بين الجبال الشاهقة التي تحيط بها المياه الزرقاء الصافية، وفي أقصى الشمال العُماني، تقف محافظة مسندم كإحدى الكنوز الثقافية الفريدة التي لم تُكتشف بعد على النحو الكافي. فبعيدًا عن شهرتها في مجال السياحة البحرية والطبيعة الخلابة، تحتضن مسندم إرثًا ثقافيًا غنيًا يشكل مزيجًا من التاريخ، والهوية، والجغرافيا، مما يجعلها وجهة مثالية للسياحة الثقافية في سلطنة عمان.

في هذا السياق، كان لنا هذا الحوار المعمق مع عمر بن علي الفحل، باحث ومؤرخ في تاريخ المنطقة. من خلال حديثه، رسم لنا صورة واضحة عن الواقع القائم، والمشاريع الواعدة، والتحديات، والمستقبل الممكن للسياحة الثقافية في هذه المحافظة الاستثنائية.

تدفق سياحي متزايد... و مسندم على الخريطة الثقافية

استهل عمر الفحل حديثه بالإشارة إلى أن السياحة الثقافية في محافظة مسندم قد بدأت تحظى باهتمام متزايد من قبل الزوار من داخل السلطنة وخارجها. وقال: "تشهد المحافظة في السنوات الأخيرة تدفقًا كبيرًا من السياح المهتمين بهذا النوع من السياحة، لا سيما أولئك الذين يبحثون عن تجارب أصيلة تربطهم بالمكان وتاريخه".

وأضاف: إن مسندم تزخر بالمعالم الأثرية والثقافية والحضارية التي تمنحها هوية ثقافية خاصة تميزها عن باقي المحافظات.

هوية لا تشبه غيرها... تراث معماري وأزياء ذات دلالات

وعندما سألناه عن أبرز ما يميز الهوية الثقافية لمسندم عن غيرها، أوضح الفحل، أن التراث المحلي في المحافظة يتمتع بفرادة تنبع من التنوع الجغرافي والموروث الاجتماعي. وأكد أن "التراث الثقافي في مسندم يعتبر من أبرز مكونات الهوية الوطنية، ويعكس عمق تاريخ المنطقة وتفاعل الإنسان مع بيئته على مر العصور".

وأشار إلى أن العمارة التقليدية تمثل أحد الملامح الأبرز لهذا التراث، موضحًا أن “بيوت القفل” المنتشرة في القرى الجبلية تُعد شاهدًا حيًا على براعة الإنسان في التكيّف مع التضاريس القاسية. وقال: “البيوت الجبلية، أو بيوت القفل كما تُعرف، صُممت بهندسة معمارية فريدة، متوافقة مع طبيعة الجبال، وهي لا تشبه أي نمط معماري آخر في السلطنة”.

كما تطرق الفحل إلى “عصاة الجرز”، موضحًا أنها ليست مجرد أداة عملية، بل تحمل دلالة ثقافية عميقة، حيث أصبحت رمزًا للقوة والهيبة، وتُعد جزءًا لا يتجزأ من هيئة الرجل في مسندم. وأشار إلى أن هذه العصا تحولت إلى عنصر من عناصر الهوية الثقافية التي نادرًا ما تجد مثيلًا لها في مناطق أخرى من عمان.

مشاريع نوعية: "مركز الزوار في سيح الدير" أنموذجًا

وعند الحديث عن أبرز المشاريع الثقافية التي أُطلقت مؤخرًا في المحافظة، توقف عمر الفحل عند مشروع مهم اعتبره “نقلة نوعية في السياحة الثقافية بالمنطقة”، وهو مركز الزوار في موقع سيح الدير الأثري بولاية دبا. وأوضح أن هذا المركز جاء ليحفظ المكتشفات الأثرية التي عُثر عليها عام 2012، والتي بلغ عددها آلاف القطع.

