حين تتلاقى الثقافة والمعرفة، يولد وعي لا تؤطره لغة ولا تقيده حدود، في معرض القاهرة الدولي للكتاب، حيث تتجسد روح الحوار والانفتاح، كان لقاؤنا مع المفكر التونسي الكبير منصور مهني، الذي يمزج بين الأدب والترجمة والإعلام، حاملا رؤى تتجاوز اللحظة وتعيد مساءلة المشهد الثقافي العربي، وبين إشكاليات الترجمة، وحضور الأدب التونسي، ودور الإعلام في تشكيل الذائقة، يضع أصابعه على الجرح الثقافي، ويدعو إلى مشروع حضاري يعيد للأدب مكانته وللفكر دوره، في حديث يعبر حدود اللغات والثقافات.

- في كتاباتك الفكرية قدمت مفهوم «الإبراخيليا» كمقاربة ثقافية معاصرة.. فإلى أي مدى يمكن لهذا المفهوم أن يُعيد تشكيل نظرتنا للأدب والهُوية في ظل العولمة الثقافية

لنبدأ بالتذكير بأن كلمة «إبراخيليا» مستلهمة من الكلمة اليونانية القديمة (brakhulogia)، التي رأينا فيها لب الفلسفة المجتمعية لسقراط، ولعلها أيضا السبب الذي دفع أثينا إلى الحكم عليه بالإعدام. شخصيا، بعد البحث والتفكير واعتماد بعض القياسات اللغوية، وجدت نفسي أميل إلى اللفظ الذي انتهيت إليه، وهو «إبراخيليا»، ليكون المعرف بالمفهوم في المجال العلمي، وليتم تعويضه، عند الاقتضاء، بكلمة «المحادثة» في السياق العام لتبسيط التعامل معه وتوسيعه.

أما الفلسفة التي أمكننا اختزالها في مفهوم الإبراخيليا، مع التأكيد أنها ليست بالضرورة فلسفة سقراط لأننا لا ندعي ذلك، فهي رؤية فكرية نراها في علاقة بما رأينا في فكر سقراط مما يمكن التعمق فيه وربطه بإيتيقا مجتمعية وبممارسة خطابية، قد تتلاءم مع الحاجة التي يفرضها التطور الشامل على البشر في ما بينهم من تعامل متعدد الأوجه، وفي علاقتهم بالكون وبالوجود.

ووجدنا لدى سقراط مفهوم المحادثة من حيث هي روح يمكن أن تغذي هذا التعامل والتفاعل في منطق المطمح، الذي تكرّس لدى البشر تحت مسمى «الديمقراطية»، التي لم تطابق تسميتها معناها المنشود.

- وكيف يمكن التعمق أكثر في هذا المفهوم؟

يمكن التعمق في المفهوم انطلاقا من الكتابات المنشورة حوله منذ سنة 2012، خاصة بالفرنسية، لكن في مصر على الأقل نشر كتاب «محادثات النص الأدبي.. مقاربة إبراخيلية»، وهو مدخل مفيد في ذات المجال لمن يهمه الأمر، لنقل فقط إن الإبراخيليا، باعتمادها روح المحادثة، تعمل على تقاسم قيم ثابتة هي: الاحترام المتبادل، والمساواة بين الكل، وكذلك تنسيب الحقيقة، ثم ضرورة استمرار السؤال لدى الإنسان حول كل شيء، لتعميق معرفته بقناعة أنه مهما عرف فإنه لم يعرف شيئًا.

ومن وجهة النظر هذه، وفي علاقة بمعاني القصر والصغر والنقصان التي توحي بها عبارة (براكي – brachy)، فإن الإبراخيليا، بانفتاحها على بقية العلوم ومساءلة الأشياء، تدفعنا إلى عدم التقليل من قيمة الغير، بدعوى صغره أو نقصانه، يكفي أن نطلع على ما تفيدنا به البيوتكنولوجيا والنانوتكنولوجيا لندرك أن الكون نفسه يتمثل هيكليًا في أصغر تلك الكائنات «الصغيرة» إلى أبعد الحدود.

