورجل أحب الثقافة بصدق، ودفع ثمن هذا الحب من عمره وصحته وراحته، اليوم يرحل محمد هاشم، لكن أثره باقٍ، صامتًا أحيانًا، مرتفعًا أحيانًا أخرى.. تمامًا كما أحب أن يكون.

طباعة شارك الساحة الثقافية الناشر محمد هاشم مؤسس دار ميريت أعمدة حركة النشر مشهد أدبي

مقالات مشابهة

  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)
  • "مرزوق " يهنئ أبناء الدقهلية الفائزين في المسابقة العالمية للقرآن الكريم
  • رحيل محمد هاشم.. صوت النشر الحر صنع أجيالا وأضاء قلب القاهرة الثقافي
  • هل يجوز للمرأة حضور صلاة الجمعة؟ الإجابة الشرعية من الكتاب والسنة
  • الاحتلال يصدر ويُجدد الاعتقال الإداري بحق 41 معتقلًا
  • مديرية الجمارك تنعى وفاة أحد أمنائها أثناء تأدية الواجب الرسمي
  • سياسي فلسطيني: إسرائيل لا تزال متمسكة باستراتيجيتها العسكرية تجاه الجنوب اللبناني
  • بالصورة.. زوجة المذيع الراحل محمد محمود حسكا السابقة تنعيه بعبارات مؤثرة: (ودعناك الله يا خفيف الروح يا طيب القلب يا حلو العشرة)
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»
  • محاضرة حول أصول الفكر المتطرف بمركز الثقافة الإسلامية بدمنهور