ترجمة: بدر بن خميس الظفري

في مدينة صفاقس التونسية الساحلية، جلست هذا الشهر مع مجموعة من الرجال في حديقة رملية تعصف بها الرياح. ومع غروب الشمس، وضع أحدهم غطاء قارورة ماء كان يشرب منها على الأرض، وصب في الغطاء قطرات ثمينة من الماء لسنور قدم نحوه. حين سألت الرجال عن أحوالهم تبين أنهم كانوا من دارفور، وأنهم هربوا مما وصفوه إبادة جماعية جديدة في السودان حين رأوا المسلحين يحرقون المنازل، وأحيانًا قرى بأكملها، فهربوا للنجاة بحياتهم.

هناك العشرات وربما المئات من السودانيين يقيمون حاليًا في تلك الحديقة، والآلاف في جميع أنحاء مدينة صفاقس، ينامون على ورق الكراتين، أو على مراتب إذا كانوا محظوظين. مصيرهم هو ما يشغل تفكيرهم، إذ يتحدثون بكل هدوء عن تجاربهم، ويتساءلون أين يمكنهم الحصول على الطعام. أكثرهم ينتظرون المال من أقاربهم أو أصدقائهم، أو إيجاد عمل قد يمكّنهم من جمع 2000 دينار تونسي، ما يعادل 647 دولارًا أمريكيا، لدفع ثمن مساحة على متن قارب وإيجاد فرصة للهرب. كل من قابلتهم في مدينة صفاقس، التي تبعد حوالي 80 ميلاً من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، أرادوا عبور البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، وجميعهم كانوا يعلمون أنهم قد يموتون خلال تلك الرحلة الخطرة.

ومع ذلك، يغادر الناس كل يوم، فبعضهم يصل ويرسل رسائل الفرح من إيطاليا، والبعض لا يصلون ويموتون، فتظهر جثثهم منتشرة على طول الساحل. خلال عطلة نهاية الأسبوع التي قضيتها في الحديقة، غرقت ثلاث سفن، مُخَلِّفَةً أكثر من 80 شخصًا بين قتيل ومفقود، إذ عثر على عشر جثث ممددة على الشواطئ القريبة. وفي الأسبوع الماضي، لقي 41 شخصًا حتفهم بعد غرق سفينة قبالة الساحل الإيطالي.

لطالما اعتبر الموت الجماعي على حدود أوروبا أمرا طبيعيا، إذ لقي أكثر من 27800 شخص حتفهم أو اختفوا في البحر الأبيض المتوسط منذ عام 2014، وهذا الرقم قد يكون أقل من العدد الحقيقي. إن هذا العام عام الموت بامتياز، إذ لقي أكثر من 2000 شخص مصرعهم أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا، بما في ذلك أكثر من 600 شخص لقوا حتفهم عندما انقلبت سفينة قبالة سواحل اليونان في شهر يونيو. هكذا تتمثل للعيان حقيقة واقعة على الأرض أزمة حقوق الإنسان وأزمة الأخلاق، وقبل كل شيء أزمة عدم المساواة العالمية.

أولئك الذين تجمعوا في تونس، أكبر محطة مغادرة من شمال إفريقيا على طريق الهجرة الرئيسي إلى أوروبا، أتوا من مناطق مختلفة، فقد التقيت بأشخاص من بوركينا فاسو وغامبيا والسنغال ونيجيريا والصومال وإريتريا وليبيريا. البعض، مثل أهل دارفور، من المرجح أن يحصلوا على الحماية الدولية ووضع اللاجئ إذا تمكنوا من الوصول إلى بلد آمن، إلا أن الآخرين قد لا يحصلون على الحماية اللازمة، فهم يفرون من الفساد والفقر المستوطن، ومن الأماكن التي لا تتوفر فيها الرعاية الصحية، ويموت الأطفال من أمراض يمكن الوقاية منها، فهم لا يبحثون إلا عن فرصة ليعيشوا حياة مستقرة. إن هؤلاء لا يأتون إلا من مستعمرات أوروبية أو بريطانية سابقة.

التقيت بأشخاص ممن عاشوا في تونس لسنوات يريدون مغادرتها بعدما فقدوا وظائفهم وطُردوا بسبب تصريحات أشارات إلى أن الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى هم جزء من تنظيم إجرامي "يهدف إلا تغيير التركيبة السكانية لتونس"، مما أدى إلى موجة من الانتهاكات والاضطهاد.