قال الفحل: “تم توقيع مذكرة تعاون بين مكتب محافظ مسندم وشركة أوكيو لتمويل مشروع المركز، وهو اليوم يشكل واجهة ثقافية وسياحية فريدة، تستعرض تاريخ دبا، وتُعرف الزوار بإرث المنطقة من خلال المعروضات والمقتنيات الأثرية المكتشفة في مدافن سيح الدير”.

وأشار إلى أن العلاقة بين السياحة والمتاحف، أو المراكز الأثرية، هي علاقة تبادلية، “فالسياحة تنعش المتاحف، والمتاحف ترفع من القيمة السياحية للمكان”، مضيفًا إن هذا المشروع سيكون له أثر مستدام في تنشيط السياحة الثقافية إذا ما تم دعمه وترويجه بالشكل الكافي.

تضافر الجهود... شراكة بين الرسمي والمجتمعي

وفي سؤال عن التعاون بين الجهات الرسمية والمجتمع المحلي، أكد الفحل، أن مثل هذه المشاريع ما كانت لترى النور لولا التعاون الوثيق بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص. وقال: “لقد شاهدنا نموذجًا حيًا لهذا التعاون في مشروع مركز الزوار، حيث اجتمعت إرادة وزارة التراث والسياحة، ومكتب المحافظ، وشركة أوكيو، لتنفيذ مشروع يحمل أبعادًا ثقافية وتنموية في الوقت نفسه”.

وأوضح أن دعم المجتمع المحلي لا يقتصر فقط على التبرع أو الرعاية، بل يشمل كذلك المشاركة في الحفاظ على الهوية، وإحياء التقاليد، وتقديم صورة حقيقية عن التراث للزائرين، مؤكدًا أن المجتمعات المحلية هي العمود الفقري لأي نجاح في قطاع السياحة الثقافية.

التحديات: التسويق والحماية والتحديث

رغم هذا الزخم في المشاريع والمبادرات، إلا أن السياحة الثقافية في مسندم، بحسب الفحل، لا تزال تواجه عددًا من التحديات التي ينبغي التعامل معها بجدية. وأشار إلى أن من أبرز هذه التحديات “كيفية حماية التراث من العبث أو الإهمال، بالإضافة إلى ضعف التواصل والتسويق للمواقع الثقافية”.

وأكد أن هناك حاجة ملحة لتبني استراتيجيات واضحة تهدف إلى الحفاظ على المواقع التراثية وتوفير التمويل اللازم لأعمال الصيانة والترميم. كما شدد على ضرورة الترويج الذكي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قائلاً: “يمكن أن تُحدث حملة تسويق رقمية ذكية فارقًا كبيرًا في مستوى الإقبال السياحي، خاصة إذا تمت بالشراكة مع الجهات المختصة والمؤثرين في المجال”.

خطط طموحة... وترميم واستثمار متزايد

عند الحديث عن المستقبل، يرى عمر الفحل أن الجهات المختصة في المحافظة تضع السياحة الثقافية ضمن أولوياتها، وهو ما يظهر في حركة الترميم المتواصلة للمواقع التاريخية، وطرح بعض الحصون والقلاع للاستثمار السياحي. وأكد أن “وزارة التراث والسياحة ومكتب محافظ مسندم يسعيان حثيثًا إلى تطوير السياحة الثقافية، وقد لمسنا هذا بوضوح في السنوات الأخيرة من خلال تزايد الفعاليات التراثية، وتحسين البنية التحتية حول المواقع الأثرية”.

وأضاف أن الدعم الموجه للمبادرات التي تهدف لإقامة متاحف خاصة، وتوفير بيئة قانونية وتنظيمية داعمة، يعكس وجود رؤية حكومية جدية لتفعيل هذا النوع من السياحة وجعله موردًا اقتصاديًا ثابتًا.

