لقد كان وسيظل سؤال الهُويَّة المحرك الرئيسي وراء الاهتمام بالتاريخ الرسمي لدى الأمم، وليس من دافع يؤكد الصلة القوية بينه كدرس مستقر في مناهج التعليم وبين عمليات إشباع الهُوية بالذاكرة، إلا الرحلات المستمرة إلى الماضي لأجل مسائل راهنة، فالتاريخ سيظل أداة لبناء وحماية الوعي من غوائل التَّشْكِيك والتَّرَبُّص بكل ما هو مستقر.

ولذا فإن التقليل من قيمة درس السَّالِف هو ذاته فعل الغفلة الذي يسمح لحفنة صغيرة أن تتسلق حصون المدينة لتفتح بواباتها أمام المتوحشين يؤذون كل إنسان آمن بين جدران القلعة، والذي نغفل عنه أن هذا الوعي المسمى بالغربي حَمَى نفسه بتعميق الصلة بين التاريخ والهُوية عبر الصناعة المتقدمة للذاكرة، بل إنه بعمله على تركيب هويته على خزان وجداني مرعي بعناية استطاع أن يجمع بين قوميات متنوعة في إطار كلي من الوعي بالذات، وكثيراً ما نتساءل لماذا يجد الكيان الغَاصِب كل هذه المناصرة من قِبل المجتمعات التي تعيش عصرها الإنساني رغم عدالة قضايانا وعلى رأسها بلادنا المحتلة؟ وكيف يستطيع هذا الغَاصِب أن يَبْتز العالم؟ والحقيقة أنه فعلها ويفعلها من خلال جهود علمية استطاعت تضمين أحداث هي محل شك عظيم لتعشش في الدرس التاريخي الجامعي وعبره إلى الفضاء الاجتماعي العام، وأن تحقق فاعلية مطالبه كونهم «ضحايا المحرقة»، وهو ما يجعل الاعتراض على عنفه اعترافاً بالانخراط في جريمة ثقافية تُهَدِّد بقاء الوعي كإطار جامع للهُوية الغربية، وبذلك ضمن المحتل انتصاراً خالداً في الذاكرة، وأحكم قبضته على الوعي السياسي لِيَغُل يد المجتمعات الغربية عن تحقيق إنسانيتها بمعزل عن قانون تاريخي صيغت به هُوية مصممة لصالح قهر الخصوصية والتصفيق القسري لسرديات الغاصب المُعَمَّرة بالمظلومية. وهنا يظل العقل الغربي مثقلا بِالسَّرْدِيَّة التَّوْرَاتيَة التي يحمي بها الكيان امتيازه المطلق، وما يهمنا في هذه النقطة هو الإشارة إلى الدور الحاسم الذي تلعبه الذاكرة في بناء الهُوية وترسيخ التقدم.

