الحصار ينذر بانهيار مختبرات المستشفيات بغزة
تاريخ النشر: 21st, June 2025 GMT
غزة– اضطر خالد جرادة لتحمل أعباء وتكاليف مضاعفة لفحص عينة في مختبر خاص بمدينة غزة، لعدم توفر هذا الفحص في مختبر "مستشفى شهداء الأقصى" بمدينة دير البلح، حيث ترقد ابنته المريضة منذ نحو 50 يوما.
وتعاني الابنة البالغة (19عاما) من التهابات في الأمعاء الغليظة، ويقول والدها (58 عاما) للجزيرة نت إنها تحتاج يوميا لتحاليل طبية لا يتوفر أغلبها في مختبر مستشفى شهداء الأقصى الحكومي الصغير، وهو الوحيد في دير البلح بالمحافظة الوسطى من قطاع غزة.
خضعت هذه الفتاة لعملية منظار، قبل بضعة أيام، وأخذ الأطباء "خزعة" من أمعائها، كان تحليلها يتوفر سابقا في مختبر "مستشفى غزة الأوروبي" بمدينة خان يونس جنوبي القطاع، قبل خروجه عن الخدمة، نتيجة إنذارات الإخلاء الإسرائيلية، وانتقال بعض خدماته لمجمع ناصر الطبي بالمدينة.
ويقول خالد إن الطريق خطيرة جدا للوصول لمجمع ناصر، لوقوعه أيضا في منطقة يشملها الإخلاء، وقد اضطر إلى إرسال العينة لمختبر خاص في مدينة غزة لفحصها بمبلغ 250 شيكلا (حوالي 70 دولارا)، بالإضافة إلى أعباء وتكاليف المواصلات عبر شارع الرشيد المدمر.
وتوشك المختبرات المتبقية في المستشفيات والمرافق التابعة لوزارة الصحة الفلسطينية على الإغلاق في غضون أيام قليلة، جراء النقص الحاد في الأجهزة والمواد المخبرية اللازمة لإجراء الفحوص والتحاليل الطبية المختلفة.
يقطن خالد في بلدة الزوايدة وسط القطاع، ويعيل أسرة مكونة من 6 أفراد، ويلازم ابنته في المستشفى منذ مرضها المفاجئ، ويكابد يوميا البحث عن التحاليل الطبية والأدوية غير المتوفرة في المستشفى أو في المختبرات والصيدليات الخاصة.
"وحتى التحاليل المتوفرة أسعارها مرتفعة جدا لقلة المواد المخبرية في المختبرات الخاصة، والأوضاع المعيشية والاقتصادية للجميع هنا في غزة صعبة للغاية". ويضيف خالد "اليوم طلب الطبيب ثلاثة تحاليل، اثنان متوفران بمختبر المستشفى، والثالث لفحص الكبد غير متوفر، أجريته في مختبر خاص".
إعلانفي ناحية أخرى بمستشفى شهداء الأقصى، ترقد المريضة السبعينية مريم الأسطل منذ 15 يوما في قسم الباطنية، وتقول ابنتها المرافقة، للجزيرة نت "أصيبت والدتي بإسهال شديد، وعلى إثره تدهورت حالتها الصحية، وقرر الأطباء أن تبقى بالمستشفى".
وعلى وقع إنذارات الإخلاء الإسرائيلية اضطرت الأسطل (72 عاما) وأسرتها للنزوح من خان يونس، ويقيمون في منطقة "مواصي القرارة"، حيث لا تتوفر الخدمات الحيوية، ووجدت أن الوصول لمستشفى شهداء الأقصى أسهل وأقل خطرا من الوصول إلى مجمع ناصر الطبي بخان يونس.
ويطلب الأطباء من الأسطل تحاليل متنوعة يوميا للوقوف على حالتها الصحية. وبحسب الابنة فإن "أغلب هذه التحاليل غير متوفرة بالمستشفى، ونضطر للبحث عنها في مختبرات خاصة خارجية، وعندما نجدها فإن تكاليفها تكون باهظة".
ويقول أخصائي مختبرات وبنوك الدم في مستشفى شهداء الأقصى محمد أبو غياض للجزيرة نت إن "الأزمة وصلت حدا غير مسبوق، حيث نعاني من نقص شديد في المواد المخبرية، وكذلك في المواد الخاصة بفحص وسحب الدم".
