نحنُ والغرب.. استرداد التمثيل
تاريخ النشر: 15th, April 2025 GMT
عندمَا سلّمنا للغرب تراثنا يعرِضُه علينا ويُفصّله ويبحث فـي تجاويفه ويُخرجه على الهيئة التي يُريد، عند ذاك خسرنا قسْمًا من إعادة تشكيل هُويّتنا السرديَّة، من الوقوف على قراءة حقيقيّة لمن نحن، وما هو تاريخنا. تحتاجُ الأمم قطْعًا فـي كلّ مرحلةٍ من الزمن إعادة قراءة لتاريخها والبناء عليه من أجْل نهضةٍ حقٍّ، ومن أجل بناءٍ سليم لمقبلٍ فاعل ومتأسّسٍ.
تلكَ هزّةٌ أثَّرت بشكل بالغٍ فـي تشكيل الذاكرة العربيّة وفـي بناء أرضيَّةٍ معرفـيّة لتاريخٍ يُمكن الصُّدور عنه والبناء عليه. أمّا الهزَّة المعرفـيّة الثانية، فقد كانت فـي العصر الحديث، عندما تولّى المستشرقون عُهْدة عرْضِ التراث العربيّ وتقديم أعلامه، وتحقيق مصادره وتقديمها وعرضها، وبناء نوى البحث الكبرى فـيه وتشكيل أرضيّة معرفـيّة صارت مرجعًا وسنَدًا يبني عليه علماؤنا آراءهم لحدّ اليوم، رغمًا عن المراجعات الجذريّة والنقد العالم الذي تعهّد به إدوارد سعيد بدْءًا ومن عدد من تلامذته فـي نقد مرجعيّة الاستشراق وخلوّه من البراءة العلميّة. العجيب فـيما أفكّر فـيه دومًا ولا أجد له جوابًا، لمَ إدوارد سعيد لا يُشكِّلُ مرجعيَّة علميَّة فـي الجامعات العربيّة؟ لمَ ليس مدوَّنة تعليميّة بها نُعلِّمُ طلبتنا أصول النقد الحضاري والتاريخي والأدبيّ والمعرفـي؟ إدوارد سعيد بابٌ من المعرفة مركوز فـي خاصرة الثقافة الغربيَّة، ومثّل بنقده للسلطة ولأصول المعرفة ولهيمنة الغرب مرجعًا لفلاسفة تهزُّ أسماؤهم مدرّجات العلم عند العرب والغرب.
لا شكَّ أنّنا فـي هذه المرحلة من وفْرَة العواصِف التي تقضُّ مضجع الهُويّة العربيّة الإسلاميّة، وترسِّخ خطابًا كونيًّا يُقيم سرديّات الغالب -بعبارة ابن خلدون- بحاجةٍ إلى رؤيةٍ فلسفـيّة عميقة وإلى أدواتٍ إجرائيّة تُنْصِفُ الهامش وتبين سكاكين المركز، فهذه السرديَّة الغربيّة قد تعدَّت الهيمنة الثقافـيّة والمعرفـيّة التي تجلّت فـي أعمال المستشرقين الذين مهّدوا لفكرٍ استعماريٍّ ولتشكيل صُورة نمطيّة عن العرب والمسلمين، قوامها الدونيّة والوحشيّة والحاجة إلى التمدين وإلى ترسيخٍ فـي هوَّة التبعيّة، الغربُ لم يكن يومًا طالبًا لعلمٍ بأرضِ العرب، وإنّما كان علمُه موجَّهًا ومعرفته قليلة، ومنطق الدونيّة والتبعيّة المعرفـيّة جعلنَا نأخذ منه رؤيته لنا ولتاريخنا، ولا عجب فـي هذا المقام أن أذكر أنَّ ما أقامه عميد الأدب العربيّ من رؤيةٍ سطحيّة للشعر الجاهليّ نُكرانًا واعتقادًا جازمًا بنحله ووضعه هو نقلٌ لأفكارٍ غربيّة لمستشرقين آمن بهم وبعلمهم (ولسنا هنا فـي مقام الردّ على كتاب فـي الشعر الجاهلي، وإلاّ لأبنَّا ضعفه العلمي دون استنقاص من منزلة طه حسين) إيمانًا أعمى دون نقد أو تفحُّصٍ أو تنقيب، وقد عمد عبد الرحمن بدوي فـي همْز لطيف لطه حسين إلى ترجمة المقالات التي اتّخذها طه حسين مصدره دون الإشارة إليه، ونشرها فـي كتابٍ بعنوان دراسات المستشرقين حول صحّة الشِّعر الجاهلي، فإذا أنت تقرأ كلّ ما فـي كتاب فـي الشعر الجاهلي لطه حسين، وإذا أفكاره ومختلف حججه موزّعة فـي مقالات المستشرقين، فهل أنّ تيودور نلدكه (الذي أيضًا كتب كتابًا حمَّال نقدٍ حول تاريخ القرآن، وغفل عنه بعض العرب، واعتمده البعض الآخر دليلًا وشاهدًا ومصدرًا) أو مرجليوث أو بروينلش أو جولدتسيهر أو سبرنجر على وعي بدقائق شعر العرب وبمختلف دلالات ألفاظه وتراكيبه ومقاماته حتّى يُوجِّهوا قراءتنا لشعرنا القديم؟ فإن افترضنا ذلك، وهو أمرٌ متحقِّق عند قسم من المستشرقين، فهل يعني ذلك أنْ نأخذ عنهم رؤيتهم وآراءهم بدونيّةٍ وبوعيٍ ناقصٍ، وأن نُقدِّس ما بلغوه من آراءٍ تبدو أحيانًا سطحيّة وبسيطة. لا يعرف المستشرقون آليَّة الخبر فـي التراث العربيّ وأتوا أحيانًا بأخبارٍ تُثبِتُ وضع الشعر الجاهليّ (وهو أمرٌ يقينيّ ومثبَتٌ منذ القرن الثاني للهجرة)، ولم يكونوا فـي حاجة إلى إثباتِ هذا الوضع، ولكنّ العرب لحدِّ اليوم لهم قُدرة شعريَّة لا يُدركها أغلب المستشرقين، وهي إمكان النسج على منوالٍ، أو فـي أبهى الصُّور الفنيّة هي المعارضَة، ولكن الواضع الذي ينسج على منوال شاعرٍ يُراعي معجمه ومقامه وفضاءه، فهو وفـيٌّ لفضاء الشعر المتبَّع. هذا نموذجٌ فحسب حول إيماننا المبالغ فـيه بالآخر، الآخر الذي يحمل فـي الأصل مشروعًا للسيطرة، ومعيدٌ لإنتاج صور نمطيَّة عن الشرق (دون حتّى التفكير فـي أنّ الشّرقَ ليس واحدًا، والعرب أمم قد تتباين منازعها).
