فتاوى: يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان
تاريخ النشر: 1st, March 2025 GMT
- السائل يقول: لماذا استخدم الفعل الماضي في قوله تعالى: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه"، مع أن الأمر لم يتحقق بعد؟
في قول الله تبارك وتعالى في مطلع سورة النحل: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون"، أنزل المتوقع حصوله منزلة الواقع الحاصل يقينًا، وهذا يصلح له الفعل الماضي، وهذا أسلوب في العربية معروف، وهو إنزال ما يُتوقَّع حصوله مستقبلاً منزلة الواقع فعلاً، للدلالة على أن المتوقع حصوله واقعٌ قطعًا لا محالة، ولا ريب ولا شك في وقوعه وحصوله، وكأنه قد حصل، فهذا من بلاغة كلام الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم، وهو إنزال أو استعمال الفعل الماضي للدلالة على الوقوع والحصول لأمر مستقبلي، بدليل أن الآية نفسها قالت: "فلا تستعجلوه".
وهذا التركيب، وهو النهي عن الاستعجال، دليل على أن أمر الله تبارك وتعالى لم يقع بعد، ولكن استعمال صيغة الماضي لتأكيد أنه حاصل لا محالة، واقع، وإن كان سيقع ذلك في المستقبل، لكن لا ريب في حصوله، ولا شك في أنه واقع.
والآية الكريمة فيها جملة من الصور البلاغية التي قد لا ينتبه لها الناس، منها: إسناد الأمر إلى الله تبارك وتعالى، ففي ذلك تعظيم وتخويف للمخاطبين، وفي صدارة أغراض سورة النحل، هو التوعُّد للمشركين، وبيان عاقبة أمرهم إن استمروا على الشرك والطغيان، ولذلك ناسبت هذه المقدمة؛ لأنه في سياق الوعيد، لا بد أن يكون ما يُتوعدون به مقطوعًا بحصوله، وأن الأمر كله بيد الله تبارك وتعالى، الذي لا ريب في حصول ما يتوعَّد به عباده، كما لا شك فيما يعد به عباده الصالحين.
ولذلك قال: "أتى أمر الله"، ثم نهى عن الاستعجال فقال: "فلا تستعجلوه"، وهذا ملحظ لطيف ذكره بعض المفسرين، أن هذا النهي يمكن أن يُحمل على معنى التسوية، أي أن استعجالكم لأن السياق سياق وعيد لا يغيِّر في هذه الحقيقة شيئًا، وهذا يُسمَّى التسوية، كما أن الأمر يأتي للتسوية في قوله تعالى: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"، فالنهي كذلك هنا يحمل معنى التسوية.
هذا هو المعنى اللطيف، لأنهم لم يذكروا معنى التسوية في سياق النهي، لكن كما قلت، بعض المفسرين يقول بأن من معاني النهي أيضًا التسوية،، فإن استعجالكم أو عدم استعجالكم سواء، لا تغيِّرون من هذه الحقيقة اليقينية الثابتة، وهي وقوع أمر الله تبارك وتعالى، وإتيان أمره جل وعلا، لا تغيِّرون شيئًا.
هذه بعض اللطائف المحتفة بهذا الموضع فقط من الآية الكريمة، حتى لا نطيل كثيرًا، هناك من المفسرين من يقول بأن إتيان أمر الله عز وجل بإتيانه، أي بمجيء مبادئه ومقدماته، وعلى هذا فإن معنى قوله: أتى أمر الله، أي أن هذه العلامات والمقدمات قد حصلت فعلاً، فهؤلاء ليسوا في حاجة إلى أن يقولوا بأن هذا الأمر أمر مستقبل، أي أنه قد نُزل منزلة الواقع، باعتبار حصول مبادئه ومقدماته.
ومنهم من يقول بأن معنى الإتيان هنا في قوله: أتى أمر الله فلا تستعجلوه، أي أن الفارق بين القول الأول والقول الثاني، حتى نقترب إلى القول الثالث، أن القول الأول يرى أن أمر الله تبارك وتعالى يقع مستقبلاً، لكن استعمال الفعل الماضي يفيد أنه حاصل فعلاً وواقع دون شك؛ لأنه من عند الله تبارك وتعالى، فلا مجال للارتياب فيه أو التشكيك، فنُزِّل الحدث المستقبلي منزلة الحدث الماضي الذي وقع فعلاً.