وتحذر مديرة دائرة المختبرات الطبية وبنوك الدم في وزارة الصحة الدكتورة سحر غانم من انهيار وشيك للخدمات المخبرية، "وهذا ينعكس سلبا على المرضى وجرحى الحرب ويحرمهم من التشخيص ومتابعة علاجهم، ما لم يتم تزويدنا بسرعة باحتياجاتنا من المواد المخبرية وأدوات ومستهلكات الفحص" حسب قولها.
وتقول غانم للجزيرة نت إن "المختبرات هي جزء من المنظومة الصحية، وتعاني مثلما تعاني المستشفيات ومراكز الرعاية الأولية التابعة لوزارة الصحة، وتواجه تحديات كبيرة ونقصا في احتياجاتها اللازمة لاستمرار تقديم الخدمة للمرضى والجرحى".
وتبلغ نسبة العجز في مواد الفحص المخبرية الأساسية، وفي المستهلكات الأساسية اللازمة لتقديم الخدمات مثل الأنابيب اللازمة لسحب العينات وإجراء الفحوص حوالي 49%، بحسب غانم.
وتقول "من أهم المواد التي نعاني من عجز كبير بها، هي أكياس الدم، ولا تكمن المشكلة هنا في قلة أعداد المتبرعين نتيجة المجاعة، وإنما أيضا في النقص الحاد في المواد والمستلزمات اللازمة لعملية سحب الدم، وقد تتوقف هذه الخدمة في غضون أسبوعين".
وقبل اندلاع الحرب عقب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت 12 مختبرا تعمل في مستشفيات وزارة الصحة على مستوى القطاع، دمرت قوات الاحتلال 6 منها كليا، وخرج مختبرا مستشفيي "غزة الأوروبي"، و"الدرة" في مدينة غزة، عن الخدمة بسبب الإخلاء، وتعمل حاليا 4 مختبرات فقط في جنوب القطاع وشماله، وفقا للدكتورة غانم.
وعلاوة على ذلك، تقول غانم إن 60% من مختبرات مراكز الرعاية الأولية خرجت عن الخدمة، إما بسبب تدميرها بالكامل، أو نتيجة خروج المركز عن الخدمة كليا، إضافة إلى أن حوالي 60% من الأجهزة المخبرية الأساسية خرجت عن الخدمة بسبب تدميرها أو لحاجتها للصيانة وعدم توفر قطع الغيار، فيما الأجهزة المتبقية قديمة ومتهالكة وقد تتعطل وتخرج عن الخدمة في أي لحظة.
إعلانوتضيف الدكتورة قائلة إنه "لا تتوفر لدينا حاليا فحوص للأمراض الناجمة عن الوضع البيئي والمعيشي المحيط بالخيام ومراكز الإيواء وتكدس النفايات، وأيضا خدمة الفحوص الخاصة بمرضى السرطان للتشخيص والمتابعة، جراء خروج المختبر المركزي عن الخدمة تماما".
كما أكدت أن قوات الاحتلال دمّرت مختبر الصحة العامة وأخرجته عن الخدمة، وهو الوحيد الذي كان يقدم فحوص جودة المياه والغذاء والدواء".
وألقى الحصار المشدد وإغلاق المعابر بظلاله أيضا على المختبرات الخاصة، نتيجة عدم سماح الاحتلال بدخول المواد المخبرية للقطاع الخاص.
وتؤكد غانم أن من شأن ذلك "زيادة العبء علينا في القطاع الحكومي"، وطالبت الهيئات الدولية المختصة بضرورة التدخل العاجل لمنع انهيار ما تبقى من مختبرات وبنوك دم في غزة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات مستشفى شهداء الأقصى للجزیرة نت عن الخدمة فی مختبر
إقرأ أيضاً:
المستشفيات الميدانية.. آخر الحصون الصحية في غزة الجريحة
في غزة، حيث كانت الحياة تدب في أربعين مستشفى وأكثر من ثمانين مركزًا صحيا، حل الدمار، ومحت الآلة العسكرية الإسرائيلية كلَّ شيء، تاركة خلفها فراغًا صحيا هائلًا أدى إلى خروج المنظومة الصحية عن العمل، واقعٌ مريرٌ برزت معه المشافي الميدانيةُ كطوق نجاة، بديلًا مؤقتًا ومناسبًا للرعاية الصحية في أحوال قاسية يعيشُها سكان غزة.
ومع حاجة المرضى والجرحى الملحة إلى العلاج والرعاية يضطرُّ الأهالي إلى التكيف مع واقعهم المرير، يتلقون خدْماتِهم العلاجية الشحيحة مع تفشي الأمراض ونقص حاد في الأدوية والمستلزمات، كل ذلك نتيجة إغلاق إسرائيل للمعابر، في خطة متقنة تستهدف خنق الحياة في غزة، وتزيد من معاناة الغزيين يومًا بعد يوم.