لم تمنع تلك التصريحات الاتحاد الأوروبي من السعي إلى التوصل إلى اتفاق مع تونس للحد من الهجرة، ففي مقابل "إدارة الحدود"، سيوفر التكتل الأوروبي لتونس 118 مليون دولار، ويلتزم بتقديم مساعدة إضافية. في أوائل يوليو، قبض على أكثر من 1000 من الأفارقة من جنوب الصحراء في صفاقس، وألقوا على الحدود الليبية دون طعام وماء، إلا أن هذا الفعل بالنسبة للقادة الأوروبيين ليس أهم من استعداد تونس للتعاون معهم على إدارة الحدود.

تجلس (عائشة بانجورا)، السيراليونية البالغة من العمر 30 عامًا، على فرش تحت شجرة زيتون في صفاقس، وتخرج القمل من شعر إحدى صديقاتها، ثم تشير إلى ابنتها الصغيرة، التي كانت تلعب في الرمال مع أربعة أطفال آخرين، مستخدمة علب الطعام الفارغة كدمى. قالت بانجورا إن زوجها مات في الصحراء الليبية بعد أن عبروها خلال تسعة أيام متتالية. في سيراليون، البلد الذي بلغ الناتج المحلي الإجمالي السنوي للفرد الواحد فيه 461 دولارًا العام الماضي، عملت بانجورا في بيع البرتقال لكن تجارتها أصيبت بالكساد. قالت إنه لم يكن لديها عمل، ولم يكن لديها المال لكي تستمر في تجارتها."

في السنوات الأخيرة، ساء الوضع الاقتصادي في معظم أنحاء إفريقيا، وتفاقم بسبب الوباء والحرب في أوكرانيا. كنت أعيش في شمال أوغندا خلال عمليات الإغلاق الأولى بسبب كورونا، ورأيت كيف بدأ الناس يتضورون جوعاً بسرعة مع نفاد مدخراتهم القليلة. في العام الماضي، في سيراليون، شاهدت أزمة تكاليف المعيشة تؤدي إلى احتجاجات قاتلة. إن أزمة تغير المناخ تحول الأوضاع من الأسوأ إلى الأسوأ، ففي النيجر، أدى التغير المناخي إلى تفاقم ظاهرة سوء التغذية، وفي الصومال، ساهم في حدوث المجاعة.

في مواجهة هذه المعاناة، تقوم الدول الغنية بتقييد الوصول إليها من خلال التشديد على عبور الحدود. في بريطانيا، أقرت الحكومة مشروع قانون شديد يمنع اللاجئين من المطالبة بحقهم في الحماية الدولية، ويخطط لإيواء طالبي اللجوء على متن قارب عائم. يتحدث المسؤولون الأوروبيون عن "تعطيل عمل تجارة التهريب"، لكنهم يتجاهلون حقيقة أن هؤلاء المهربين يملؤون فراغا. انظروا إلى حالي، فأنا أوروبي سافر من أيرلندا إلى تونس بدون تأشيرة، لكن العديد من الأفارقة لا يستطيعون السفر مثلي بطريقة آمنة في الاتجاه المعاكس.

عندما يدور نقاش حول الهجرة، يتركز عادة حول كيفية إبعاد المحرومين، بدلاً من طرح أسئلة أوسع، وربما أكثر وجودية. هل يمكننا، في الغرب، أن ندعي أننا نؤمن بحقوق الإنسان بينما نتغاضى عن الانتهاكات على حدودنا؟ هل نشعر بالراحة ونحن نشاهد الجرائم التي ترتكب لمنع الناس من الوصول إلى أراضينا؟ ألا يجب أن يكون للأشخاص الذين يأتون من بلدان استعمرتها واستغلتها بلادنا منذ فترة طويلة الحق في الاستفادة من بلادنا أيضًا؟

الهجرة وردود فعل الغرب عليها هي إحدى القصص المميزة لعصرنا، إذ إنها في الوقت الحالي حكاية الدمار والموت والقسوة والتواطؤ، ولذلك فنحن بحاجة ماسة إلى إيجاد طريق أقوم.

• سالي هايدن مؤلفة كتاب "في المرة الرابعة غرقنا: البحث عن ملجأ على طريق الهجرة الأكثر دموية في العالم".

