لجريدة عمان:
2025-12-12@22:44:32 GMT

فاعلية السياسات والعمل الاجتماعي

تاريخ النشر: 8th, February 2025 GMT

في مواجهة مشكلاتها وظواهرها المتجددة؛ يستلزم على المجتمعات وضع سياسات وبرامج محددة لمعالجة تلك المشكلات، والحد من تلك الظواهر؛ غير أن تلك السياسات لا بد أن تكون مرتكنة إلى معايير محددة تحدد مدى فاعليتها، وقدرتها على معالجة مصادر تلك المشكلات والظواهر، وتوجيه المجتمع إلى الممارسات والأفعال والسلوكيات والأفكار المرغوبة بما يتسق مع ديمومة النسيج الاجتماعي، ويحافظ على استقرار تركيبة المجتمع، ويضمن عدم الوصول إلى حالة (الأنوميا الاجتماعية anomie) أو ما يُعرف بحالة فقدان المعايير.

تستند تلك المعايير إلى طبيعة رسم السياسات الاجتماعية، وبالتالي فإن حالة (الاختصاص) ضرورية في هذا السياق، كما هي ضرورية في صنع أشكال السياسات العامة الأخرى من سياسات مالية واقتصادية وتجارية وسواها. لماذا نتحدث عن الاختصاص هنا تحديدًا؟ لأنه يشكل فعليًّا عتبة في بعض الدول، حيث يستسهل موضوع صنع السياسة الاجتماعية من قبل غير المختصين، فتغيب الأصول والقواعد الموجهة، وتقدم السياسة تدخلات قد تكون آنية وغير فعّالة على المدى البعيد في سياق تحقيق مقاصدها. هذا لا يعني إهمال إشراك التخصصات الأخرى في مناقشة ورسم السياسات، ولكن ما نعنيه أن تبدأ نقطة رسم السياسة الاجتماعية من غير ذوي الاختصاص فيها. تقول أليسون ماكليلاند: «إن السياسة الاجتماعية تتعلق بالنشاط الهادف إلى تحسين رفاهة المجتمع، وبالتالي فهي تتمتع بنطاق واسع، وتستخدم مجموعة من التخصصات، وتتداخل مع السياسة الاقتصادية، والسياسة العامة، والسياسة البيئية».

وفيما يتعلق بمعايير فاعلية ونجاح السياسات الاجتماعية فإن أحد أهم تلك المعايير هو التوافق على الأهداف السياسية لتلك السياسة؛ بحيث تتناغم المؤسسات في وضع أجندة السياسة، وتنطلق من ذات القناعات والأدلة والأرضية المشتركة في تحديد تدخلاتها ووضع البرامج التنفيذية لها؛ ففي الوقت الذي ترى فيه المؤسسات المعنية بالشؤون الاجتماعية أنه لا بد من تعزيز الإنفاق والبرامج التي تستهدف الاستقرار السكني للأسر في المجتمع؛ باعتبار أن غياب ذلك الاستقرار في السكنى مولّد للعديد من الظواهر والمشكلات المباشرة وغير المباشرة، فلا بد في الآن ذاته من تحقيق القناعة ذاتها لدى المؤسسات المعنية بشؤون تمويل التنمية، والقناعة ذاتها للمؤسسات المعنية بتنظيم المبادرات الأهلية والمجتمعية، والقناعة ذاتها لدى المؤسسات المعنية بتدبير الاقتصاد. وفي ظل غياب التوافق على الأهداف تظل السياسة الاجتماعية مجرد أطر نظرية بعيدة عن التحقق، أو في أفضل الأحوال تظل مجموعة مبادرات وقتية وجزئية غير ذات شمول أو ديمومة لتحقيق المقاصد المرجوة منها. ومن المعايير المهمة التناغم في التنفيذ؛ حيث لا يمكن أن تستهدف السياسة الاجتماعية على سبيل المثال (التمحور حول مقصد تحقيق النمو الاجتماعي الأمثل لمرحلة الطفولة) ولا تزال هناك فجوات في الجهود المؤسسية التي تحقق هذا المقصد، سواء كانت جهودا صحية أو تعليمية، أو تربوية أو سواها. من هنا تنشأ جدلية (ما الذي من الممكن أن يحقق هذا التناغم؟) هل يمكن تحقيقه من خلال سياسات تستخدم أعلى درجات الإلزام (التشريع)، أو من خلال هياكل مؤسسية (مجالس/ هيئات متخصصة..)، أو من خلال المراهنة على دور التنسيق المؤسسي عبر الآليات القائمة.