بين ركام البيوت المهدمة وصدى الصواريخ الذي لا يغيب عن سماء غزة، تنبثق خيام المستشفيات الميدانية كشرايين أمل هشّة تحاول مقاومة الموت الذي يحاصر الأرواح. هذه المساحات المؤقتة، التي نصبت على عجل فوق أراضٍ خاوية أو بين أطلال مدارس مدمرة، باتت الملاذ الأخير للجرحى والمرضى بعد أن انهارت المستشفيات الكبرى تحت نيران الحرب.
خيام طبية
في إحدى هذه الخيام، جلست إيمان أبو ضاحي، 50 عامًا، متكئة على وسادة ممزقة، تحاول التقاط أنفاسها بينما يتصبب العرق من جبينها تحت حرارة الشمس اللاهبة.
تقول بصوت واهن خلال حديثها لـ«عُمان»: «لم يعد أمامنا سوى هذه الخيام، فقد دُمرت المستشفيات التي كنت أراجعها منذ سنوات، واليوم أجد نفسي هنا أبحث عن علاج يخفف من ألم صدري، ويضبط ضغطي المرتفع». عيناها تترقرقان بالدموع وهي تتابع خطوات الممرضين الذين يتنقلون بسرعة بين الأسرة، في مشهد يختصر المعاناة التي تعيشها آلاف العائلات.
تتابع سلمى: «حين جئت وجدت عشرات المرضى ينتظرون، منهم من يفترش الأرض، ومنهم من يستند إلى جدار الخيمة. لا أدوية تكفي، ولا أجهزة تساعدنا على مواجهة المرض». ثم تشير إلى رف خشبي عليه بضع عبوات دواء: «هذه كل ما تبقى من العلاج هنا، ونحن نتقاسمه مثلما نتقاسم الخبز». بين كلماتها صمت ثقيل يقطعه بكاء طفلة صغيرة على السرير المجاور، فيما يكتفي الأطباء بهز رؤوسهم أمام هذا العجز القاسي.
وتضيف وهي تنظر نحو الخارج حيث الدمار يحيط بالمكان: «الحرب لا تقتل بالصواريخ فقط، بل تقتل حين تمنع الدواء، حين يتركني الألم ينتظر الشفاء الذي لا يأتي».
بديل قسري
قبل الحرب كان القطاع يمتلك نحو 40 مستشفى وأكثر من 80 مركزًا صحيًا، تشكل شبكة متكاملة للرعاية الطبية. اليوم، وبعد شهور من القصف، أغلقت معظم هذه المؤسسات أبوابها، إما لأنها دُمّرت، أو لأن القذائف طاردتها حتى شلّت عملها بالكامل. هذا الفراغ القاتل فرض ولادة المستشفيات الميدانية، التي لم تكن خيارًا بل ضرورة فرضتها الظروف المأساوية.
هنا، تحت خيام بسيطة، يحاول الأطباء إعادة ما تبقى من نبض الحياة. يستخدمون أدوات بدائية، يعتمدون على مولدات مهددة بالتوقف في أي لحظة، ويجرون عمليات بسيطة على ضوء الهواتف. كل دقيقة تمضي في هذه الخيام تحمل قصة صراع مع الموت، حيث لا أحد يملك رفاهية الانتظار.
ورغم الدور الحيوي لهذه المستشفيات، فإنها تواجه ذات التحديات التي قضت على سابقاتها: نقص حاد في الدواء، انقطاع الكهرباء والوقود، إغلاق المعابر أمام الإمدادات الطبية والبعثات الإنسانية. إنها حرب أخرى موازية للحرب العسكرية، حرب استنزاف ضد كل محاولة لإنقاذ الأرواح.
صراع مع المستحيل
في المستشفى الميداني التابع للهلال الأحمر الفلسطيني بخان يونس، يتحدث الطبيب محسن زيد بينما يراقب زملاءه يسعفون مصابًا ينزف بشدة: «لدينا الآن 11 مستشفى ميداني تعمل بشكل يومي، لكنها لا تكفي لاستيعاب أعداد الجرحى والمرضى المتزايدة. نفتقر إلى المعدات والأدوية، ومع كل غارة جديدة يزداد العبء فوق طاقتنا».
يشير إلى رفوف شبه فارغة ويضيف لـ«عُمان»: «نحن نقتسم ما تبقى من المسكنات والمحاليل بين المرضى، ونعرف أن الكثيرين قد لا يحصلون على ما ينقذ حياتهم».