وبالقياس، ينسحب الأمر على الأدب، الذي يفترض أن يتبنى الإنشاء التحادثي ليحيا بالتفاعل المستمر بين النص وقارئه، هذا بصفة مختصرة، لكن التعمق والتأني في الموضوع يستدعي مزيدا من الاطلاع ومن الأسئلة.

- تنوعت مسيرتك بين البحث الأكاديمي والإبداع الأدبي والعمل الإعلامي.. كيف أثّر كل مجال على الآخر في تكوين رؤيتك الفكرية والإبداعية؟

الأمر بسيط، ليس هناك مجال فكري أو علمي أو ثقافي مغلق ومنفصل بذاته، المجالات الثلاثة التي ذكرتَها يمكن أن نقرأ في تقاطعها تكاملا محمودا بين العلم والفكر والتواصل.

- في ديوانك الشعري «الثانية بعد... أم هي دائمًا الأولى»، هناك وعي عميق بالزمن والذاكرة.. كيف تنظر إلى العلاقة بين الكتابة والتاريخ الشخصي والجماعي؟

الكتابة تحتوي كل المواضيع وتتناولها بالسؤال، وهي دائماً تغوص في كينونة الأحياء والأشياء، تلك الكينونة التي تأخذ مع الزمن صبغة تاريخية، والكتابة، سواء تعلّقت بالشخص أو بالجماعات، هي حلقة في العملية التأريخية التي قد تحوّلها الظروف إلى تاريخ.

- بالنسبة للكتابة بالفرنسية.. أمنحتك مساحة تعبير مختلفة عن الكتابة بالعربية، أم أن كل لغة تفرض قيودها ورؤاها الخاصة؟

بالطبع، منحتني الكتابة بالفرنسية مساحة تعبير إضافية، لكنني لا أرى أنها مختلفة جوهريا عن الكتابة بالعربية من حيث التساؤلات التي تدفعني إليها، على العكس، أعتبرها فرصة للتقاطع والتكامل بين الإنشائيات المتنوعة، بما يساهم في تأسيس خطاب مختلط، يعيد النظر في فكرة الصراع القائم بين اللغات وما ينتج عنه من صراعات بين الشعوب.

- كيف تنظر إلى تصنيف الأدباء بناء على اللغة التي يكتبون بها؟.. وهل ترى أن الأدب التونسي المكتوب بالفرنسية امتداد للأدب العربي أم أنه كيان مستقل؟

من الأخطاء الفادحة والمضرّة بالمجتمع وبالمجتمعات، أن نعتبر الكتابة بغير اللغة «الأم» (على افتراض أن هذا المفهوم محسوم، في حين أنه ليس كذلك) نوعا من التخلي أو الانفصال عن الهوية الجمعية، الأدب التونسي المكتوب بالفرنسية أدب تونسي، تماما كما هو الحال مع أي أدب كتبه تونسي، سواء كان بالعربية أو بأي لغة أخرى.

- شهد الأدب التونسي تحولات كبيرة بعد الثورة.. أترى أن هذه التحولات أفرزت موجة إبداعية جديدة، أم أنها أوقعت الأدب في فخ الخطاب السياسي المباشر؟قضية الثورة تبقى من الإشكاليات التي لم يُحسم أمرها بعد، ولذلك تعدّدت تسمياتها وفق الموقع أو التموقع السياسي للكاتب، حتى من أراد أن يبرز في موقع الحياد، فإن تعامله مع الخطاب جرّه، بشكل أو بآخر، إلى فخ الخطاب السياسي، ربما بفعل التعقيدات البلاغية ومزالقها، تلك التي حذّر منها سقراط.