التراث الشفهي والحرفي... رصيد لا يقل أهمية

وأكد عمر الفحل أن التراث الثقافي لا يقتصر على الآثار المادية فقط، بل يشمل أيضًا التراث الشفهي، والحرف اليدوية، والعادات والتقاليد التي تشكل نسيج الحياة اليومية في مسندم. وقال: “من الأهازيج الشعبية، إلى القصص المتناقلة، ومن الحرف اليدوية التقليدية إلى الطقوس المرتبطة بالمناسبات، كلها عناصر يمكن أن تتحول إلى منتجات سياحية إذا ما تم توثيقها وتقديمها بطريقة مدروسة”.

وأشار إلى أن هناك جهودًا قائمة بالفعل من وزارة التراث والسياحة ومكتب المحافظ، وبعض الجهات المختصة، تهدف للحفاظ على هذا التراث وترويجه، لكنه يرى أن الطريق لا يزال طويلًا، ويتطلب المزيد من الانخراط المجتمعي والتقني في هذا الجانب.

توصيات نحو حضور أوسع على الخريطة الثقافية

في ختام حديثه، قدّم عمر الفحل جملة من التوصيات والمقترحات التي من شأنها أن تعزز من حضور محافظة مسندم على الخريطة الثقافية والسياحية لعُمان والمنطقة. وشدد على أهمية إنشاء منصات رقمية تفاعلية تسمح للناس من مختلف دول العالم بالمشاركة في الفعاليات الثقافية والمهرجانات التراثية التي تُقام في المحافظة.

كما دعا إلى إشراك أبناء مسندم، خصوصًا المهتمين بالثقافة، في المعارض الدولية التي تشارك فيها سلطنة عمان، مؤكدًا أن هذا من شأنه أن يعزز من قدراتهم، ويوسّع من شبكاتهم الثقافية، ويمنحهم أدوات حديثة للترويج لتراثهم.

وأخيرًا، عبّر عن أمله في إقامة مهرجان تراثي دولي سنوي في المحافظة، يُنظم بطريقة احترافية تجمع بين الأصالة والابتكار، ليكون نافذة عالمية على التراث الغني الذي تتمتع به مسندم، وقال: “لدينا الإمكانيات، ولدينا التاريخ، وينقصنا فقط القرار الجريء لصناعة حدث ثقافي يكون على مستوى ما تستحقه مسندم من حضور”.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السیاحة الثقافیة وأشار إلى أن فی المحافظة الثقافیة فی ا التراث فی مسندم التی ت

إقرأ أيضاً:

بنك مسقط يُنفّذ مشروعا رياضيا لأهالي كمزار بمسندم

عمان: افتتح بنك مسقط أول مشروع رياضي اجتماعي في قرية كمزار بمحافظة مسندم، بالتعاون مع مكتب السيد محافظ مسندم وذلك في إطار الجهود المبذولة لتطوير البنية التحتية الرياضية في بعض المناطق بالمحافظات، وذلك من منطلق التزامه بتعزيز التنمية المستدامة وريادته في مجال المسؤولية الاجتماعية ودعم المشاريع التي تساهم في تحسين جودة الحياة في المجتمعات المحلية، وهدف المشروع إلى تعزيز الأنشطة الرياضية والاجتماعية والثقافية في قرية كمزار من خلال توفير ملعب حديث يتميز بمساحة واسعة يساهم في إقامة الفعاليات المختلفة والأنشطة الترفيهية، حيث تم اختيار موقع الملعب في مكان استراتيجي يُطلّ على مضيق هرمز، ومزود بكافة تجهيزات السلامة والإضاءة والتعشيب الاصطناعي، ليكون بيئة ملائمة لمختلف الفئات العمرية، ومتنفسًا حيويًّا لأهالي القرية.

