سودانايل:
2025-12-14@04:06:20 GMT

الصحافي يحي العوض عن الجنيد على عمر

تاريخ النشر: 20th, February 2025 GMT

عبد الله علي إبراهيم

شهادتي للتاريخ: برزخ الصحو والغياب للمفكر الكبير

عثرت على هذه الكلمة للدفعة بعطبرة الثانوية الصحافي المميز يحي العوض عن رفيقنا الجنيد علي عمر (1924-6 سبتمبر 1980) الذي بدأ حياته معلماً بمدينة مدني. وانضم للحزب الجمهوري في نحو 1946 وكان من كلفه ذلك الحزب بكتابة التقارير عن إضراب مزارعي الجزيرة في نفس السنة.

ثم طلب العلم بمصر وصار فيها شيوعياً قيادياً في الحركة المصرية للتحرر الوطني (حدتو). تولى مراكز قيادية في الحزب الشيوعي السوداني يعد عودته من مصر. اشتغل في التعريب وله تراجم حسان منها مقالات من كتاب أنطونيو قرامشي "دفاتر السجن".
وأكثر ما ذاع عن الجنيد غيابه في الإدمان دون صحوه الحق. وكانت ليحي تجربة صحبة الجنيد في منعطف بين الصحو والغياب سترى منها أن ما ذاع عن تفريط الحزب الشيوعي فيه أقاويل متربصة. وسترى من وراء صحبة يحي له مهارة أستاذنا عبد الخالق محجوب في القيادة وسهره على رفاقه. لنقرأ يحي:

في ستينيات القرن الماضي زارني صديق عزيز في مكتبي بجريدة "السودان الجديد" وأبلغني بأنه تم ترشيحي لعمل إنساني يتطلب بعض التضحية لما يتضمنه من مخاطر مؤكدا: لولا ثقتنا ومواقفك المؤازرة للقضايا التي ندافع عنها لما تم اختيارك لهذه المهمة وفى كل الأحوال لك حق الرفض ولن يؤثر هذا في علاقتنا بك. واشعلت هذه المقدمة الغامضة كل قرون الاستشعار الصحافية وغرائز الاثارة المتجذرة في مهنة "فردوس الحمقى" لمعرفة هذه المهمة. ومضات من الاحتمالات تتابعت في ذهني واجبته بحماس تأكد بأني سأكون عند حسن ظنكم. ويسعدني ويشرفني القيام بواجب تكلفوني به., تكفي تضحياتكم من أجل الوطن. لا أحد يستطيع المزايدة على مواقفكم. تنهد وقال هامسا: تعرف (فلان) ومكانته بيننا. واجبته وهل يوجد من لا يعرفه على امتداد الوطن كله. وحدق في عيني ملياً وقال: قد لا تعرف ظروف الاختفاء فهي أقسى من الاعتقال. يرافقك الشك والحذر المميت حتى من همس الريح على باب أو نافذة غرفتك. واستطرد قائلا: اطمئن صديقنا مختبئ في مكان آمن لكن من تجاربنا وتقاليدنا اتاحة مساحة محدودة للقياديين "المختفين " لمتابعة الانشطة الثقافية والفكرية والفنية لمحو صدأ وعتمة العزلة. وهناك محاذير من خروجهم بمفردهم فلا بد من صحبة موثوق بها وغير مشبوهة أمنيا ترافقهم أحياناً إلى دور الرياضة والمسرح والسينما. وصاحبنا من عشاق المسرح والسينما خاصة وبالطبع الامر لا يخلو من مخاطرة لو كانت هناك متابعة وتم اعتقالكم معا. بالتأكيد انهم سيعتبرونك صيداً ثميناً لانتزاع معلومات عن أماكن اختفاء قيادات أخرى وما يسمونه أوكار الحزب وأجهزته السرية!
وبدون تردد وافقت ممتنا لاختياري لهذه الرفقة الغالية وهذه الثقة التي حظيت بها، وطافت بخاطري عدة مشاهد تدعم أسباب اختياري. فقد كنت وبحق قريباً منهم في الرؤية الكلية لقضايا بلادنا وتحالفنا سويا عبر كوادرهم الاعلامية في انتخابات اتحاد الصحافة ونقابة الصحفيين. وفزت بدورتين في انتخابات النقابة واخترت أمينا عاماً ونائباً للأمين العام للاتحاد بفضل التنسيق والتحالف معهم. وأذكر من الأصدقاء الأعزاء من الإعلاميين: الاساتذة الدكتور الطاهر عبد الباسط والتيجاني الطيب وعمر مصطفى المكي وأحمد على بقادي وسمير جرجس وعبد الله عبيد وعبد الرحمن أحمد و ميرغني حسن على وكمال الجزولي ومكى عبد القادر والشيخ عووضة وعوض برير صديقهم وصديقي إضافة إلى ذلك شغلي لموقع سكرتير تحرير "السودان الجديد". كنت في الوقت نفسه مراسلا لوكالتي انباء" تاس" السوفيتية و "أ.د.ن " وكالة انباء جمهورية المانيا الديمقراطية. وكنت منبهرا بشخصية الرجل الذي ستمكنني صحبته للاقتراب منه والاستفادة القصوى من تنوع معرفته. فله كتب وتراجم لمؤلفات احتفت بها المكتبات داخل وخارج السودان. وشكل ثنائياً مع الاستاذ هنري رياض وترجما معاً كتاب " الاولياء الصالحون والمهدية في السودان " تأليف ب. م . هولت وكذلك عدة كتب مرجعية كتبها بالإنجليزية الاستاذ محمد عمر بشير، من بينها كتاب " مشكلة جنوب السودان " وكتاب " التعليم ومشكلة العمالة في السودان" كما تعرف جيلنا على المفكر الإيطالي انطونيو قرامشى، مبدع مصطلح المثقف العضوي، عبر ترجمته لكتابه "الماركسية والفكر". وله اسهامات ثرة في معظم قضايانا الفكرية والثقافية تتسم بالرصانة والعمق مما أهله ليكون الرجل الثاني فكراً بعد الأمين العام. ويسميه الرفاق "سوسلوف الحزب " تشبيها بالفيلسوف السوفيتي الشهير. وواصل الصديق حسن شمت، عضو اللجنة المركزية، حديثه موصياً: عندما تذهب معه إلى السينما والمسرح ودور الرياضة تجنب الدرجات الأولى حتى لا تلتقي بمن يعرفك ويعرفه. وليكن خيارك المقاعد والمساطب الشعبية، وأن يكون دخول دور السينما والمسرح بعد إطفاء الأنوار والخروج قبل اضاءتها عند النهاية. وكذلك في دور الرياضة الدخول بعد بداية المباريات والخروج قبل نهايتها. وسوف نوصله إليك حتى سيارتك وكذلك سنعيده الى مكان إقامته بطريقتنا، وحدد الاماكن التي سنلتقي فيها.
وكانت سعادتي لا حدود لها في اللقاء الأول معه، الأستاذ الجنيد على عمر، في مرحلة كمال الصحو، ومرافقته عند تخوم الغياب والمواقف التي لم استوعبها عندئذ ونحن في أفق البرزخ الفاصل. وترددت طوال هذه السنوات من مقاربة هذه الذكريات. واقتنعت أخيراً وبإلحاح بعض الأصدقاء الاعزاء فتح هذه الصفحة الحزينة. وهدفي شهادة للتاريخ خاصة وهناك من ظلموا بأنهم كانوا وراء هذه المأساة الإنسانية. كنت مزهواً بهذه الثقة والصحبة رغم الخواطر والهواجس التي نازعتني ونحن آنذاك في عهد رجل الأمن الفريق احمد عبد الله أبارو.
وكان فيلمنا الاول" شمس ساطعة "بسينما النيل الازرق للممثل الفرنسى ألن ديلون. وتتابعت اللقاءات والذهاب الى دور العرض المختلفة، وأحيانا تمتد جلساتنا في حوارات هادئة في الاركان المظلمة بحدائق" افريكانا " شرق الخرطوم. وتعمدت في لقاءاتنا تجنب الحديث في شؤون حزبه. وكنت أعلم معارضته لقرار المشاركة في انتخابات المجلس المركزي. وهو مشروع بادر به نظام الفريق عبود في مطلع الستينيات بزعم أنه يمهد لانفراج ديمقراطي. كما قام الرئيس عبود بزيارة الى موسكو ورد الزيارة ليونيد بريجنيف الامين العام للحزب الشيوعي السوفيتي وأعلن عن انشاء مصانع سوفيتية في السودان تتضمن مصانع لتعليب الفاكهة والخضروات وصوامع للغلال. وكان التيار الغالب في الحزب الشيوعي يرى دعم هذا التوجه مستشهداً بمساندة فلاديمير لينين لانتخابات برلمان "الدوما" قبل نجاح الثورة البلشفية. .
وأسأله، الأستاذ الجنيد على عمر، هل يشهد جيلنا قيام نظام اشتراكي في السودان؟ ويجيبني ضاحكاً: سئل الفنان النعام آدم في برنامج " من ربوع السودان" عن عدد اغنياته. وأجاب على الفور "عييك"! وهو تعبير بالعامية السودانية لرقم أو تصور غير محدود. وواصل بسخريته اللاذعة مع ضحكاته الخافتة المتقطعة: الأستاذ إبراهيم جبريل، المتميز بلهجته المصرية، عضو المكتب السياسي للاتحادي الديمقراطي وأكبر احزاب الوسط في السودان، قال للرئيس اسماعيل الأزهري : يا ريس كلمة الاشتراكية كثيرة في برنامج الحزب. دول يا ريس ياخدو اللقمة من البق! ويضيف من أكبر أخطاء المثقفين المنتمين لأحزاب عقائدية الاعتقاد بأن الصراع الدائر في واقعهم يطابق مائة في المائة النصوص التي تضمنتها مرجعياتهم من الكتب. أو بعبارة أخرى "التضخم الأيديولوجي والبؤس المعرفي. كان شديد الحماس لدور المثقف العضوي في مجتمعه. ويتحدث عنه باستفاضة. ونواصل معه في برزخ الصحو وما قبل الغياب!