في خيمة أخرى، تروي الطبيبة حنين الأسطل مأساة الأيام الأخيرة: «نضطر لإجراء عمليات جراحية بسيطة في ظروف بدائية، أحيانًا نستخدم أدوات معقمة بوسائل يدوية، ونعمل تحت ضوء المصابيح الصغيرة. ومع ذلك، نحاول أن نحافظ على شريان الأمل هذا حيًا، حتى لو كان ضعيفًا». صوتها ينخفض وهي تضيف: «لكن كل شيء هنا مهدد بالتوقف، من المولدات إلى الإمدادات، وحتى نحن الأطباء أصبحنا أهدافًا مباشرة».
تعلو أصوات الأنين من حولها، ويمر ممرض يحمل آخر عبوة من دواء حيوي إلى مريض يحتضر، فيما يحدّق الأطفال بعينين ممتلئتين بالخوف. هذه المشاهد باتت يومية في المستشفيات الميدانية التي تحولت إلى حصون ضعيفة تحارب الموت بأسلحة متهالكة.
رصاص على الأطباء
لم يتوقف الاستهداف الإسرائيلي عند حدود منع الإمدادات، بل امتد ليشمل الأطباء أنفسهم. قبل نحو أسبوعين، اعتقلت قوات الاحتلال الدكتور مروان الهمص، مدير المستشفيات الميدانية في غزة، أثناء توجهه إلى مستشفى الصليب الأحمر غرب خان يونس. لم يعرف أحد وجهته بعد اعتقاله، لكن الجميع أدرك أن الرسالة واضحة: إنقاذ الأرواح بات جريمة في هذه الحرب.
الدكتور منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في غزة، علّق بحزن وغضب: «نحمّل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن سلامة الدكتور الهمص». موضحًا: «هذا الاعتقال جزء من استهداف منظم للقطاع الصحي. أكثر من 360 كادرًا طبيًا تم اعتقالهم، وما يزيد عن 1589 شهيدًا من الطواقم الطبية منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة وحتى الآن».
ثم أضاف: «سيارات الإسعاف تُقصف، الأطباء يُقتلون أو يُختطفون أمام أعين المرضى. هذه حرب على الطب، على الحياة نفسها». وكشف البرش تفاصيل اللحظات الأخيرة قبل الاعتقال: «سيارة الدكتور الهمص تعرضت لقصف مباشر قبل دقائق من اختطافه في محيط منطقة فش فرش في خان يونس، أصيب سائقه واستُشهد مواطنان كانا برفقته، أحدهما صحفي».
صرخة بلا صدى
قبل اعتقاله بأيام، ظهر الدكتور مروان الهمص أمام وسائل الإعلام ليطلق صرخة استغاثة من قلب الأزمة: «فقدنا 60% من مخزون الأدوية، و80% من المستلزمات الطبية. نحن نعيش الساعات الأخيرة من القدرة على إنقاذ الأرواح، وإذا لم تدخل المساعدات فورًا، سيموت أبناء الشعب الفلسطيني بلا علاج ولا دواء».
نداءاته لم تلقَ أي استجابة، ومع اختفائه بات قطاع الإنقاذ الميداني في غزة بلا قائد، والمستشفيات الميدانية معلقة بخيط رفيع فوق هاوية الموت.
اليوم، ما زالت كلمات الهمص عالقة في أذهان كل من سمعها، تذكّر بأن هذه الحرب لا تكتفي بهدم الحجر، بل تستهدف الحياة ذاتها. وبينما يواصل الأطباء الباقون صراعهم المستحيل، تبقى المستشفيات الميدانية آخر حصون الأمل، رغم أن الموت يزحف نحوها من كل اتجاه.
تزداد المخاوف مع مرور الوقت من أن تتحول هذه الخيام الطبية إلى شاهد صامت على مجزرة صحية بطيئة، حيث تتناقص الموارد يومًا بعد يوم، وتبقى أرواح المرضى معلقة بانتظار قرار دولي قد لا يأتي أبدًا، فيما يواصل العالم إدارة ظهره لهذه المأساة الإنسانية الفادحة.
في حرب غزة حيث تحوّلت المشافي إلى ذكرى، باتت الخيام الميدانية الملاذ الأخير للقلوب المكلومة كمشافٍ بديلةٍ، هنا يتصارع الأطباء ببسالة مع شح الإمكانات ومعابر أغلقها القهر؛ ليقدموا جرعات أمل وسط يأس مطبق، وجحيم لا يطاق.