وأوضح المهندس محمد بن سيف الجابري، المدير العام المساعد ببلدية مسندم، ممثلًا عن مكتب السيد محافظ مسندم: يمثل هذا المشروع نموذجًا ناجحًا للتعاون بين القطاعين العام والخاص، ويعكس اهتمام الحكومة بتوفير خدمات نوعية للمناطق الساحلية فقرية كمزار من المناطق الفريدة في موقعها وثقافتها، لذلك يُعد هذا الملعب المتكامل إضافة نوعية تلبي احتياجات الشباب وتوفّر بيئة آمنة ومجهزة للأنشطة الرياضية والاجتماعية، مقدما الجابري الشكر الجزيل لبنك مسقط على مساهمته الفاعلة وتعاونه الكبير في تنفيذ هذا المشروع الذي سيمثل إضافة مهمة لأهالي قرية كمزار وستتم الاستفادة منه في تنظيم عدد من الفعاليات والأنشطة الاجتماعية والرياضية.

من جانبه، قال طالب بن سيف المخمري، مدير أول العلاقات المجتمعية والإعلامية ببنك مسقط: "نحن فخورون باستكمال هذا المشروع في قرية كمزار والذي يعكس التزام البنك بتعزيز البنية التحتية للرياضة المحلية في مختلف الولايات، كما أننا في البنك نفخر بشراكتنا مع مكتب محافظ مسندم ونتقدم لهم بالشكر على جهودهم والعمل على تسهيل كل الإجراءات لاستكمال تنفيذ هذا المشروع، آملين أن نكون قد وُفقنا في خدمة أهالي القرية، فهذا الملعب ليس مجرد منشأة رياضية بل هو مركز اجتماعي مفتوح يجمع الأهالي ويعزز من روح التلاحم بينهم ويشكّل نموذجًا ناجحًا للتعاون بين القطاعين العام والخاص".

بينما عبّر أحمد بن محمد الكمزاري، نائب رئيس المجلس البلدي لمحافظة مسندم، عن سعادته بهذا المشروع قائلا: "نحن كأهالي قرية كمزار نشعر بفرحة غامرة مع افتتاح هذا المشروع الرياضي الاجتماعي، الذي يمثل خطوة تاريخية نحو تحسين جودة الحياة في القرية. لطالما كانت كمزار بحاجة إلى منشآت من هذا النوع تخدم الشباب وتوفر لهم بيئة مناسبة لممارسة هواياتهم الرياضية وتنمية قدراتهم، كما أن المشروع سيشكل منصة اجتماعية وثقافية تحتضن فعاليات ومناسبات متنوعة، ما يسهم في تعزيز التلاحم المجتمعي وتفعيل دور الشباب في التنمية المحلية، مقدما الكمزاري جزيل الشكر والتقدير لمكتب السيد محافظ مسندم وبنك مسقط، على هذا التعاون النموذجي الذي أثمر مشروعا نوعيا يخدم حاضر القرية ومستقبلها.

من جانبهم عبّر عدد من أهالي كمزار عن سعادتهم بهذا الإنجاز، مشيرين إلى أن المشروع يلبي حاجة ملحة في القرية، وسيكون له دور كبير في تطوير الأنشطة الشبابية والاجتماعية، ومقدّمين شكرهم لكل من ساهم في تحقيق هذا الحلم.

مقالات مشابهة

  • علاج جديد للسكري «الأول» يظهر نتائج واعدة
  • تنفيذ مشروع لتنمية ثروة المحار في مسندم
  • ورشة احترافية للتصوير تحت الماء بمحافظة مسندم
  • التربية واليونيسف تبحثان تحديات وخطط النصف الثاني من 2025
  • «الأعوام الثقافية» تعمق الروابط مع إندونيسيا
  • فرص استثمارية واعدة في مدينة الشيخ نجار بحلب تعزز النمو الصناعي
  • وزارة السياحة ومصلحة الآثار تبحثان سبل حماية وصون التراث الثقافي
  • غزة: تشدُّد أمريكي يتجاوز إسرائيل وخطط استيطانية تهدّد جغرافيا فلسطين
  • زيارة واعدة للرئيس عون إلى دولة عربية.. إليكم التفاصيل
  • بنك مسقط يُنفّذ مشروعا رياضيا لأهالي كمزار بمسندم