- هناك من يرى أن الأدب التونسي يعاني من عزلة مقارنة بأدب المغرب والمشرق.. أتوافق على ذلك؟ وما الذي يمكن أن يفعله المثقفون لكسر هذه العزلة؟

طُرح عليّ هذا السؤال مؤخرا، ولو بصيغة مختلفة قليلاً، وسأعيد الإجابة نفسها: الأدب التونسي مُطالب بأن يُنصف نفسه قبل كل شيء، عندما نرى التونسيين يقللون من مبادرات مواطنيهم وأفكارهم وإبداعاتهم، بينما يهلّلون لما هو أجنبي عن حق أو عن غير حق، فلا يمكننا أن نلوم الآخرين إذا استخفوا بهذا الأدب.

أمّا عندما تتكاتف جهود التونسيين، وتصفو نواياهم لخدمة الأدب التونسي دون القطيعة مع الآداب الأخرى أو التقليل من قيمتها، فعندها سنرى الأدب التونسي يترسّخ ويرتقي مع غيره من الآداب، وهنا يكمن دور المنظومة التربوية، ومؤسسات التعليم والبحث، ومجالات العمل الثقافي، ودور المجتمع المدني.

- كيف ترى حضور الأدب التونسي في المشهد العربي؟.. وهل تعتقد أن هناك تقصيرا في تسويقه وترجمته؟

لا بد للأدب التونسي من وقفة تأمل في سياسات النشر والتوزيع والترجمة، ولا بد للأطراف الاقتصادية في هذه العملية أن تُغلّب مصلحة الثقافة التونسية وآدابها على حساباتها الخاصة، التي لا يجب أن تهملها، لكن يجب أن تجد الحل الوسط الذي نعبر عنه بمقولة «حتى لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي»، يجب فتح محادثة حقيقية، بالمغنى الإبراخيلي، بين كل الأطراف المعنية والمتدخلة، قصد استنباط السياسة الناجعة في هذا المجال.

- في رأيك، هل تتبنى الدولة التونسية سياسات ثقافية داعمة للأدب، أم أن المبادرات الفردية هي التي تحافظ على نبض المشهد الأدبي؟

الدولة التونسية تدعم الإنتاج الأدبي والفكري على قدر إمكانياتها، لنقل بصفة محترمة، لكن بقية الأطراف مطالبة بوعي جمعي أكثر مسؤولية ومواطَنية، يبقى أيضا أن بعض الذين يتحملون مسؤوليات في هذا المجال قد تنقصهم الكفاءة أو التجربة، دون اعتبار ما يحصل أحيانا من سوء تصرف أو من إهمال للشأن الثقافي العام.

- كيف ترى دور المؤسسات الثقافية في تونس اليوم؟.. وهل استطاعت أن تواكب المتغيرات الفكرية والإبداعية في العالم العربي؟

في البداية، يجب الاعتراف للثقافة التونسية بما قدمت للمجال الفكري والإبداعي في العالم العربي، والتاريخ شاهد على ذلك، لذلك يبقى السؤال غير دقيق في تعريف دور المؤسسات الثقافية، التي نراها في كل البلدان العربية تقريبا مؤسسات حكومية تتحرك في مساحة السياسة الثقافية الرسمية، شخصيا، أرى أن الحركية الثقافية لا تنمو بهامش من الحرية إلا بنسيج جمعياتي جاد وملتزم بالنشاط، لتقوية المجتمع المدني ودوره في التطور والتنمية عبر العمل الثقافي المنفتح على كل القطاعات.

- في ترجماتك.. أتسعى إلى الحفاظ على روح النص الأصلي، أم أنك ترى أن الترجمة عمل إبداعي يسمح بإعادة تشكيل النص وفقًا لحساسية اللغة الجديدة؟

الترجمة ترجمات، هناك الترجمة الوظيفية، وهي مطالبة بالحفاظ على محتوى النص الأصلي وعلى رسائله، وهناك الترجمة الإبداعية، التي كثيرا ما تكون تأويلية، وبذلك لها هامش من التصرف في مساءلة معنى النص، لكنها مطالبة أيضًا بالاحتفاظ بروح النص من انفتاحه على إثراء منتظر من الإنشائية الترجمية المبدعة، وهناك بينهما الترجمة التعليمية، التي تؤدي دورا مشتركا يأخذ من الوظيفية ومن الإبداعية.

