قلاع التخلف الحصينة تعيق يقظة الأمة
تاريخ النشر: 12th, April 2025 GMT
درب اليقظة في أمة كأمتنا تعتمد الخلاصات للفهم وإن كان خطأ، والاستبسال في الدفاع عن فهمها وان لم يك صحيحا هو درب وعرة تضاريسه، خطرة منحنياته، عميق جرفه، مساره ضيق للاسترخاء في الحوار.
فالناس في عصرنا بالذات يكتفون بالمعرفة دونما تمحيص بما لا يجعلها تصنف ضمن الجاهلين، لكنها على درجة من سوء التعامل مع المعرفة لتصبح أشد خطرا على الحقيقة واليقظة من الجهل والجاهلين، فالجهل يطرده العلم والجاهل يقضي على جهله الشغف للمعرفة.
وهذه الأمور تواجه المصلحين بسد طرق النفاذ إلى الناس، فلا يملك المصلح إلا الكلمة، يقولها أو يكتبها، فإن كانت معايير الناس مادية فإن معارضة المصلح من غني أو صاحب نفوذ، أو أحد من هؤلاء يطلق فكرة هدامة سيؤدي إلى تصديقه نفسه لكثرة مؤيديه وتصديقه ومهاجمة الناس لمخالفه، وإن كان هو تافه والمصلح من نوادر فلاسفة أو مفكري عصره. فالباطل يروج عندما تضعه على لسان شخصية صنمية تمثل الوهم وتخاطب الأحلام في التفكير بلا قواعد العلم أو الواقعية، كما أن طغاة موجودين أو غادروا بعد دمار البلاد والعباد يعظمهم الناس لمنصب أو جاه أو قوة أو نفوذ وإن كان تافها، واعتبار ضدهم الباطل عرفا "وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا" (الأحزاب: 67).
الدعاة يأتون بفكر جديد فلا يفهمهم إلا من يفكر
فالحق ودعاته غالبا مسالمون يدعون الناس للتفكير: "قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ" (هود: 91). والتفكير متعب فيشتكي البعض من الغموض في الطرح بما يكتب المصلح أو يقول، لهذا نجد قوم المفكر وهم يطلبون ما يوافق أفكارهم وهواهم لكي يؤيدوه مباشرة؛ لا يحبون التفاعل مع هذا المفكر والتعب قليلا في فهم ما يطرح، ويصل الضيق منه عندما يدركون أنه يسفّه ما قدسوه من ضلال ووهم وضياع فيهاجموه بالتهديد والتسفيه ومحاولة الانتقاص منه ليبرروا الضحالة أو الجهل أو الأنانية، وهذا معيق للتنمية واليقظة ولا يوفر بيئة وأرضية للنهضة فيبقى المواطن مهما قدمت الحكومات إن كانت مخلصة لا يتعامل مع الموجودات كأنها ملكه فتُسرق وتخرَّب، وإن كانت فاسدة فسيحاول أن يشبع حاجاته وغرائزه ولا يهتم بالحق والعدل في ضياع القيم.
قلاع التخلف المقدس:
للتخلف قلاع لا تحصى لكن نتطرق هنا إلى بعضها وهي كافية لتخلف الأمة الأبدي:
أولا: الجهاز المعرفي: لأهمية هذا العامل أذكره دائما لأنه يقود التفكير والحكم على الأشياء والتحليل والتدبير، "بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (الزخرف: 22)، "قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ ۖ قَالُوٓاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ" (الزخرف: 24)، فمن يناقش الشيخ الفلاني في العصر الأموي أو العباسي أو في عصر الراشدين؟ صناعة القدوة كما فهموها في تقديس رجال الماضي وجعلهم نماذج لا يمكن تخطيئها أو تصويب أحكامها أو حتى الوصول إلى بعض من ميزاتها، فإن جئت بحكم أفضل ينهض بالواقع ويخالف الاجتهادات لذلك العصر مع تغير العصر فاحتاج أن تأتي بالجديد؛ فإنهم فورا سيقولون إنهم كافرون بما قلت، وأنك مبتدع، وهم يقرؤون الآيات ولا يرون أنها تنطبق على سلوكهم المذموم، وأن الله بالقرآن يضع منهجا وليس يقص قصصا توقيفية بل هي نماذج حسنة أو سيئة.