أما القول الثاني، فإنه يرى أن مقدماته قد حصلت، ولذلك قيل: أتى أمر الله، والقول الثالث هو باعتبار الأسباب، أي أن أسبابه قد قامت، وذلك بإنزال الكتاب، وبإرسال نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبما جاء به من النذر، وبإرساله نذيرًا وبشيرًا، فإن هذه الأسباب كلها قد قامت، فإذا قامت الأسباب قامت المسببات، وكلها أقوال حسنة، لكن الذي يرجح القول الأول هو أن التفريع في قوله: فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون، يدل على أنه نهي عن الاستعجال، وهو نهي دخل على الفعل المضارع، مما يدل على أن أمر الله تبارك وتعالى لم يقع بعد.
أما المخاطبون هنا، فمنهم من قال إنهم المشركون، وذلك بدليل قوله: فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون، وهذا أيضًا على قراءة الفعل المضارع بالياء لا بالتاء، فإن قيل إن المخاطبين هم المشركون، ففي الآية التفات، لأنه قال: فلا تستعجلوه، وهذا خطاب للحاضرين، ثم قال: سبحانه وتعالى عما يشركون، فجاء الكلام بصيغة الغائب، وهذا تأكيد لمقدم الآية عند هؤلاء، لأنهم لما أعرضوا ولم يلتفتوا إلى هذا الوعيد، مع أن النذر قائمة، وأنزل هذا الأمر المتوعد به منزلة الحاصل الواقع، قامت الحجة عليهم، ولخسة منزلتهم، لم يعودوا في منزلة من يصلح للخطاب، فخوطبوا مخاطبة الغائب، وكأنه يخاطب غيرهم، وكأنه يقول: انظروا إلى صنيع هؤلاء الذين يشركون! وقيل بأن الخطاب إنما هو للمؤمنين، وهذا أيضًا تعريف بأحوال المشركين، وعلى هذا فليس هناك التفات، والله تعالى أعلم.
- السائل يقول: ما حكم الدعاء ببسط بطون الأيدي إلى السماء؟
الصحيح جواز ذلك، لما ورد في مواضع عديدة من سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - مما يشهد لهذا الفعل بالصحة، فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع يديه في الدعاء، وكان أشد ما يرفعهما في الاستسقاء، حتى يظهر بياض إبطيه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدم في جواب سابق أنه في حالة الاستسقاء، كانت بطون كفيه إلى الأرض، وظاهر يديه إلى السماء، وأن ذلك يكون بصورتين: الأولى: الصورة المتصورة عند الناس، وهي أن تكون البطون إلى الأرض، والظاهر إلى السماء، والثانية: أنه من شدة رفعه ليديه، يبلغ رفعهما إلى أن تكون البطون مواجهة للأرض، نعم، وهذا أقرب في الصورة.
لكن لا يقتصر الأمر في رفع اليدين على حالة الاستسقاء فقط، فقد ورد ما يدل على أنه كان يرفعهما في حالات أخرى، لكن جماهير أهل الحديث وشراح هذا الحديث قالوا: أي أنه لا يبالغ في رفعهما كما يحصل في حالة الاستسقاء، ولا يعني ذلك نفي رفعه صلى الله عليه وآله وسلم يديه في الدعاء، وأن يكون باطن كفيه إلى السماء.
وقد ورد في الحديث ذكر الرجل الذي يطيل السفر، أشعث أغبر، قال: "يرفع يديه يقول: يا رب، يا رب"، فهذا سياق يذكر فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حالة هذا الداعي، ويصف اجتهاده في دعائه بأنه يرفع يديه.
ورفع اليدين لم يرد فيه مقدار معين، فيمكن أن يكون ببسط اليدين مع جعل بطونهما إلى السماء، أو مع ضمهما، وقد قيل بالبسط أيضًا، وهذه كلها أحوال وردت، كما قلت، في أحاديث كثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وكان عليه عمل أصحابه - رضي الله عنهم - ومن جاء بعدهم من التابعين وسلف هذه الأمة.
وقد ذكر الشيخ ناصر بن أبي نبهان، عن أبيه، عن الشيخ أبي نبهان رحمه الله تبارك وتعالى، أنه كان يفعل ذلك في خلواته وفي صلواته، حيث كان يضم يديه ويرفعهما إلى موضع وجهه، ويدعو، وهذا فقط من باب التمثيل، وإلا فإن أئمة الإسلام لم يُنكِروا على من يبسط يديه في حالة الدعاء،، وإنما هي أحوال.