شخصيا، أجتهد في ترجماتي الإبداعية محاولا إبلاغ روح النص الأصلي كما يبدو لي تأويلها، ودعمه بخصائص الكتابة الملائمة له في اللغة المترجم إليها، لكن لا ننسى أن الترجمة الإبداعية قد تسافر بعيدا في التصرف في النص وإنشائه، إلى حد الإبداع على الإبداع، وهي ظاهرة يمكن تعميمها على عامة الإبداع الأدبي، والتي تولّاها النقد والتحليل ضمن مفهوم التناص القائل بأن لا نص ينشأ من عدم.

- كيف تواجه الإشكاليات اللغوية والثقافية عند ترجمة النصوص العربية إلى الفرنسية والعكس؟

ذاك ما عبرت عنه بالإنشاء الترجمي، المطالب بنقل المحتوى مع اجتهاد في إيجاد تقنيات وتعبيرات خاضعة لمنظومة لغوية غير منظومة اللغة الأصلية، هناك يكون لب الإبداع الترجمي.

- تعتقد أن هناك نوعا من «الرقابة الذاتية» عند ترجمة نصوص تتناول قضايا حساسة ثقافيا أو سياسيا؟

الرقابة الذاتية موجودة في الإبداع وفي الترجمة، وفي بعض الأحيان يمكن أن تكون سببا في الإبداع من حيث نزعتها لقول ما لا يقال.

- ماذا عن واقع حركة الترجمة في العالم العربي اليوم؟.. وهل تعتقد أن هناك غيابا لمنهجية واضحة في اختيار النصوص المترجمة؟

الإحصائيات تبين ضآلة حجم الترجمة في العالم العربي، رغم الحركية الجديدة والجيدة في بعض البلدان، زد على ذلك عدم التنسيق بين الدول العربية لتطوير تعاونها في مجال الترجمة، في البداية، على كل دولة أن ترسم بوضوح مكونات وأهداف سياستها في مجال الترجمة، وبعد ذلك ينطلق التعاون والتكامل بجدية ونجاعة.

- أهناك عمل أدبي عربي تعتقد أنه لم يحظَ بالترجمة التي يستحقها وتتمنى أن تتولى ترجمته؟

أنا منشغل منذ سنوات بمختلف ترجمات القرآن إلى الفرنسية، وتستفزني عديد الجوانب التي توقفت عندها، وبقيت أمني نفسي بإعداد دراسة في الموضوع، لكن مشاغل عديدة حدّت من حماسي. كما بدأت سنة 2009 ترجمة «أغاني الحياة» للشابي، لاقتناعي بأن مترجمي نصوصه لم يعيروا الجانب الموسيقي في شعره حق قدره، لكنني توقفت عند الثلث تقريبا، لكنني سعيد بترجماتي التي أنجزتها، خاصة نص «حركات» لمصطفى الفارسي، ونص «نافخ الزجاج الأعمى» لآدم فتحي، لعمق وحدة الرهانات الإبداعية التي اعترضتنا في ترجمتهما.

- باعتبارك شخصية جمعت بين العمل الصحفي والإعلامي والأدبي.. كيف ترى تأثير الإعلام في تشكيل الذائقة الأدبية لدى الجمهور؟

الإعلام له دور مركزي في تشكيل الذائقة الأدبية، وفي تنمية ثقافة الإبداع والقراءة، ولدينا تجارب عديدة لإنتاجات إعلامية سمعية بصرية أو مكتوبة أو حتى رقمية، قدمت الكثير في هذا المجال، يجدر العمل على دعم الإعلام الثقافي وتوسيع رقعته في مختلف البرامج والمحطات الإعلامية.