عودًا إلى إدوارد سعيد، فله الفضل فـي إعادة تعريف هذا الآخر المستشرق، وأن نحدّ من درجة إيماننا الأعمى به، ونحن اليوم فـي ظلّ فكرٍ غربيٍّ قادرٍ ومعلنٍ عن إمكان إزالة شعبٍ برمّته ومحوه من الوجود، نحتاج إلى إعادة ضبْط علاقتنا بالآخر، ولذلك نبدو فـي حاجة ماسّة إلى استدعاء أفكار إدوارد سعيد فـي قدرتها على تفكيك الأنماط الفكريّة، العالم الغربيّ اليوم يحتكر سرديَّة واحدة ويعمل بجدّ على إعادة صياغة الهُويّات وفقا لرؤيته التي تخدم منظومة العولمة تحكُّما فـي معطى آخر غير الأرضيّة الاستشراقيّة التي انتقدها إدوارد سعيد، اليوم التحكّم فـي البيانات والخوارزميات والمنصات الرقمية هو الذي يَعرِض هذه السرديّة التي يُمكن أن تنغرس فـي العقول، وأنّ تُحوِّل الكون إلى جنودٍ لصانع هذه البرمجيّات، العالم اليوم يتشكّل رقميّا، فـي حرْبٍ نحن -كما كنّا دوما- فـيها المتلقّون. أضحت بذلك السرديّة البديلة أكيدة، التي بها يُمكن أن يكون المثقَّف أداة للتحرّر فـي عالمٍ مقيَّد بالبرمجيّات، وجب أن يستردّ الهامش القدرة على التمثيل، وأن ينعتق من أثر ثقافة المستعمر الذي تلوّن فـي أقنعة جديدة والجوهر واحد، ولكن هل المثقَّف العربيّ اليوم على وعي بهذا الحمل الثقيل؟ وهل هو قادرٌ على الصدح بسرديّة بديلة عن السرديّة الواحدة للعالم الواحد فـي الكون الواحد؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إدوارد سعید ة التی
إقرأ أيضاً:
قلة النوم ترفع خطر السمنة واضطرابات التمثيل الغذائي.. دراسة تحذر
حذّرت دراسة طبية حديثة من أن النوم لفترات قصيرة وغير منتظمة قد يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بالسمنة واضطرابات التمثيل الغذائي، مؤكدة أن قلة النوم تؤثر بشكل مباشر على هرمونات الجوع والشبع في الجسم، وأوضح الباحثون أن النوم أقل من 6 ساعات يوميًا قد يُخلّ بالتوازن الهرموني، ما يدفع الشخص لتناول كميات أكبر من الطعام دون شعور حقيقي بالشبع.
وأشارت الدراسة إلى أن الحرمان من النوم يؤدي إلى ارتفاع مستوى هرمون الجريلين المسؤول عن تحفيز الشهية، مقابل انخفاض هرمون اللبتين الذي يرسل إشارات الشبع إلى المخ، وهذا الخلل يجعل الفرد أكثر ميلًا لتناول الأطعمة الغنية بالدهون والسكريات، خاصة في ساعات الليل، وهو ما يسهم بشكل مباشر في زيادة الوزن مع مرور الوقت.
وأضاف الباحثون أن قلة النوم تؤثر أيضًا على قدرة الجسم على حرق السعرات الحرارية بكفاءة، حيث تبطئ عملية الأيض، وتزيد من مقاومة الإنسولين، ما يرفع خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني، كما لفتت النتائج إلى أن اضطرابات النوم قد ترتبط بزيادة محيط الخصر، وهو أحد المؤشرات الخطيرة المرتبطة بأمراض القلب.
وأكد الأطباء أن النوم الجيد لا يقل أهمية عن التغذية السليمة وممارسة الرياضة، بل يُعد أحد الركائز الأساسية للحفاظ على صحة الجسم والوزن المثالي، ونصحوا البالغين بالحصول على ما بين 7 إلى 9 ساعات من النوم المتواصل يوميًا، مع ضرورة الالتزام بمواعيد نوم واستيقاظ ثابتة، حتى في أيام الإجازات.
وقدّم الخبراء مجموعة من النصائح لتحسين جودة النوم، من بينها تقليل استخدام الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية قبل النوم، وتجنب تناول المنبهات مثل القهوة والشاي في ساعات المساء، وتهيئة غرفة النوم لتكون هادئة ومظلمة ومريحة، كما أوصوا بممارسة تمارين الاسترخاء أو القراءة الخفيفة للمساعدة على النوم بشكل أفضل.
واختتمت الدراسة بالتأكيد على أن تجاهل اضطرابات النوم قد يؤدي إلى مشكلات صحية تتجاوز زيادة الوزن، لتشمل أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم واضطرابات المزاج، وشدد الباحثون على أن الاهتمام بالنوم الجيد خطوة أساسية لا غنى عنها للحفاظ على صحة الجسم والوقاية من الأمراض المزمنة.