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی السودان

إقرأ أيضاً:

هل يستطيع حزب العدالة والتنمية المغربي إعادة بناء نفسه؟ رأي من الداخل

في أعقاب الهزيمة الانتخابية غير المسبوقة التي مُني بها حزب العدالة والتنمية المغربي سنة 2021، عاد النقاش حول مستقبل الحزب ووظيفته السياسية وحدود أدواره داخل النسق السياسي المغربي إلى الواجهة، ليس فقط في النقاش العمومي الوطني، بل أيضا في التحليلات الأكاديمية المقارنة التي تحاول فهم تحولات الإسلام السياسي في السياقات السلطوية الهجينة.

وفي هذا الإطار، يندرج المقال الذي نشره روري مكارثي وسليم حميمنات بمجلة Middle East Journal تحت عنوان: "هل يستطيع حزب العدالة والتنمية إعادة بناء نفسه؟"، والذي سعى إلى تفكيك أسباب الانكسار الانتخابي للحزب ورصد ملامح استراتيجيته الجديدة في المعارضة، من خلال الربط بين البراغماتية السياسية والقيود البنيوية التي يفرضها النظام السياسي المغربي.

غير أن قراءة تجربة حزب العدالة والتنمية تطرح أسئلة أعمق من مجرد تتبع اختيارات قيادته أو تحولات خطابه، لأنها تلامس إشكالية أوسع تتعلق بطبيعة الفعل الحزبي داخل نظام يسمح بالتعددية والانتخابات، لكنه يضبط مآلاتها وحدودها بدقة. ومن هذا المنطلق، يسعى هذا المقال، المنشور في سياق خاص لـ«عربي21»، إلى مناقشة الأطروحات التي قدمها مكارثي وحميمنات، ليس من باب نفي قيمتها التحليلية، وإنما من أجل استكمالها بإدماج العوامل البنيوية والسياقية التي غالبا ما يتم تهميشها في تحليل المسارات الحزبية بالمغرب.

فهل تكفي العودة إلى خطاب الهوية والكاريزما القيادية لتفسير محاولات إعادة البناء؟ أم أن أزمة الحزب أعمق، وترتبط أساسا بتحولات المجال السياسي نفسه وحدود الإصلاح من داخله؟ هذه الأسئلة تشكل الإطار الفكري الذي يحكم القراءة التالية.

قراءة نقدية لمقالة روري مكارثي وسليم حميمنات

يتناول المقال الذي نشره روري مكارثي وسليم حميمنات على موقع   Middle East Journal تحت عنوان: هل يستطيع حزب العدالة والتنمية إعادة بناء نفسه؟ مسار حزب العدالة والتنمية المغربي بعد هزيمته الساحقة في انتخابات 2021، محاولا تفسير ديناميات الأزمة الداخلية، وأسس الاستراتيجية الجديدة التي يعتمدها الحزب لاستعادة حضوره السياسي. ويعد هذا المقال واحدا من أهم التحليلات الحديثة التي ترصد حزب العدالة والتنمية في المغرب من منظور مزدوج: منظور علم السياسة المقارن، ومنظور العلاقة بين الأحزاب والأنظمة السلطوية الهجينة.

