الجزيرة:
2025-06-26@07:19:49 GMT

قصة الإمبراطورية التي تأكل نفسها

تاريخ النشر: 19th, April 2025 GMT

قصة الإمبراطورية التي تأكل نفسها

انهمك كثيرون في تحليل الآثار الاقتصادية لقرارات فرض الإدارة الأميركية تعريفة جمركية على الواردات من معظم دول العالم. وهي آثار تتدرج من ارتفاع التضخم، ومن ثَم زيادة الأسعار في معظم دول العالم، إلى الدفع نحو تفكيك جزء لا يستهان به من هيكل الاقتصاد العالمي، وفتح الباب أمام حروب تجارية واسعة النطاق، لكنّ للقرار آثارًا سياسية وثقافية أيضًا.

وإذا أردنا أن نفهم التبعات السياسية والثقافية لهذا القرار، فعلينا أن نعود إلى الوراء قليلًا، وتحديدًا إلى السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، فوقتها تصرّفت الولايات المتحدة في السياسة الدولية مثلما يتصرّف ترامب في الاقتصاد، فرفعت شعار "نحن أميركا"، واندفع خبراؤها يتحدثون عن الانفراد بقمة العالم، والانتصار الحاسم للرأسمالية في شقها الاقتصادي، والليبرالية في شقها السياسي، وهو ما حاول أن يُسوقه فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ وخاتم البشر" (The End of History and the Last Man).

ولم يكتفِ الأميركيون بهذا، بل سعوا إلى صناعة عدو متوهَّم أو متخيّل، فاستحضر ريتشارد نيكسون في كتابه "الفرصة السانحة" (Seize the Moment) الإسلام عدوًا، ووسع صامويل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات" (The Clash of Civilizations)، الذي لم يبتعد عن توجهات جهاز المخابرات الأميركية CIA (وكالة الاستخبارات المركزية)، مفهومَ العدو، ليجعل الحضارة الغربية في مواجهة حتمية مع الحضارات الأخرى، خصوصًا الإسلامية والكونفوشيوسية.

إعلان

لم يمرّ عقد واحد على هذه النزعة الجامحة حتى وجدنا بعض عقلاء بيوت الفكر وخبراء السياسة الأميركيين يتحدثون عن "حدود القوة"، بعد أن أدركت الولايات المتحدة أن قدراتها العسكرية الضخمة، حيث تنفق بمفردها عشرة أضعاف ما تنفقه أوروبا كلها على التسلح، لا تعني بالضرورة أنها قادرة على تحقيق ما تريد وفرضه عنوة على من تشاء، في أي وقت، وأي مكان.

ففي الصومال، وبعد عملية أطلقت عليها واشنطن "التدخل الحميد"، عجز الجيش الأميركي عن تثبيت وجوده على أرض دولة ضعيفة، مفككة، بل وفاشلة وفق المقاييس الدولية وقتها.

وفي أفغانستان، التي هاجمتها أميركا في أكتوبر/ تشرين الأول 2001، ظهرت مقاومة فعلت بالأميركيين ما سبق أن فعلته بالسوفيات.

وفي العراق، الذي أسقط الجيش الأميركي عاصمته في 9 أبريل/ نيسان 2003، ظهرت مقاومة لم يستطع الأميركيون معها صبرًا. ولم تمنع العقوبات الاقتصادية إيران من مواصلة برنامجها للتسلح، ووضع بوتين روسيا على ميزان القوى الدولي بعد غياب، وتقدمت الصين في ركائز القوة حتى صارت المنافس الأساسي للأميركيين.

وعلى مدار عشرين سنة، لم يكن الاقتناع بـ"حدود القوة"، هو وحده الذي ينمو ويجذب أنصارًا له في ربوع الولايات المتحدة، إنما أيضًا الانشغال بالإجابة عن سؤال جوهري طرحه بعض علماء السياسة والمثقفين الأميركيين، وهو: "لماذا يكرهوننا؟" أي "لماذا يكرهنا العالم؟"

إذ لاحظ هؤلاء أن الناس في مشارق الأرض ومغاربها لم يعودوا منشغلين بالنظر إلى الولايات المتحدة بوصفها "زعيمة العالم الحر"، كما كان سائدًا أيام الحرب الباردة (1947–1991)، إنما بكونها، ومن حيث الواقع، محض "إمبراطورية استعمارية" أخرى، لا تختلف عن سابقاتها، حتى أخذت بعض الكتابات تقارن بينها وبين الإمبراطورية الرومانية.