ومن المعايير المهمة لفاعلية السياسات الاجتماعية هو قدرات الرصد والتنبؤ وبناء الأدلة الاجتماعية، وهناك مؤشرات حول الحالة الاجتماعية تعَد أساسية في دوريتها وتوليدها، كما أن انتهاج آليات فاعلة للرصد الاجتماعي، والاستفادة من معطيات البيانات الضخمة، وتوظيف الاستدلال من خلال التنقيب في متغيرات البيانات الحكومية، وبناء دراسات ممثلة وموضوعية ومحكمة يمكن الاستناد إليها كل ذلك ينعكس لاحقًا على فعالية تنفيذ السياسة الاجتماعية وبرامجها. ونكاد نجزم أن فشل بعض السياسات إنما يرجع لعدم جدارة ونوعية الأدلة التي تقوم عليها تلك السياسة، والتي وجهت مساراتها والقرارات المتصلة بها إلى اتجاهات غير موضوعية أو غير دقيقة. تستند عملية صنع السياسات الاجتماعية أيضًا إلى ضرورة صنع هدف عام (ما هو المجتمع المراد الوصول إليه؟)، وهذا مهم جدًا كعامل رئيسي تتمحور حوله برامج السياسات الاجتماعية، في سياق مجتمعاتنا الخليجية على سبيل المثال فإن تحقيق الرفاه الاجتماعي يمكن أن يكون موجهًا لهذه السياسات، ولكن لا بد أن يعالج كل مجتمع هذه الثيمة بناء على طبيعة التركيب الاجتماعي والاقتصادي والمقاصد السياسية العامة، والأهم من ذلك المحافظة على السمة الثقافية للمجتمع. يقول جوزيف ستيجليتز «إن دولة الرفاهة ليست مجرد مسألة عدالة اجتماعية. ومع ذلك، أعتقد أن الحجة الأكثر إقناعًا لصالح دولة الرفاهة تتجاوز هذه الحجج الاقتصادية الضيقة. بل إنها تتجاوز حتى الحجج التقليدية لصالح العدالة الاجتماعية. والسؤال المطروح هو: أي نوع من المجتمع نرغب في العيش فيه، وأي نوع من الأفراد نرغب في أن نكون؟».

إن حشد جهود المؤسسات الرسمية والأهلية، ووضع مؤشرات واقعية مقرونة بالتقييم المستمر، ووجود إطار جاد لقدرات تصميم وتنفيذ السياسات الاجتماعية، ووجود مقاربات وبرامج تنفيذية لا تركز على مجرد الأطر الظاهرة للمشكلات الاجتماعية بل تذهب إلى معالجة جذرياتها القيمية والثقافية، وتنويع موارد الوصول إلى المجتمع، والاستثمار في الفرص التي تتيحها أبحاث وتجارب العلوم السلوكية لتغيير السلوك الاجتماعي، والاستفادة من فرص تطور علم البيانات لبناء قواعد ونظم تتبع للمؤشرات والحيثيات الاجتماعية لتوفير أدلة اجتماعية قوية، كل هذه العناصر تكمل المعايير الأساسية لنجاح وفاعلية السياسات الاجتماعية والبرامج المنبثقة عنها. وكل ذلك يبقى مرهونًا بوجود الإرادة السياسية الداعمة لصنع سياسات اجتماعية محكمة والرقابة على تنفيذها، ومدى أولوية وموقع السياسة الاجتماعية وسط منظومة السياسات العامة الأخرى.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السیاسات الاجتماعیة السیاسة الاجتماعیة من خلال