- ترى أن وسائل الإعلام العربية تعطي للأدب حقه.. أم أن هناك انحيازا نحو المحتوى السريع والسطحي؟

لا يحق لنا التعميم، كل وسيلة إعلامية ترسم سياستها للبرمجة الثقافية، والمهم أن نتعهد هذه السياسات الخاصة بتقييم دوري يحق له تعديل الأمور لما هو أفضل.

- كيف تنظر إلى دور معارض الكتاب كمعرض القاهرة الدولي في تعزيز التواصل الثقافي بين الدول العربية؟.. وهل تعتقد أن هذه الفعاليات قادرة على خلق حركة نقدية جادة حول الأعمال الأدبية؟

المعارض مكسب ثمين للثقافة عامة وللأدب والكتاب خاصة، والجميل هو أن معارض الكتاب تصنع لنفسها مجتمعًا مصغرًا بمختلف الطبقات والاتجاهات، لكن لا يخفي بعض النواقص، خاصة في عرض الكتب، الذي لا يصح له تجاهل إنتاجات هامة لاقتصاره على لغة واحدة أو لغتين على الأكثر، فالمعرض فرصة لا يجب أن يُحرم منها أي كتاب، وهنا نستحضر دور الرقميات لإحداث هذه النقلة النوعية.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: معرض القاهرة للكتاب معرض القاهرة الدولي للكتاب معرض الكتاب فی العالم العربی تعتقد أن أن هناک یمکن أن ترى أن فی هذا

إقرأ أيضاً:

أكاذيب الكيان الصهيوني التي لا تنتهي

لم يعرف التاريخ الإنساني، وأعتقد لن يعرف حتى قيام الساعة، دولة تكذب وتتحرى الكذب في كل أقوالها وأفعالها مثل دولة الكيان الصهيوني الغاصب التي تكذب كما تتنفس، وتعيش على الكذب الذي قامت على أساسه وتحيا عليه.

الدولة التي قامت على كذبة في العام 1948، لا يمكن أن تستمر وتبقى سوى بمزيد من الأكاذيب التي تنتجها آلة الدعاية الصهيونية المدعومة بوسائل الإعلام العالمية، بشكل يومي لكي تستدر عطف العالم الغربي وتبرر احتلالها البغيض للأراضي الفلسطينية وعدوانها الدائم والهمجي على أصحاب الأرض، وعلى كل من يحاول الوقوف في وجهها وكل من يكشف أكاذيبها ويقاوم غطرستها، وجرائمها التي لا تتوقف ضد الإنسانية.

بدأت الأكاذيب الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر مع نشأة الحركة الصهيونية، بالترويج لأكذوبة أن «فلسطين هي أرض الميعاد التي وعد الله اليهود بالعودة لها بعد قرون من الشتات في الأرض». وكانت هذه الأكذوبة، التي تحولت إلى أسطورة لا دليل على صحتها تاريخيا، المبرر الأول الذي دفع القوى الاستعمارية القديمة، بريطانيا تحديدا، الى إصدار الوعد المشؤوم «وعد بلفور» قبل عام من نهاية الحرب العالمية الأولى بانشاء وطن لليهود في فلسطين. وكان هذا الوعد، كما يقول المؤرخون، الذي صدر عن وزير الخارجية البريطاني أرثر بلفور حجر الأساس لأكبر عملية سرقة في التاريخ، سرقة وطن كامل من أصحابه، ومنحه لمجموعة من العصابات اليهودية دون وجه حق. الوعد الذي لم يعره العالم انتباها وقت صدوره تحول إلى حق مطلق للصهاينة في السنوات التالية، ومن أكذوبة «أرض الميعاد» ووعد الوطن القومي أنتجت الصهيونية العالمية سلسلة لا تنتهي من الأكاذيب التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، والمسؤولة، في تقديري، عما يعيشه الفلسطينيون الآن من جحيم تحت الاحتلال الصهيوني.