غير أن النص، رغم دقته التحليلية، يتضمن عددا من الفرضيات التي تستحق النقاش، كما أن قراءة التجربة الحزبية المغربية من منظور "البراغماتية الإسلامية" وحده قد لا يكفي لتفسير التحولات العميقة التي عرفها الحزب.

في تشخيص الأزمة ـ بين العوامل الذاتية والهيكلية..

يرى المقال أن هزيمة حزب العدالة والتنمية سنة 2021 نتجت أساسا عن التنازلات السياسية المؤلمة المتعلقة بتوقيع الاتفاق الثلاثي من طرف سعد الدين العثماني رئيس الحكومة السابق والأمين العام للحزب آنذاك، والموافقة على تقنين القنب الهندي وفرنسة التعليم، بالإضافة إلى هندسة انتخابية مقصودة حدّت من قدرته على الفوز. وهو تشخيص صحيح إلى حد كبير، ولكنه تشخيص غير مكتمل إلا بإضافة أربعة عوامل حاسمة:

إن مسألة الانتقال الجيلي التي يثيرها المقال ويربطها بأسماء قيادية معينة، تستحق النقاش من زوايا متعددة، ولكنها بالتأكيد ليست غاية في حد ذاتها، لأن المطلوب هو ضمان استمرارية رسالة الحزب الإصلاحية وتطوير خطابه بما يساير المستجدات السياسية والاقتصادية، وذلك على ضوء خبرته المتراكمة في التدبير، وعلى ضوء المراجعات المطلوبة لنظرته للعديد من القضايا..أولا ـ أزمة التمثيلية داخل المجتمع المغربي، وتراجع التصويت السياسي لفائدة التصويت النفعي (التصويت مقابل المال، أو مقابل خدمات سريعة)، فالتراجع الحاد لثقة المواطنين في الأحزاب شمل جميع التنظيمات، وليس العدالة والتنمية وحده، وتشير العديد من الدراسات إلى أن نسب المشاركة المتدنية تعكس تراجعا حادا لبنية الوساطة الحزبية، وهو ما يضعف أي حزب بغض النظر عن أدائه، بمعنى أن أطروحة التصويت العقابي ضد حزب العدالة والتنمية لا تعني بالضرورة تحويل الأصوات بشكل واع نحو الأحزاب التي فازت في انتخابات 2021.

ثانيا ـ نهاية رصيد دينامية الربيع العربي والموجة الإصلاحية الإقليمية التي استفاد منها الحزب في 2011 ونجح في استدامتها إلى 2016 بفعل تماسك صفه الداخلي في مواجهة حزب الأصالة والمعاصرة المدعوم من السلطة، وبفعل الأداء القوي لأمينه العام آنذاك عبد الإله بنكيران، لكن ابتداء من 2017، دخل المغرب مرحلة "استعادة المبادرة" من طرف السلطة وإصرارها على تقليص هوامش الفعل السياسي، وهو ما ظهرت مؤشراته في التحكم في الصحافة والنشر وفي مؤشرات أخرى..

ثالثا ـ تأثر العلاقة بين الحركة والحزب، ولاسيما بعد توقيع اتفاقية التطبيع، فالعلاقة بين الحزب وحركة التوحيد والإصلاح عرفت اختلالا بنيويا بعد أن وقع سعد الدين العثماني بصفته رئيسا للحكومة الاتفاق الثلاثي تحت أنظار الملك محمد السادس، وهو ما أدى إلى فتور داخل القواعد الدعوية وعدم الحماس لدعم الحزب في المحطات الانتخابية، وبروز نوع من فقدان التجانس السياسي والإيديولوجي.

رابعا ـ تصدع الصف الداخلي للحزب، على المستوى القيادي، لاسيما بين الأمانة العامة للحزب بقيادة سعد الدين العثماني آنذاك، وعبد الإله بنكيران رئيس الحكومة الأسبق الذي لم يقبل أي موقع قيادي داخل مؤسسات الحزب منذ المؤتمر الوطني ل2017، واكتفى بتوجيه كلمات للجمهور عبر صفحته على الفايسبوك واليوتوب، بعضها كان يتضمن انتقادات لاذعة لقيادة الحزب وأدائها الحكومي، مما أظهر الحزب في صورة مفككة وغير منسجمة..