إقرأ أيضاً:

حجرُ الأحزاب في بركة السياسة

12 دجنبر، 2025

بغداد/المسلة:

رياض الفرطوسي

من قبل سقوط النظام كان الحزب أشبه بصوتٍ واحدٍ يعلو فوق الجميع: لا يُناقَش، لا يُجاوَر، ولا يُزاحم. المعارضات كانت في المنافي، تُراكم ضوءها على نارٍ صغيرة، تنتظر لحظة العودة. لكن حين انهار الباب الحديدي عام 2003، لم تخرج السياسة بهدوء… بل انفجرت، وانفتح

المشهد حتى كاد يتشظّى من فرط الكثرة.

ظهرت الأحزاب كما لو أن الأرض أفرزتها دفعة واحدة: مئات اللافتات، عشرات الزعامات، وخطابات تتشابه حتى يُظنّ أنها خرجت من ورشةٍ واحدة. وبدلاً من أن تُحدث هذه الكثرة موجة حياةٍ سياسية، صنعت دوامةً بلا اتجاه. كل حزب يحمل هدفاً، وكل هدف يذوب بين الطائفة والهوية والغنيمة.

ثم جاء الشباب… لا كما حلمنا أن يأتوا، لا بوصفهم طلائع تُضيف معنى وتبني فكرة. جاءوا متعبين، يبحثون لا عن مشروعٍ ولا عن دور، بل عن «موقع» أو «فرصة» أو (امتياز). في زمنٍ صارت فيه الأحزاب بواباتٍ للترقي الوظيفي لا للارتقاء الفكري، وفي زمن صار فيه (الانتماء) بطاقةً للعبور أكثر منه إيماناً بمبادئ.

هكذا انقلب المشهد: بدلاً من أن تكون الطلائع الشابة رافعةً تعيد للحزب روحه، صار الحزب هو من يُغذي الأعضاء بالوعود والمغانم، حتى تفَرَّغت الأحزاب من مضمونها التربوي والفكري، وصارت أقرب إلى شبكاتٍ تنظيميةٍ تبحث عن القوة العددية أكثر مما تبحث عن القوة الأخلاقية.

ومع ولادة كل قضية اجتماعية، تولد معها أحزاب جديدة تقدم (رؤى للحل) على الورق، لكنها في العمق تتزاحم على صوتٍ واحد: صوت النفوذ. تاريخ الأحزاب يمتد عبر العصور، سريةً وعلنية، لأنها الوسيلة الأكثر منطقية حين تعجز قوة الفرد عن مواجهة الدولة أو المجتمع أو الخارج. هذا ما نعرفه نظرياً… لكن الواقع العراقي تَفَصَّل بطريقةٍ أخرى.

ففي ظل العراق الجديد، لم تعد الأحزاب فقط كيانات سياسية تُحاول أن تُمثّل جماهيرها. صار بعضها (أحزاباً صغيرة) تُنشئها الأحزاب الكبيرة، كظلالٍ لها: واجهات تُبرقِع المسارات، أو أدوات لتشويش الخريطة، أو إشارات تُوحي بأن هناك «تنوعاً» بينما هو تنسيقٌ مقنّع. لعبةٌ تُؤدى على مسرح كبير، لا يعرف الجمهور تماماً من الذي يكتب النص.

وحين يعجز الحزب عن تمثيل الحقيقة المجتمعية — حين يفشل في صقل طبقته المستهدفة، أو يعجز عن تقديم قراءة ثاقبة للحدث — يذوي حوله الجمهور شيئاً فشيئاً. يبتعد الناس كما يبتعد الطير عن شجرة لم تعد تعطي ظلاً. لا يبقى سوى الهياكل: مقرات بلا فكرة، شعارات بلا روح، ووجوهٌ تُكرر ما لا تؤمن به.