فهناك حالة الشدة، كحالة الجدب، التي يكون معها طلب السقيا من الله تبارك وتعالى، فإن رفع اليدين والاجتهاد في الدعاء يكون أظهر وأوضح، وهناك عموم الأحوال التي يحتاج إليها الناس فيما يطلبونه ويتوجهون به إلى بارئهم جل وعلا، فيتفاوتون في مقدار رفع أيديهم، وفي جعل بطون أيديهم إلى السماء، وطلب الدعاء والضراعة من الله تبارك وتعالى، فالحاصل أن الفعل من حيث ثبوته صحيح ثابت، ولا تثريب على من فعل ذلك، والله تعالى أعلم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صلى الله علیه وآله وسلم إلى السماء رسول الله فی قوله على أن
إقرأ أيضاً:
ما أكبرك يا غزة
د. عبدالله بن سليمان المفرجي
غزة ليست مجرد حروف تتراقص على شفاه الوجدان، بل هي نبض يخترق أغشية الزمن، وصرخة تثقب جدار الصمت. هي الحرف الذي يكتب نفسه بحبر العز، والكلمة التي تنطق بلسان المقادير. هي اللوحة التي رسمها الإله بأنامل من نار وإيمان، فجاءت ملحمة تعلو على زيف الألوان. هي الأنشودة التي تهز أعماق التاريخ، وتعيد للأمة إيقاعها السحري الضائع. هي الحلم الذي انتفض من تحت ركام اليقظة، فأصبح يقظة الأحلام.
غزة التي حولت التراب ذهباً، والجراح شهادات، والدم زيتاً لمصابيح الدرب. هي المدرسة التي تعلم أن الحجارة حين تلامس يد المؤمن، تتحول إلى نجوم تضيء درب الأحرار. إنها المعادلة الإلهية: قصة الدم الذي يخضب جبين الحرية، وقصة الروح التي ترفض أن تسكن في قفص الذل. هي الحكاية التي ترويها الشفاه بألسنة النيران، وتسطرها الأيدي بأقلام الرجاء.
وتاريخ عمان يشهد شهادة الحق على صدق الوعد؛ فكما رفضت عمان عبر العصور الغابرة، منذ دخولها في الإسلام، أن تنحني لغير الله وحكمه، ها هي غزة اليوم تكمل المسيرة. هي الحكمة المتوارثة كالعهد المقدس، كالنار التي لا تنطفئ في قلوب الأحرار. وما أعجب تلك التورية التي تجعل من "غزة" غاية الغايات ووسيلة الوسائل! وما أبدع جناس "غزة" و"غزاة"، فالأولى تعلو والآخرون يندثرون! إنه طباق الوجود والعدم، والحق والباطل، والعزة والذل.
لقد نسجت غزة من خيوط الألم سجفاً مطرزاً بأنوار الأمل، وحولت دموع الثكالى إلى ينابيع تروي شجرة الحرية. هي المعنى الذي يذكرنا بأن الوردة تنبت بين الأشواك، والعطر يستخرج من بين الشوك. إنها القصيدة التي كتبتها أيادي المقاومين بنغم متناسق؛ كل مقطع فيها يختتم بالحرية، وكل بيت فيها يتوج بالعزة. هي الملحمة التي تتناقلها الأجيال كنهر لا ينضب، وكشمس لا تغيب.
غزة التي كانت في عيون الأعداء رقماً تافهاً، أصبحت في سجل التاريخ رقماً لا يحصى. هي البذرة التي صارت شجرة باسقة، والقطرة التي تحولت إلى نهر جارف، والشمعة التي أضاءت قارة من الظلام. إنها مفارقة الزمن: ضعف يتحول إلى قوة، وصغر يصير عظمة، وموت يلد حياة. هي المصباح الذي لا تنطفئ أنواره، واللؤلؤة التي تزين جبين الدهر.
لقد صاغت غزة من ترابها مرايا تعكس وجه الحقيقة، ومن دموعها أنهاراً تروي عطش الحرية. هي المنارة التي تضيء في ليل المحن، والنجم الذي يهدي الحائرين. فيا أبناء العروبة والإسلام: إن غزة ليست نقطة على الخارطة، بل هي حالة في الوجدان، ومعنى في الضمير، وروح في الجسد. هي اللحظة الفاصلة التي تنتصر فيها الإرادة على المستحيل، ويعلو فيها الحق على الباطل.