الكذبة الأولى الخاصة بأرض الميعاد، والتي صدقها العالم نتيجة تكرارها وبفعل التأثير التراكمي طويل المدى لوسائل الاعلام التي سيطر عليها اليهود طوال القرن العشرين، لم تكن سوى أكذوبة سياسية ذات غطاء ديني غير صحيح. إذ تم تفسير النص التوراتي بطريقة ملتوية لتخدم المشروع الصهيوني. ولم تُثبت الحفريات التي يقوم بها الصهاينة أسفل المسجد الأقصى وجود هيكل سليمان أو وجود مملكة داود وسليمان في فلسطين كما تزعم الرواية التوراتية المحرفة، بل أن بعض المؤرخين الإسرائيليين شككوا في وجود اليهود في فلسطين كأمة قبل إنشاء إسرائيل.

دعونا في هذا المقال نتتبع أبرز الأكاذيب الصهيونية التي روجت لها إسرائيل لاستمرار سياساتها العنصرية والتي لم تكن مجرد دعاية عابرة، بل جزءًا من استراتيجية تم وضعها وتهدف في النهاية الى تحقيق الحلم الصهيوني بدولة تمتد «من النيل إلى الفرات»، والترويج للسردية الصهيونية في الاعلام العالمي وحصار السردية الفلسطينية والعربية.

الأكذوبة الثانية التي تمثل امتدادا للأكذوبة الأولى والمرتبطة بها ارتباطا وثيقا، هي أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب، وبالتالي يمكن الاستيلاء عليها واحتلالها وتهجير أهلها منها، وجعلها وطنا للشعب اليهودي الذي كان بلا أرض»، وبذلك يتم نفي الوجود العربي الفلسطيني فيها. وتم الترويج لهذه الأكذوبة في الغرب المسيحي المحافظ من خلال خطاب إعلامي يربط إقامة إسرائيل بقرب ظهور المسيح (عليه السلام). وقد نجح الإعلام الصهيوني والمتصهين في تصوير اليهود باعتبارهم عائدين إلى أرضهم، فيما تمت شيطنة الفلسطينيين والتعامل معهم باعتبارهم إرهابيين يعارضون الوعد الإلهي. وكانت هذه الأكذوبة من أخطر الأكاذيب الصهيونية لتبرير احتلال فلسطين بدعوى أنها خالية من السكان، في حين كان يعيش فيها قبل إعلان قيام إسرائيل نحو مليون وثلاثمائة ألف عربي فلسطيني من المسلمين والمسيحيين.

وتزعم الأكذوبة الصهيونية الثالثة أن الفلسطينيين غادروا أرضهم طواعية بعد هزيمة الجيوش العربية وإعلان قيام دولة إسرائيل في العام 1948. وتم استخدام هذه المزاعم للتغطية على مجازر التطهير العرقي الذي قامت به عصابات الصهاينة، وأبرزها مجازر دير ياسين، واللد، والرملة، لطرد الفلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم.

لقد ثبت للعالم كله كذب إسرائيل في كل ما روجت له من مزاعم تخالف الحقيقة في الإعلام العالمي المتواطئ معها والمساند لها على الدوام. ومن هذه المزاعم القول بإنها «واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» الذي لا يعرف الديمقراطية. ولم ينتبه العالم إلى أن الديمقراطية الإسرائيلية ترى بعين واحدة، ومخصصة لليهود فقط، ولا تشمل سكانها من الفلسطينيين الذين يعانون من تمييز وفصل عنصري في كل مجالات الحياة. وتستخدم هذه الديمقراطية الأسلحة المحرمة والإبادة الجماعية وسياسات الاغتيال والاعتقال والتعذيب كوسيلة للتعامل مع الفلسطينيين المحرومين من حقوقهم السياسية.