يزداد هذا التآكل حين يتحول الخطاب إلى ازدواجية: قولٌ في العلن و قولٌ آخر في السر، وعندما يتجاور النفاق السياسي مع الجهل الثقافي، في مساحةٍ تتداخل فيها النخب السياسية مع النخب الثقافية دون أن تنتج رؤية مشتركة. إنها مساحةٌ ضبابية لا تُنتج فكراً ولا تفتح أفقاً. وحين نصل إلى الجذر العميق للأزمة، نجد أن تغييب الفرد في ثقافتنا كان عاملاً حاسماً في إجهاض أي تعددية سياسية حقيقية. نحن، بثقل الموروث، لم نمنح الفرد فرصة ليقف مستقلاً، ربّيناه ليكون ظلّ جماعته لا صوته الخاص. وفي اللحظة التي يحاول فيها اتخاذ قرار، تنهض العائلة والعشيرة والطائفة لتعيده إلى (الحظيرة) القديمة. وهكذا ينمو الفرد نصف مكتمل: يتكلم بثقة، لكنه يتصرف بتردد. وفي غياب الفرد الحرّ، تتولد أحزاب بلا روح، هياكل بلا مشروع، وتيارات تذوب عند أول امتحان. فالتعددية تحتاج أناساً أحراراً لا مجموعات تتحرك بدافع العرف والولاء. ولذلك لم تكن التعددية عندنا مشروعاً سياسياً بقدر ما كانت زينة لغوية… بينما التعدد الحقيقي الوحيد الذي نجحنا فيه، وبامتياز مبهر، هو تعدد الزوجات.

اليوم، يبدو العراق كبركةٍ طال سكونها، تحتاج إلى حجرٍ يُلقى فيها لا ليُحدث ضجيجاً عابراً، بل ليوقظ الماء من غفوته الطويلة. حجرٌ لا يُضيف حزباً إلى ازدحام الأحزاب، بل يضيف فكرة إلى جفاف الأفكار؛ حزبٌ يعيد للمثقفين مكانتهم الطبيعية في قيادة المزاج العام، وينهض بالطبقة الوسطى من سباتها، ويصلُ بالشباب إلى المعنى قبل المصلحة، ويُعيد تعريف الولاء باعتباره انتماءً للدولة لا ارتهاناً لسلطاتها العارضة. حزبٌ يمنح السياسة وجهاً يشبه حياة الناس، لا تشبه مقايضات السياسيين.

قد لا يتغيّر شكل الماء عند أول ارتجاجة، لكن ما في القاع سيتحرّك، وسيعرف السكون أن زمنه لم يعد مطلقاً. والعراق، بعد هذه السنوات الثقيلة، يستحق ارتجافةً تعيد إليه نبضه، وتذكّره بأن المعنى يمكن أن يعود… إذا وُجد من يملك الشجاعة ليرمي الحجر.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author زين

See author's posts

مقالات مشابهة

  • حجرُ الأحزاب في بركة السياسة
  • تراجع فاعلية المنخفض الجمعة… ما هي توقعات الأيام القادمة ؟
  • عميد قصر العيني: أعمال التطوير تواكب المعايير العالمية
  • نائبة وزيرة التضامن: المجتمع المدني شريك للحكومة فى التنمية والعمل
  • جينا الفقي: نشارك في وضع السياسات بهيئة الشراكة بين أكاديميات البحث العلمي
  • تجارب سريرية تكشف عن فاعلية عالية لعلاج جديد للصلع
  • تجهيزات متكاملة تواكب المعايير العالمية.. مشروع سياحي جديد بالبحر الأحمر
  • وزير الخارجية يستقبل مدير عام السياسات باللجنة اليهودية الأمريكية
  • جبران: ملتزمون بتوفير بيئة عمل آمنة وصحية تتوافق مع المعايير الدولية
  • وزارة الشؤون الاجتماعية ترحّب بقرار اليونيسيف نقل مقرها إلى عدن