والحقيقة أنه لم يعد بإمكاننا الادعاء بأن التاريخ الذي يتم تداوله لدينا وعلى مستويات عدة (عالمة وشعبية) يسهم بإيجابية في تحقيق التماسك بين المكونات الاجتماعية، ويحرضها على التعايش، بل إن صورته الراهنة تمارس أدوارا تخريبية في الوعي والوجدان، كونه لا يزال يَعْرِض لخلافات الماضي وكأنها فاعلية اجتماعية مفارقة لواقعها مكتوب عليها أن تظل متخلقة، وجلوسنا أمام إملائها المؤقت يجعلها مسؤولة عن تمزقات اليوم، ولن يُسمح لهذه المجتمعات أن تتقدم إذا ظلت تستذكر ماضيها بهذه الطريقة المُهَدَّدَة لأساسها الثَّقافي، كون الدرس التاريخي في مساره الخطِّي هذا طَوَّر من آليات الحرب على الذات والآخر، واستطاع أن يهدم الوعي ناحية قبول التعددية الثقافية كَمُسْلمة تعيشها كل المجتمعات. إن التاريخ المنهجي منه والمتداول يصنع وباستمرار التوتر في عمق الظاهرة العربية، ويكرس بجدارة وعبر سردياته المحروسة بقداسة الماضي إلى تمزيق الهُوية الوطنية والنيل من خصوصية التنوع الثقافي، ويعود الأمر إلى أنه درس مُؤَدلج حتى النخاع، وتَغيب فيه اللحظات التي يمكن عَدُّها أنواراً في سياق ماضينا، إنه تداول لتاريخ الفتن، والصراع على السلطة، والحرب على الهُوية، تاريخ يركز أكثر عن المناطق المظلمة في الوعي العربي منذ تأسيسه، تاريخ يُغَيِّب فيه الاجتماع الطبيعي للذات العربية، الاجتماع الذي جعل مجالس السلطة ذاتها أندية للوعي والثقافة، مجالسها التي ينتخب منها فقط الدَّال على خَرائب المعرفة فيها، وليس تاريخ الجِدال المنتج، وكم هو غريب حضور فروسية الحمداني مثلاً وطمس إنسانية الفارابي وهو يرفض أن يشتري له المُوسِرُونَ ثيابا جديدة مفضلا أن يذهب هذا المال لفقراء حَلب، تاريخ يريد منا أن نتعرف على أنفسنا فقط عبر تحقيبات الطبري أو المسعودي لا التكوين المركب من آخرين لهم سهم في بنائه، فلا يسمح لنا بالاقتراب أكثر من مسكويه وهو يؤسس علم الأخلاق في التدوين، مناهج تغفل على الصلات الطيبة التي نشأت بين الحَلاَّج والحنابلة حتى أنه في لحظات انكساره العليا لا يجد من يبثه وعيه الجريح إلا قبر بن حنبل، إنه تاريخ يؤذينا ولا يجمعنا على هُوية واحدة ومتعددة في الآن ذاته، فقوة الثقافة العربية أنها جِماع طبيعي للبشرية من كل لون وعِرق ولغة، لكنه انخراطنا في درس الماضي كأداة للفرقة وليس الاجتماع، والسبب «أننا لا نبصر في المدينة إلا أوساخها» كما يقول عبد الرحمن منيف، ولا نعرف التركيب في الظاهرة وما زلنا نفهم السطحي في الاجتماعي ونُرْسِخ في أجيالنا دروسا للتمزق مساهمين في تخريب وجدانهم ثم نأتي لنفزع من بعض مظاهر التخلف الإنساني وأسباب بقائها فينا، ونتعجب بأن بعضنا لا يزال على استعداد لإيذاء نفسه ومجتمعه! إن السبب هو أن من يُخَرِّبُونَ مجتمعاتهم يَغْتَرِفُونَ من ذاكرة قُدِّمَتْ لهم على أنها التعبير المطلق والوحيد عن هُويتهم الثقافية. أما إذا أردنا محاربة كل أشكال التهديد فينا وحماية تنوعنا الثقافي فإن المدخل هو تنقية الذاكرة من شوائب التوظيف السلبي والقراءات الأيديولوجية للماضي، وأن نقول لأجيالنا: ثقافتكم العربية ما استطاعت أن تُنجِب ابن سينا والغزالي، وابن رشد بجانب ابن عربي، وابن خلدون في قلب دولة المماليك، إلا لأنها امتداد طبيعي للجماعة الإسلامية والتي لم يكن يؤذي وعيها أن يصدح بلال الحبشي بالآذان، وأن يشير الفارسي على نبينا صلوات الله عليه وسلامه بحفر الخندق، وهؤلاء فاعلون اجتماعيون جنبا إلى جنب مع ابن الخطاب والصِّدِيق وابن عفَّان وابن أبي طالب والزُّبير، وذلك لقيام الإسلام على إيمان عميق بفكرة التنوع والتعددية الثقافية والعرقية، وللأسف لا نجد أثراً لهذا البناء العظيم..