ثانيا: التقديس للأشخاص: الرمز بشر يتأثر بالتعظيم وهو لا يتصور أن المداهن يعظم الأمل في المكسب وليس للشخص نفسه، مع الزمن تصبح طاعة عمياء أو واعية معماة لاقتضاء الحاجة فيُضل بعضهم بعضا، وعندما يتخلون عنهم في الدنيا أو يوم الحساب فهم لا يفكرون بأن يعتذروا أو يعكسوا أفعالهم، وإنما تظهر الأنا وانتقامهم لأنفسهم إما بإفشاء السر أو الشتيمة أو تعريف أعدائهم بما يمكنهم منهم أو طلب الأذى لهم أضعافا: "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنا كَبِيرا (الأحزاب: 66-68).
الأصنام أو المتمكنون في المجتمع وهم ليسوا رموز في الحقيقة لعلم أو فهم، كلما تغلب أحدهم يسفه من قبله أو منافسه وعلى سيرهم ترى المنافقين ينتقلون من جهة إلى أخرى ركضا وراء مصالحهم ويتحدثون وهم مقتنعون بوضعهم الجديد وإن ناقض وضعهم السابق، وعند الفشل أو الأفول يقولون إننا كنا مخدوعين بهذا القائد أو ذاك التافه وهو من يحاسب، وإن حاسبتمونا فعلى الأقل هو يحاسب بضعف الحساب، لكن الاستحقاق واحد وهو حكم الله: "ۖكُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابا ضِعْفا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ" (الأعراف: 38).
ثالثا: الرأي السائد الشعبي: عندما تطرح فكرا يستشهد لك بأن أتباعه كثر وفهم الناس له كثرة فهل أنت أفهم منهم، علية القوم يتبعونه، هذا شخص مشهور ومتخصص، هذا دارس ويتكلم.. الأكثرية ليست معيارا لا بالحق ولا بالانتصار، هم لا أدلة عندهم على ما يقولون سوى انطباعات ونقل الكلمات وترديد ما يعتبر دلائل وإثبات، فلا تفكر ولا مرجعية ولا استعداد لفهم صحيح: "وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ" (الأنعام: 116). ليس هنالك براهين من العلم على ما يزعمون أنه من الثوابت وإنما يرددون ما تعلمونه ويخمنون بلا أدلة.
رابعا: الحق يتطلب التزاما وتمسكا وتفكيرا ونشاطا وعملا ومسؤولية، وهذا جهد لا يكفي معه أن تحمل العلم كأسفار لا تستفيد منها وأن تواجه غرائزك وحاجاتك وعواطفك في العدل والإنصاف، والباطل لا يلزم بكل ما سبق، بل يخدر الضمير حتى يميته.
هذه بعض مثبطات اليقظة والتنمية وهي تحتاج معالجة في نفوسنا جميعا لأنها تذهل كالسحر فتتبعها وتعمي البصيرة فلا تدركها، وتتجاوز الشطط في الإنسان فتستعبده بالحرية، ولو كل منا شخصها في نفسه وقضى عليها لكانت الأمة بخير.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات فكرة شخصية تقديس رموز الرأي فكر رأي تقديس رموز شخصية مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات سياسة سياسة صحافة سياسة صحافة صحافة اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
بالأحابيل تُصنع إسرائيل
في سبتمبر الماضي صدر كتاب رئيس المخابرات الإسرائيلية السابق يوسي كوهين الذي تقلد منصبه في 2016 حتى 2021، عنوان الكتاب بالعبرية يُترجم إلى "بالأحابيل تصنع لك حربًا" وهي جملة لها تأصيل ديني تاريخي في كتاب اليهود المقدس (العهد القديم)، حيث ورد في سِفر الأمثال: "لأنك بالأحابيل تصنع لك حربًا"، وهي الجملة التي وُضعت شعارًا للموساد الإسرائيلي، كما أنها شعار لوحدة المستعربين بالجيش الإسرائيلي المعروفة باسم وحدة الدوفدفان (الكرز)، ومدلول الجملة بالطبع يرمز إلى "انتصار" اليهود على أعدائهم بالحيلة والخداع.
يركّز كوهين منذ البداية على فكرة وجودية متجذرة في الوعي الإسرائيلي، أن كل حرب تخوضها الدولة اليهودية هي حرب "وجودية" لا يمكن خسارتها، وفي هذا السياق، تصبح إسرائيل بالنسبة لكوهين "ملاذًا لا بديل عنه"، ومشروعًا لا يمكن السماح بانهياره.