** خدمة نيويورك تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أکثر من

إقرأ أيضاً:

رغم الانتقادات التي تضمنتها «الوثيقة الأمريكية».. واشنطن الحليف الأكبر لأوروبا

البلاد (الدوحة)
في أول رد أوروبي رسمي بعد نشر واشنطن لإستراتيجيتها الجديدة للأمن القومي، أكدت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس أن الولايات المتحدة لا تزال”الحليف الأكبر” لأوروبا، على الرغم من الانتقادات القاسية التي تضمّنتها الوثيقة الأمريكية بشأن أداء المؤسسات الأوروبية ومستقبل القارة.
وجاءت تصريحات كالاس خلال مشاركتها في منتدى الدوحة أمس (السبت)، حيث شددت على أهمية استمرار الشراكة عبر الأطلسي رغم الخلافات، قائلة:”هناك الكثير من الانتقادات، وبعضها صحيح، لكن الولايات المتحدة تبقى حليفنا الأكبر. لا نتفق دائماً، لكن المنطق واحد، ويجب أن نظل موحدين”.
تأتي هذه الرسالة التوافقية بعد يوم واحد فقط من كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن إستراتيجية الأمن القومي الجديدة، التي مثّلت تحولاً لافتاً في توجهات السياسة الخارجية لواشنطن، حيث انتقلت من التركيز على الدور العالمي إلى أولويات إقليمية أكثر ضيقاً، مع انتقادات لاذعة للاتحاد الأوروبي.
الوثيقة، التي تمتد إلى 33 صفحة، أثارت انزعاجاً واسعاً في العواصم الأوروبية بسبب ما اعتبرته “تحذيراً من زوال الحضارة الأوروبية” إذا استمرت القارة في سياساتها الحالية. وأكدت الإستراتيجية أن أوروبا تعيش حالة “تراجع اقتصادي”، لكن مشاكلها”أعمق” وتشمل تغييرات ديموغرافية نتيجة سياسات الهجرة، وتراجع الهويات الوطنية، وتضييقاً على حرية التعبير والمعارضة السياسية.
كما اعتبرت الاستراتيجية أن الاتحاد الأوروبي بات يفرض سياسات “تقوض السيادة والحرية السياسية”، فيما رجّحت أن يؤدي استمرار هذه الاتجاهات إلى تغيير ملامح أوروبا خلال العقدين المقبلين. ودعت الوثيقة واشنطن إلى “زرع المقاومة” داخل القارة الأوروبية لمواجهة المسار الراهن.
وعلى مدى العقود الماضية، درج الرؤساء الأمريكيون على إصدار وثيقة الأمن القومي في كل ولاية. وكانت النسخة السابقة التي أصدرها الرئيس جو بايدن عام 2022 قد ركزت على تعزيز المنافسة مع الصين واحتواء روسيا، من دون الدخول في مواجهات فكرية أو حضارية مع أوروبا، لكن النسخة الحالية تشير إلى انقسام حاد في النظرة الأمريكية–الأوروبية لمستقبل النظام الدولي، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التوتر الدبلوماسي داخل أهم تحالف غربي قائم منذ الحرب العالمية الثانية.
ومع تصاعد الجدل، يترقب الأوروبيون كيف ستُترجم هذه الاستراتيجية إلى سياسات عملية، وما إذا كانت ستنعكس على ملفات الدفاع، والتجارة، والتنسيق الأمني عبر الأطلسي في الأشهر المقبلة.

مقالات مشابهة

  • لوبوان: ترامب يخيّر أوروبا بين أن تكون مستعمرة أميركية أو الموت
  • رغم الانتقادات التي تضمنتها «الوثيقة الأمريكية».. واشنطن الحليف الأكبر لأوروبا
  • ناسا تكشف تغير مقلق.. لماذا أصبح كوكب الأرض أكثر قتامة؟
  • واشنطن تعلن زيادة عدد الدول المحظورة بالسفر إلى أكثر من 30
  • رئيس صندوق المأذونين: الزواج أصبح عبئًا على الشباب.. والفتيات اليوم أكثر تمردًا
  • دور أوروبا السريّ في مساعدة الدعم السريع
  • أطباء الموت.. تحقيق يكشف هروب المتورطين من سجون الأسد إلى قلب أوروبا
  • ترامب ينكفئ نحو أمريكا اللاتينية ويهاجم أوروبا في استراتيجيته الأمنية الجديدة
  • ألمانيا ردا على استراتيجية ترامب للأمن القومي: أوروبا لا تحتاج إلى نصائح من الخارج
  • تحقيق يكشف هروب "أطباء الموت" من سجون الأسد إلى قلب أوروبا