إن الأمم لتزدهر بحاجة إلى آليات للكشف عن ثغرات تماسكها الاجتماعي، ذلك التماسك الذي هو حصنها الذي يجب أن يُرَاقب بحذرٍ غالب لصالح أن تحمي نفسها من غارات الهدم الذَّاتي، وفكرة إعادة كتابة التاريخ ليست هاجساً شوفينياً بقدر ما هي واجبة لتمتين بنائنا الاجتماعي وعدم السماح بأي محاولة لاختراق جُدُرُنا الحصينة، فهي دعوة ينبغي النظر إليها كمسألة أمن ثقافي وليست ترفاً أكاديمياً أملاه المَلل من تكرار القصص على مسامع الطلاب، والحل كما نعتقده أن يعاد النظر في مناهج التاريخ العربي، وأن يشتغل علماء التربية والاجتماع والنفس والثقافة على كتابة مسيرتنا الاجتماعية بكل مظاهرها حتى نستطيع أن نُجفف مصادر العنف، وأن نُعَقِلْن وجودنا الثقافي في عالم يَصدُرُ عن روايةً مُنقحة بعناية المصلحة، أما نحن والحال كذلك سيستمر تِيهُنَا، والحق أننا نتغافل عن جدارة في فهم مأزقنا الحضاري، وأجد نفسي أردد ما قاله فيلسوف الأخلاق اليوناني إيبكتيتوس فما: «ما يؤلمنا حقًا ليس ما يحدث لنا، بل الطريقة التي نفكر بها تجاه ما يحدث!.».

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اله ویة تاریخ ی

إقرأ أيضاً:

أحمد ياسر يكتب: مصر.. التاريخ والعنوان

في خضمّ التعليقات الصاخبة المحيطة بالحرب المدمرة في غزة، ترسخت رواية ساخرة ومُستمرة.. رواية تسعى إلى تصوير مصر كطرف سلبي، أو حتى متواطئ، في معاناة الشعب الفلسطيني.

هذه الإدعاءات الخبيثة، التي تنتشر بسرعة التضليل الإعلامي، ليست تشويهًا عميقًا للحقيقة فحسب، بل هي إهانة لأمة تحملت، تاريخيًا وحاضرًا، أثقل أعباء القضية الفلسطينية… إن المراجعة الموضوعية للحقائق ليست ضرورية فحسب، بل تُعدّ أيضًا دحضًا قاطعًا لهذه الحملة من التضليل الإعلامي.

(أولا)يتمحور أكثر هذه الادعاءات خبثًا حول معبر رفح الحدودي، الذي يُصوّر بشكل غير نزيه على أنه دليل على "حصار" مصري، هذه الإدعاء مُفلس فكريًا… فمعبر رفح هو حدود دولية بين دولتين ذات سيادة، (مصر وفلسطين) ، تحكمها اتفاقيات دولية واعتبارات أمنية وطنية عميقة، لا سيما في ظلّ معركة مصر الطويلة والمكلفة مع الإرهاب في سيناء.

فهو ليس نقطة تفتيش داخلية متعددة؛  بالنسبة لغزة، فهي البوابة الوحيدة إلى العالم التي لا تسيطر عليها إسرائيل.. إن مساواة إدارة مصر المنظمة لحدودها السيادية بالحصار العسكري والاقتصادي الشامل الذي تفرضه إسرائيل - الذي يسيطر على المجال الجوي والساحل والمعابر التجارية لغزة - هو تحريف متعمد وخبيث للمسؤولية.

والحقيقة هي أنه منذ بداية هذه الأزمة، لم يكن معبر رفح حاجزًا، بل الشريان الرئيسي للمساعدات المنقذة للحياة، وهو شهادة على الالتزام المصري، وليس رمزًا للعرقلة.

(ثانيا) هذا يقود إلى الزيف الثاني: فكرة أن الدعم الإنساني المصري كان غائبًا… يتلاشى هذا الادعاء أمام الأدلة الدامغة، منذ اليوم الأول، نسقت مصر عملية لوجستية واسعة النطاق ومتواصلة، وقد سهلت الدولة المصرية، بالتنسيق مع الهلال الأحمر المصري وجهات وطنية أخرى، دخول الغالبية العظمى من جميع المساعدات الدولية المقدمة إلى غزة.

نحن لا نتحدث عن لفتات رمزية، بل عن آلاف الشاحنات المحملة بالغذاء والماء والوقود والإمدادات الطبية الأساسية.  نتحدث هنا عن مستشفيات ميدانية مصرية أُقيمت على الحدود، وعن آلاف الجرحى الفلسطينيين والأجانب الذين دخلوا لتلقي العلاج في المستشفيات المصرية.