إنها الحكاية التي لا تنتهي، واللوحة التي لا تكتمل، والقصيدة التي لا تقف عند بيت. هي البحر الهائج الذي لا يعرف السكون، والجبل الشامخ الذي لا يعرف الانحناء، والنور الساطع الذي لا يعرف الظلام. فليبق درب غزة مضيئاً بنور الإيمان، وليظل نداؤها مسموعاً في أفق الزمان، وليبق معناها خالداً في ضمير الأمة.
إن الأمة التي تتأمل غزة اليوم، لا ترى مجرد جغرافيا تتحرك على خرائط السياسة، بل ترى معنى يتجسد، وقِيَماً تتحرك، وروحاً تنتصر. إنها تلمس بيديها معجزة الإرادة التي لا تعرف الانكسار، وتشهد بناظريها انتصار الدم على السيف، والحق على الباطل، والإيمان على المادة.
لقد كتبت غزة بمداد من نور ودم، فصلاً جديداً من سفر المجد العربي الإسلامي، فكانت بحق وريثة بدر والقادسية وحطين وعين جالوت. أترى التاريخ يعيد نفسه؟ كلا، ولكنه يسير بدورة حكيمة، يظهر فيها الحق مرة ويختفي أخرى، لكنه لا يموت أبداً.
لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القلة المؤمنة قد تغلب الكافة الجاهلة؛ ففي غزوة بدر كان المسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر، والمشركون ألفا، فكان النصر حليف المؤمنين. وفي غزوة الأحزاب، حين أحاط الكفر بالمدينة من كل جانب، ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا".
وهذه العبرة نفسها تتجلى في عمان الحبيبة، تلك الشموخ الذي ارتفع فوق صخور الجبال وسهول الواحات. لقد شهدت عمان في عهد الإمامة معاني الوحدة والصمود، عندما توحد العمانيون تحت قيادة الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، فطردوا البرتغاليين من سواحلهم، وأقاموا دولة العدل والإيمان.
وما أجمله من مشهد ذلك الإمام العماني أحمد بن سعيد، وهو يقف أمام التحديات كالجبل الأشم؛ يوحد الصف، ويبني الدولة، ويحمي الثغور، ويقيم العدل بين الرعية. لقد جعل من عمان مثالاً يُقتدى في الحكمة والحكامة.
إننا اليوم أمام محطة تاريخية، كمحطة صلح الحديبية، التي بدت في ظاهرها هزيمة، لكنها في حقيقتها كانت فتحاً مبيناً. فغزة علمتنا أن النصر ليس بالعدد والعدة فقط، بل بالقلوب المؤمنة، والنفوس الزكية، والعزائم الصادقة. فغزة بإرادتها الصلبة، وعزيمتها الفولاذية، جعلت من المستحيل ممكناً، ومن الخيال حقيقة.
لقد آن للأمة أن تستيقظ من سباتها، وتنفض غبار اليأس عنها، وتعود إلى ديدنها الذي عرفت به في عصور مجدها. آن لها أن تتعلم من غزة كيف تكون الكرامة، ومن عمان كيف تكون الحكمة، ومن تاريخها كيف تكون العزة.
فيا شباب الأمة: أنتم رجال الغد، وأمل المستقبل، وعماد النهضة. عليكم بالعلم النافع، والعمل الصالح، والهمة العالية. كونوا كالعمانيين في تمسكهم بهويتهم، وكأهل غزة في صمودهم وثباتهم.
إن الطريق طويل، لكنه ليس بمستحيل. والغاية عظيمة، لكنها ليست بعيدة. والأعداء أقوياء، لكنهم ليسوا بأقوى من فرعون وهامان، وقد أهلكهم الله بذنوبهم.
فلنعمل جميعاً، شباباً وشيوخاً، رجالاً ونساءً - على بناء الأمة القوية الراسخة، التي تأخذ من أسباب القوة ما تستطيع، ولا تفرط في حق من حقوقها.
إن غزة لم تنتصر لنفسها فقط، بل انتصرت للأمة كلها، فأقل ما نقدمه لها أن نكون عند مستوى المسؤولية، وأن نعمل على نهضة أوطاننا، وتحصين مجتمعاتنا، وبناء أجيالنا.
اللهم انصر غزة وأهلها، واجعل نصرهم نصراً للإسلام والمسلمين. واجعلنا من أنصار الحق، وأعوان المظلومين، وحماة المقدسات.