وتعمَّق هذا الفهم بعد أن ظهر، للقاصي والداني، أن ملفّ حقوق الإنسان نفسه ليس سوى إحدى أدوات السياسة الخارجية الأميركية، تستخدمه ضد أنظمة حكم لا تتوافق مع المصالح الأميركية عبر العالم أو تناهضها، فتضغط عليها وتبتزها، وتغض الطرف عنه مع حكومات تصنفها على أنها حليفة أو صديقة، أو على الأقل يمكن أن تقدم منفعة للسياسة الأميركية في المستقبل المنظور.

إعلان

اليوم، تتسبب قرارات الرئيس ترامب بفرض "التعريفة الجمركية" في جلب الكراهية لبلاده، بعد أن أدت سياساته، خلال ولايته الأولى، إلى تحطيم صورة الولايات المتحدة باعتبارها "أرض الأحلام" بالنسبة لكثيرين حول العالم.

ويتعمق هذا المنحى بقرارات طرد مهاجرين، وفرض قيود على آخرين، بمن فيهم طلاب علم، كانت واشنطن تعتبرهم في الماضي إحدى أدوات نقل "الثقافة الأميركية" إلى أرجاء المعمورة، والتي بدورها تترجم إلى منافع اقتصادية وسياسية.

إنّ رد فعل مختلف الدول على قرار ترامب، الذي أعلنه فيما أسماه "يوم التحرير" وعزاه إلى "حالة طوارئ اقتصادية"، يبين أن هناك، في الخلفية، إدراكًا للتوحش الأميركي، حتى لو كانت النزعة الاقتصادية والتجارية البحتة تغلف تصريحات مختلف المسؤولين في تعقيبهم على هذه الخطوة.

بل يتزايد الشعور بالاستهانة والاستخفاف الأميركي بالعالم، الذي وصل إلى حد أن تشمل هذه التعريفة جزيرتي "هيرد" و"ماكدونالد" في القطب الجنوبي، اللتين تسكنهما طيور البطريق، ولم يدخلهما إنسان واحد منذ عشر سنوات، ما حدا برئيس وزراء أستراليا، أنتوني ألبانيز، إلى القول: "لا يوجد مكان على الأرض في مأمن من هذه القرارات".

واختيار اسم "يوم التحرير" لمثل هذا الإعلان لا يخلو، في حد ذاته، من معنى سياسي وثقافي، إذ يحول التعريفة الجمركية من إجراء اقتصادي إلى إشارة رمزية تريد أن تقول للعالم إننا وحدنا في وجه الجميع، وأن النظام الدولي الحالي عليه أن يتغير لصالحنا، ولو عنوة. ولا يكفينا الانفراد بالقمة، بل منع أي أحد من مجرد التفكير في الصعود إلينا.

وكما يهدم الرئيس ترامب، تباعًا وفي إصرار، الأسس والتقاليد السياسية والدستورية والبيروقراطية والأمنية داخل الولايات المتحدة نفسها، فإنه يفعل هذا خارجها.

وهي مسألة بدأت بالخروج من منظمات أممية، واستهانة بالقانون الدولي، ثم حديث صريح عن غزو دول والاستيلاء على أخرى، وبعدها اتّخاذ قرار الرسوم الجمركية دون تشاور أو تفاوض أو تفاهم مع أحد.

إعلان

قد تكون هذه الحالة المستعلية هي أقصى حد تبلغه الإمبراطورية التي تعتقد أنها منفردة بقيادة العالم، وبعدها يبدأ منحنى القوة في الهبوط، لا سيما أن الجميع الآن بات يدرك، مع التوجهات الترامبية، أن "الحلم الأميركي" تحول إلى "الخطر الأميركي"، وأن الصبر عليه لا يمكن أن يطول، وأن طرق مواجهته يجب أن تتعدد وتتسع وتتعمق، اللهم إلا إذا قرر الرئيس ترامب تغيير سياسته، وهذا صعب، أو انتبه من يخلفونه إلى أن استفزاز العالم كله ليس في صالح بلادهم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

مأزق دبلوماسي أمام الفيفا قبل كأس العالم.. هل تلعب إيران على الأراضي الأميركية؟

يواجه الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) ضغوطًا متزايدة بشأن الترتيبات الخاصة بكأس العالم 2026، في ظل تصاعد التوتر بين إيران والولايات المتحدة، إحدى الدول الثلاث المستضيفة للبطولة إلى جانب كندا والمكسيك. اعلان

ورغم العقوبات العسكرية التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخرًا على طهران، وحظر السفر المفروض على المواطنين الإيرانيين، لا تتضمن لوائح الفيفا أي بند يمنع مشاركة إيران أو يحول دون خوضها لمبارياتها على الأراضي الأميركية. ويُستثنى من الحظر، قانونًا، بعض المشاركين في الفعاليات الرياضية، ما قد يتيح دخول اللاعبين وأعضاء الطاقم الفني وأُسرهم.