هذه العوامل البنيوية لم يسلط المقال عليها الضوء بما يكفي، رغم أنها أساسية لفهم الأزمة.
في قراءة الاستراتيجية الجديدة - بين تعبئة الهوية وقيود السلطوية..

يرى المقال أن رؤية بنكيران تعتمد على ثلاث ركائز: ـ الهوية الإسلامية ـ الدفاع عن فلسطين ـ نقد حكومة أخنوش، ويصف هذه الاستراتيجية بأنها "عودة إلى خطاب ما قبل 2011"، وأنا أتفق على هذا التوصيف مع بعض التدقيقات اللازمة.

إن ما يحدث ليس عودة خطابية بغرض انتخابي فقط، بل هو، يمثل في نظر بنكيران، تصحيحا لخطاب الحزب بعد انغماسه في التدبير العمومي، وحاجة الحزب إلى استعادة هويته الأصلية بعد عشر سنوات في السلطة، تراجع فيها خطاب الهوية داخل الحزب. ولكن هذه العودة في نظري، بقدر ما تمثل محاولة جادة لتجميع قواعد الحزب على أرضية المرجعية الإسلامية واستعادة جمهور المحافظين، بقدر ما تظل بعيدة عن ادعاء امتلاكها لمشروع مجتمعي متكامل الذي يظل منفتحا على مرجعيات الكسب الإنساني في مجال التدبير السياسي وتنظيم السلطة، فخطاب الهوية يمكن أن يستخدم كأداة للتعبئة الشعبية، لكنه لا يمس جوهر النسق السلطوي.

أما فيما يتعلق بما يسميه المقال "محاولة استعادة الشرعية بعد صدمة التطبيع"، فيمكن القول بأن القضية الفلسطينية تعتبر  قضية إجماع وطني، وحزب العدالة والتنمية من الأحزاب السياسية المغربية التي كانت سباقة إلى دعم كل المبادرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني، لكن من المؤكد أن الحزب تضرر من لحظة التوقيع الثلاثي، وبالتالي فإن إصراره على الالتزام بثوابت القضية الفلسطينية وحضوره الدائم خلال الفعاليات الشعبية التضامنية مع القضية الفلسطينية، يرمي بالفعل إلى محو آثار توقيع العثماني وإعادة تقديم نفسه كفاعل مبدئي في التعاطي مع هذه القضية خصوصا بعد طوفان الأقصى وما تبعه من أحداث..

السياق السياسي السائد يحد من أي تحول عميق في الممارسة الحزبية حتى مع تغير الوجوه، فحدود السلطة التنفيذية تبقى مسيجة بقواعد دستورية وأخرى ضمنية، ودور المؤسسة الملكية يبقى دورا محوريا في الحياة السياسية، وأدوار وزارة الداخلية ازدادت اتساعا في الآونة الأخيرة، وهو ما يعني أن مجال تأثير الحزب سيظل محصورا في المساحة المسموح بها.أما فيما يتعلق بنقد حكومة أخنوش، فهنا لا يختلف الكثيرون على أن حزب العدالة والتنمية استثمر إلى حد بعيد خبرته التدبيرية لتوجيه ملاحظات دقيقة للأداء الحكومي، وفضح العديد من انزلاقاتها خصوصا ما يتعلق بتضارب المصالح لدى أعضاء ورئيس الحكومة ومراكمة الثروة عن طريق صفقات عمومية افتقرت إلى الشفافية والنزاهة، وبذلك نجح الحزب في التموقع كأول حزب معارض في البرلمان رغم أنه يتوفر على مجموعة برلمانية من 13 عضو فقط..

إشكالية الرهان على الكاريزما ومستقبل الحزب..