لقد تكبدت الخزينة المصرية ثمنًا باهظًا جراء هذا الجهد الضخم، وأثقل كاهل بنيتنا التحتية اللوجستية والأمنية إلى أقصى حد، وبينما قدّم آخرون كلماتهم، قدّمت مصر شريان حياة، مُقاسًا بالعدد وبالأرواح التي أُنقذت.

وأخيرًا، يكشف نقد الجهود الدبلوماسية المصرية عن سوء فهم جوهري لواقع الوساطة الإقليمية القاسي. . إن اتهام مصر بالتقصير الدبلوماسي يتجاهل حقيقة أن القاهرة من العواصم القليلة جدًا في العالم التي يُؤتمن على التحدث مع جميع الأطراف.

هذا ليس تواطؤًا؛ بل هو العمل الأساسي والمضني لصنع السلام…تعمل  الأجهزة الأمنية المصرية  والقنوات الدبلوماسية بلا كلل للتوسط في وقف إطلاق النار، والتفاوض على إطلاق سراح الرهائن والسجناء، ومنع اندلاع حرب إقليمية أوسع نطاقًا.

علاوة على ذلك، ترتكز الدبلوماسية المصرية على مبادئ راسخة… لقد كان الرئيس عبد الفتاح السيسي واضحًا لا لبس فيه في التعبير عن خطين أحمرين أساسيين لمصر:

١-  الرفض القاطع لأي تهجير قسري أو طوعي للفلسطينيين من أرضهم.

2- المطالبة الثابتة بحل الدولتين على أساس حدود عام 1967…هذه ليست مواقف سلبية؛ بل هي مبادئ أمنية وطنية راسخة وفعّالة وجهت أفعال مصر، ووضعتها أحيانًا في خلاف مع مخططات جهات فاعلة عالمية أقوى.

سيكون التاريخ هو الحكم النهائي، وسيُظهر سجله أنه بينما انغمس الآخرون في الغضب الاستعراضي والتظاهر السياسي، كانت مصر على الأرض، تُدير الحدود، وتُسلم المساعدات، وتُعالج الجرحى، وتُشارك في دبلوماسية حل النزاعات الجائرة والمرهقة…

و تتلاشى الادعاءات الخبيثة عند مواجهة وطأة أفعال مصر. ونقول للجميع أن التزامنا ليس محل نقاش؛ إنه مسألة مُسجلة تاريخيا..

طباعة شارك غزة التضليل الإعلامي القضية الفلسطينية

مقالات مشابهة

  • في دقائق لا تُنسى… ميسي يُعيد كتابة السيناريو ويقود إنتر ميامي لعبور أطلس
  • وزارة المالية: باشرنا إجراءات تحويل الرواتب لأهلنا والأخوة العاملين بالقطاع العام في محافظة السويداء، إلا أننا تفاجأنا بتعرض بعض هذه الأموال للسطو المسلح من قبل مجموعات خارجة عن القانون، ومنها السطو على فرع المصرف التجاري السوري في مدينة شهبا، الأمر الذي
  • لافروف: اتفقنا على إعادة النظر بجميع الاتفاقيات مع دمشق كما أكدنا ضرورة رفع جميع العقوبات المفروضة عليها فوراً
  • نجوم الطرب الأردني يضيئون مسرح أرتميس في جرش اللجنة الإعلامية لمهرجان جرش ضمن فعاليات مهرجان جرش للثقافة والفنون 2025، تألق عدد من الفنانين الأردنيين مساء الأربعاء 30 تموز، في أمسية فنية على مسرح أرتميس، قدّموا خلالها باقة من الأغاني التي تنوعت بين الوطني
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • أحمد ياسر يكتب: مصر.. التاريخ والعنوان
  • هذه النتائج المالية التي حققتها الشركة المركزية لإعادة التأمين (CCR)
  • مشروع الانبعاث الحضاري وصناعة الوعي.. مشاتل التغيير (29)
  • ملك الأردن يشدد على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة والسماح بتدفق المساعدات
  • الفظائع التي لن ينساها التاريخ