وشبيه بهذا الزعم القول إن «الجيش الإسرائيلي هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم». ومع الأسف ما زالت هذه المقولة تتردد على ألسنة العسكريين والسياسيين الصهاينة وفي بعض وسائل الاعلام الغربية، رغم الجرائم الموثقة من جانب منظمات حقوقية عالمية، والتي ارتكبها ويرتكبها هذا الجيش «عديم الأخلاق» في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا وإيران، واستهدافه المدنيين من النساء والأطفال، والصحفيين والأطباء وغيرهم، واستخدامه لسلاح التجويع في غزة ومنع الإمدادات الإنسانية من الدخول الى القطاع وإتلافها عمدا، وقتل الجوعى.

ولا تتوقف آلة الكذب الصهيونية عند هذا الحد وتضيف لها الجديد من الأكاذيب كل يوم، مثل الأكذوبة المضحكة التي أصبحت مثار سخرية العالم، وهي إن «إسرائيل تواجه تهديدا وجوديا من جيرانها العرب» المحيطين بها، في الوقت الذي يعلم فيه القاصي والداني أن الكيان الغاصب هو الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي تمتلك ترسانة نووية قادرة على محو جميع الدول العربية، وتتمتع بتفوق عسكري يضمنه ويحافظ عليه ويعززه الشريك الأمريكي ودول غرب أوروبا، وتمنع بالقوة أي دولة في المنطقة من امتلاك الطاقة النووية حتى وإن كان للأغراض السلمية، كما فعلت مع العراق وايران. وينسي من يردد هذه الأكذوبة إن إسرائيل فرضت من خلال الولايات المتحدة التطبيع معها على العديد من الدول العربية، ليس فقط دول الجوار التي كان يمكن ان تهددها، وإنما على دول أخرى بعيدة جغرافيا عنها، وفي طريقها لفرضه على المزيد من الدول.

ويكفي أن نعلم أن غالبية الحروب التي دخلتها إسرائيل كانت حروبا استباقية، وكانت فيها المبادرة بالعدوان، وآخرها الحرب على إيران. والحقيقة أن حربها المستمرة منذ نحو عامين على غزة والتي تزعم أنها، أي الحرب، «دفاع عن النفس» ما هي إلا أكذوبة أخرى تأتي في إطار سعيها لتفريغ القطاع من سكانه وتهجيرهم خارجه بعد تدميره وحصاره المستمر منذ العام 2007 وحتى اليوم، وهو ما ينفي الأكذوبة الأكثر وقاحة التي ترددها الآن بأن «حركة حماس هي المسؤولة عن معاناة أهل غزة، وهي من تجوعهم»، مع أن العالم كله يشاهد كيف حولت القطاع إلى أطلال وإلى أكبر سجن مفتوح في العالم بشهادة الأمم المتحدة.

مقالات مشابهة

  • التونسي الجوادي يحرز ذهبية 800 متر ببطولة العالم للسباحة
  • حركة الأحرار الفلسطينية تدين الصمت العربي والعجز الدولي عن وقف جرائم الإبادة في غزة
  • أكاذيب الكيان الصهيوني التي لا تنتهي
  • كاتب إسرائيلي: تجويع غزة لا يمكن تبريره للعالم
  • حركة تغييرات بمديرية صحة البحر الأحمر.. تجديد الثقة في العربي وجلال مديرًا للمستشفيات
  • داخل قوات مناوي ليس هناك رصيد تعاطفي يمكن أن ينقذ “ال دقلو” من غضب جنود المشتركة
  • تعاون ليبي فرنسي لتطوير قدرات «المترجمين الدبلوماسيين»
  • الترجي التونسي يقترب من خطف صفقة الأهلي.. تفاصيل
  • أثرى العالم العربي بأجمل الأعمال..حسن الرداد ينعي زياد الرحباني
  • ترامب: لولا وجودي لكانت هناك ست حروب كبرى في العالم الآن