يعتبر المقال بأن الحزب يعيد تكرار تجربة "الشخصنة" من خلال إعادة انتخاب بنكيران أمينا عاما للحزب، والحقيقة أن هذا يعتبر من المخاطر الجدية التي تحيط بهذه التجربة، فالشخصنة قد تضعف المؤسسية، وقد تؤدي إلى بناء شرعية زعامة بدل بناء شرعية الحزب، وقد ترهن مستقبل التنظيم بإمكانات فرد واحد، لكن من المؤكد أن إعادة الثقة في بنكيران جاء في أعقاب تداول حر بين المؤتمرين دام لمدة خمس ساعات وتوج بتصويت حر في صناديق زجاجية أعطت أغلبية أصوات المؤتمرين لبنكيران، كما أن تشكيلة الأمانة العامة تضم قياديين مخضرمين بالإضافة إلى عدد معتبر من الشباب وتمثيلية النساء.

إن مسألة الانتقال الجيلي التي يثيرها المقال ويربطها بأسماء قيادية معينة، تستحق النقاش من زوايا متعددة، ولكنها بالتأكيد ليست غاية في حد ذاتها، لأن المطلوب هو ضمان استمرارية رسالة الحزب الإصلاحية وتطوير خطابه بما يساير المستجدات السياسية والاقتصادية، وذلك على ضوء خبرته المتراكمة في التدبير، وعلى ضوء المراجعات المطلوبة لنظرته للعديد من القضايا..

صحيح، أن المؤتمر الأخير لم يستطع التخلص من منطق الزعامة الكارزمية، ولكنه في نفس الوقت لم يركن إلى "أطروحة الاختيار الحتمي" لبنكيران وإنما أعاد التأكيد على قيمة التنافس الانتخابي وتعددية المرشحين، رغم أن مساطر الحزب لا تسمح للأعضاء بترشيح أنفسهم وفق برامج وأفكار تنافسية، ومع ذلك تبقى الممارسة الديموقراطية داخل حزب العدالة والتنمية من أرقى التجارب الحزبية في المغرب.

بقي أن أشير إلى أن السياق السياسي السائد يحد من أي تحول عميق في الممارسة الحزبية حتى مع تغير الوجوه، فحدود السلطة التنفيذية تبقى مسيجة بقواعد دستورية وأخرى ضمنية، ودور المؤسسة الملكية يبقى دورا محوريا في الحياة السياسية، وأدوار وزارة الداخلية ازدادت اتساعا في الآونة الأخيرة، وهو ما يعني أن مجال تأثير الحزب سيظل محصورا في المساحة المسموح بها.

حيث يسمح النظام السياسي بوجود انتخابات وتعددية، لكن وفق نتائج مضبوطة تمنح هامشا محدودا للأحزاب ولا تسمح بظهور بديل سياسي يتمتع بشرعية شعبية واسعة، مثل ما حصل بعد انتخابات 2016..

والخلاصة..

إن المقال يقدم قراءة مفيدة لمسار حزب العدالة والتنمية، لكنه يميل إلى تفسير التحولات الداخلية اعتمادا على الفاعلين داخل الحزب أكثر مما يعتمد على بنية النظام السياسي، ولذلك فإن الاستنتاج القائل بأن الحزب قد يستعيد قوته، وأنه قادر على إعادة التموضع في المدى القريب، ينبغي التعامل معه بنوع من النسبية لأن ملامح مستقبل الحزب داخل معادلة سياسية مغربية معقدة، لا تتحكم فيها دينامية الحزب الداخلية وعلاقته بالجمهور فقط، ولكن تتحكم فيها أيضا البيئة السياسية العامة التي تبقي الأحزاب في موقع "التدبير داخل الحدود" ولم تعد تسمح بالمفاجأة الانتخابية..

مقالات مشابهة

  • فلنغير العيون التي ترى الواقع
  • هل يستطيع حزب العدالة والتنمية المغربي إعادة بناء نفسه؟ رأي من الداخل
  • البام يرفض الإستغلال السياسوي لفاجعة فاس
  • حزب الله من رسالة البابا إلى زيارة السفارة البابوية… تأكيد كيانية لبنان
  • باسيل: على الحزب الاعتراف انه لم يعد قادرا على حماية لبنان
  • هند الضاوي: ترامب يعتبر جماعة الإخوان أحد أدوات الحزب الديمقراطي في الشرق الأوسط
  • «حزب الأمة» يدين قصف سوق كتيلا ويدعو لحماية المدنيين
  • إسرائيل: التطورات على الحدود مع حزب الله تتجه نحو التصعيد
  • ما الذي يحسم مصير خطة نزع سلاح العمال الكردستاني؟
  • قطيعة بين حزب الله وفرنسا؟