 وكان المنتخب الإيراني قد ضمن تأهله إلى كأس العالم للمرة الرابعة على التوالي في مارس الماضي، بعد مشاركته في مونديال قطر 2022، حيث واجه حينها نظيره الأميركي في مباراة أثارت اهتمامًا سياسيًا وإعلاميًا واسعًا. أما في نسخة 2026، فلا يمكن لإيران تجنّب اللعب في الولايات المتحدة إلا إذا تم توزيعها ضمن المجموعة A، التي تُقام مبارياتها حصريًا في المكسيك.

Relatedقبيل الافتتاح.. رئيس الفيفا يدعو إلى اغتنام فرصة شراء تذاكر كأس العالم للسيداتمنافسات الفيفا: قرار بوقف أي مباراة في حال وقوع حوادث عنصريةالاتحاد الكوري الجنوبي يشتكي فريقا إيطاليا لدى الفيفا وصف لاعبه بـ"جاكي شان"

وبحسب نظام البطولة، في حال تصدرت إيران مجموعتها، فستخوض مباراتي دور الـ32 والـ16 في المكسيك. لكن في حال تأهلها إلى الأدوار المتقدمة، فإنها ستكون مضطرة للانتقال إلى الولايات المتحدة، ما يفتح الباب أمام إشكالات دبلوماسية وأمنية غير مسبوقة.

 ورفضت الفيفا الرد على استفسارات صحيفة الغارديان بشأن المسألة، فيما يُتوقع أن تُعقد مشاورات داخلية قبيل إجراء قرعة البطولة في ديسمبر المقبل، وسط ترقّب لكيفية تعامل رئيس الاتحاد جياني إنفانتينو مع الموقف، خصوصًا أنه يرتبط بعلاقات وثيقة بالرئيس ترامب، الذي وافق مؤخرًا على ضرب مواقع نووية إيرانية.

 القرار النهائي بشأن توزيع المنتخبات على المجموعات سيصدر عن مجلس الفيفا برئاسة إنفانتينو، لكن اللجنة المنظمة لمنافسات الاتحاد الدولي – والتي تضم ممثلين عن كندا والمكسيك وإيران، ويرأسها رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) ألكسندر تشيفرين – سيكون لها دور استشاري. وقد يشكّل الموقف الأوروبي سابقة يُحتذى بها، إذ قرر اليويفا في 2022 فصل أوكرانيا وبيلاروسيا في قرعة المنافسات الأوروبية، بعد غزو روسيا لأوكرانيا.

 وتنص قواعد القرعة المعتمدة في مونديال قطر على منع وجود أكثر من منتخب من نفس الاتحاد القاري (باستثناء أوروبا) في مجموعة واحدة، لكنها لا تتضمن معايير جغرافية أو سياسية تمنع استضافة منتخب في بلد معين، ما يجعل ملف إيران في 2026 اختبارًا سياسيًا وتنظيميًا حقيقيًا للفيفا.

انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة

مقالات مشابهة

  • واشنطن تراقب تهديدات إيرانية.. ماذا يجري داخل الولايات المتحدة؟
  • ترامب يبلغ نتنياهو: الولايات المتحدة انتهت من استخدام القوة العسكرية ضد إيران
  • عبد المنعم سعيد: الولايات المتحدة في عهد ترامب تسعى لرسم ملامح نظام دولي جديد
  • النشطاء: على أوروبا أن تضمن أمنها بنفسها بعيدا عن الولايات المتحدة
  • مأزق دبلوماسي أمام الفيفا قبل كأس العالم.. هل تلعب إيران على الأراضي الأميركية؟
  • عراقجي يحذر الولايات المتحدة: "جاهزون للرد مجددا"
  • رئيس الأركان الإيراني يتوعد بـ"رد حازم" على "الخطأ الأميركي"
  • رئيس الفيفا يسعى لجعل كرة القدم الرياضة الأولى في الولايات المتحدة
  • إيران: الولايات المتحدة خانت الجهود الدبلوماسية والتاريخ لن يغفر أفعالها
  • إيران تهدّد بتفعيل خلايا نائمة داخل الولايات المتحدة