سبق كتاب يوسي كوهين، قبل 35 عامًا، إصدار ضابط موساد سابق يُدعى فيكتور استروفيسكي لكتاب بالعنوان نفسه "بالأحابيل تصنع حربًا" ، وتحدث فيه عن نشاطه في الموساد الإسرائيلي، أما النسخة الإنجليزية لكتاب يوسي كوهين، والتي صدرت بالتزامن مع النسخة العبرية، فقد جاءت بعنوان "سيف الحرية- إسرائيل والموساد والحرب السرية".
يخاطب كوهين الإسرائيليين في كتابه بالعبرية، ويكشف فيه عن نشاطه في الموساد، ونجاحاته في اختراق إيران وحزب الله، وتنفيذ عمليات اغتيال، ومنذ السابع من أكتوبر يظهر يوسي كوهين بشكل دائم في المنصات الإعلامية الإسرائيلية، في مقابلات وحوارت، ليعبر عن موقفه ورؤيته للحرب الإسرائيلية على غزة، ويجمع في كتابه بين رؤيته الأمنية والسياسية.
يعرض كوهين في كتابه صعوده كشاب متدين داخل الموساد الذي تسيطر عليه نخبة عسكرية علمانية، ويقلل من شأن الأجهزة الأخرى، سواء أمنية أو استخباراتية، ويحملها مسئولية الإخفاقات الأخيرة، كما يُبِعد كوهين عن نفسه تهمة المشاركة في ملف الأموال القطرية، المعروف باسم "قطر جيت".
يُعرف كوهين نفسه على أنه "يميني أمني"، ولذا يحمل كتابه "تؤملات" في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وحتى تطوير الذات، يسرد نشاطه الذي استمر لمدة 35 عامًا بالموساد، فيروي تجربته داخل الموساد بوصفها تجربة تشكيل للهوية قبل أن تكون تدريبًا مهنيًا، فعميل الموساد – كما يصفه – هو مزيج من الدقة، والجرأة، والقدرة على الاندماج، والذكاء العاطفي، والمرونة الذهنية. هذا "الجين" الموسادي، كما يسميه، هو جزء من سرّ القوة الإسرائيلية في مواجهة أعداء غير تقليديين في بيئة معقدة.
من خلال هذه العدسة، يشرح كوهين كيف تُخطَّط العمليات الدقيقة، وكيف تُبنى الهويات الوهمية، وكيف يتحوّل الخداع إلى أداة استراتيجية لا تقل أهمية عن القوة العسكرية، ويقدّم مثالًا بارزًا بعملية تفجير أجهزة الاتصال (البيجر) في لبنان، التي وُصفت بأنها واحدة من أكثر الضربات دقة وتأثيرًا في المواجهة مع حزب الله.
تأخذ إيران مساحة مركزية في الكتاب، يرى كوهين أن النظام الإيراني غير قابل للثقة، ويستعرض عملية سرقة الأرشيف النووي الإيراني بوصفها نقطة مفصلية كشفت حقيقة طموحات طهران، ويعتبر أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في عهد ترامب كان نتيجة مباشرة لهذه العملية، ومثالًا على كيف يمكن للعمل الاستخباراتي أن يغيّر توازنات عالمية.
يفرد كوهين مساحة واسعة للحديث عن العلاقات مع الولايات المتحدة، وخصوصًا الرئيس دونالد ترامب، الذي يصفه بـ"القائد الذي يفهم القوة ويقدّر الولاء"، ويرى أن ما تحقق في عهده – خصوصًا اتفاقيات أبراهام – لم يكن ليحدث لولا الجرأة السياسية ورؤية مشتركة بين واشنطن وتل أبيب وأبوظبي.
يمزج الكتاب بين السيرة الأمنية لكوهين وبين الطمح السياسي، فيقدم نفسه كضابط موساد استثنائي، لذا يعتد كوهين بنفسه باعتباره "الوحيد" القادر على إنقاذ إسرائيل بعد 7 أكتوبر 23، ومن هنا؛ جاء الكتاب بأسلوب تمجيد لشخصه، نبرة الكتاب بطولية ذاتية مشحونة بتضخيم إنجازاته، ويتضح منه تسويق كوهين لنفسه كسياسي مستقبلي، ورئيس حكومة إسرائيلية بعد انتهاء عهد بنيامين نتنياهو.
محمد عبد الدايم هندام، كاتب وشاعر، صحفي حر، أكاديمي، مُحاضر الأدب العبري الحديث والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة.
[email protected]