المستشار الروبوتي في صناعة القرار .. الفرص والتحديات
تاريخ النشر: 29th, April 2025 GMT
ظهر المستشار الروبوتي في عالم الأعمال مؤخرا، وحقق نجاحات واسعة في المجالات المالية من خلال توفير تحليلات البيانات الآنية، والرؤى الاستشرافية، والتوقعات المالية، ومختلف أدوات ضمان دقة وسرعة صناعة القرارات الاستثمارية الكبرى. وتسعى الأوساط الإدارية إلى استنساخ فكرة هذا المستشار الروبوتي ليشمل مختلف ممارسات القيادة التنظيمية.
ولكن التأثير العميق للذكاء الاصطناعي على عمليات صناعة القرار، وفعالية القيادة لا تزال بحاجة إلى وقفة متأنية لفهم تأثيراتها على النطاق الأوسع للهياكل التنظيمية، والكفاءات البشرية، والعمليات المؤسسية، والثقافة المهنية.
فإذا تأملنا واقع عمل المؤسسات، نجد بأن ظهور الذكاء الاصطناعي قد أحدث تحولات جذرية في المشهد التنظيمي، وذلك من حيث الممارسات العملية، وأدوار العاملين في مختلف المستويات الإدارية. وفي المجمل، قد ساهمت أدوات الذكاء الاصطناعي في تسريع التحول في الاستراتيجيات التنظيمية، وذلك من خلال إعادة تشكيل عملية التخطيط الاستراتيجي، وإدارة المخاطر، وبناء السمعة والهوية، والحفاظ على المزايا التنافسية.
ويُعد تأثير الذكاء الاصطناعي في عالم المؤسسات اليوم عميقا وتحويلا في آنٍ واحد، إذ لم يقتصر أثره على تحسين العمليات، وتبسيط الإجراءات الداخلية وحسب، بل امتد تأثيره إلى الجوانب التنفيذية مثل إعادة تعريف التعاونات الاستراتيجية البينية، وطريقة تفاعل المؤسسات مع نظيراتها، والمنافسين لها، مما أدى في نهاية المطاف إلى ظهور جيل مختلف من المؤسسات، وثقافة عمل مغايرة تماما للسمات التقليدية المعتادة.
وعلى الرغم من أن التركيز الراهن لدور المستشار الروبوتي، وغيره من التقنيات المتقدمة في عالم الأعمال والمؤسسات ينصب - بشكل كبير - حول تأثير الأتمتة، والتطور الرقمي على فرص العمل، إلا أن الذكاء الاصطناعي في المجمل يُدخل تغييرا هائلا على مشهد القيادة، والإدارة التنظيمية، وذلك من حيث تمكين عملية صناعة القرارات بغية التحول من النهج القائم على الحدس الإداري والخبرة إلى استراتيجيات أكثر اعتمادا على الأدلة.
مما يعني بأن الدوائر المؤسسية على أعتاب التحول الكبير في نماذج القيادة التقليدية إلى نماذج أكثر حداثة وعملية، ومعززة بأدوات الذكاء الاصطناعي، وتسمح للقادة بتطوير العمليات مع الاستجابة الذكية للمستجدات المتغيرة، وذلك بفضل إمكانية الوصول إلى مجموعات البيانات الضخمة، والاطلاع على التحليلات المتقدمة للاتجاهات، والبدائل الاستراتيجية، والذي بدوره يتيح الخيارات الداعمة لاتخاذ القرارات في الوقت الفعلي، وبالدقة المطلوبة بناء على النماذج التنبئية، وهي قدرات قد تستغرق وقتا أطول إذا اقتصر الاعتماد على الذكاء البشري لوحده.
وبالإضافة إلى دعم صناعة القرارات الاستراتيجية، يعزز الذكاء الاصطناعي عملية اتخاذ القرار على مستوى التخطيط التشغيلي، والذي يشمل مجالات وضع مقاييس الأداء الموجهة لتحسين الإنتاجية، ودعم فرق العمل، والتنبؤ باحتياجات القوى العاملة المستقبلية، وخفض التكاليف التشغيلية عبر اقتراح تدابير استباقية مدعمة بالاستشراف الذكي.
ومع الفوائد العديدة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي، إلا أن إدماج المستشار الروبوتي في الإدارة التنظيمية هو أمر محفوف بالتحديات، والمخاطر التقنية، وكذلك بالمعضلات الأخلاقية، لا سيما فيما يتعلق بمحوري الشفافية والمساءلة.
فالتوجهات الإدارية المعاصرة التي تسعى إلى تعزيز التكامل المتزايد للذكاء الاصطناعي في الأدوار القيادية لا تواكب الوتيرة الفعلية لتطور عمل خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي يتم تصميمها غالبا لتعزيز عملية صنع القرار كصناديق سوداء، وبذلك هو يضع حاجزا تقنيا يحول من دون فهم قادة الأعمال، والشركاء، وأصحاب المصلحة للكيفية التي تم بها التوصل للخيارات الاستراتيجية، والأولويات المقترحة في اتخاذ القرارات، وهنا يظهر التحدي الأول والمرتبط بنقص الشفافية، ففي ممارسات صناعة القرار التي تعتمد على الذكاء البشري، تظهر التوصيات النهائية مع جميع نقاط سلسلة التفكير والاستنتاج، ولكن التقنيات المتقدمة تتيح الخيارات النهائية، وهي تظهر كنتاج التحليل الذكي للبيانات والمدخلات ولكن دون توضيح للمنطلقات المنطقية في قراءة هذه التحليلات، أو مقارنتها مع حالات مشابهة ظهرت في الماضي، أو وضع احتمالات أخرى خارج البيانات التي تم تغذيتها في الأنظمة، وهذا النقص في الشفافية يخلق بالتبعية مخاوف بشأن المساءلة؛ فمن المسؤول عندما تؤدي القرارات التي يقودها الذكاء الاصطناعي إلى نتائج عكسية تماما، أو سلبية على أقل تقدير؟، وعلاوة على ذلك، تظهر القراءة الحالية لمدى كفاءة أنظمة الذكاء الاصطناعي في دعم صناعة القرار نسبة من المخاطر الفنية نظرا لكونها قائمة على الخوارزميات، وهي عرضة للتحيزات التي تفرضها جودة البيانات والمعلومات، وكذلك يُعد محور خصوصية البيانات وأمنها من المخاطر الأكثر إلحاحا في الوقت الراهن، هذا بالإضافة إلى المخاوف التي تُطرح دائما بشأن قدرة الذكاء الاصطناعي على تقويض العناصر البشرية في القيادة، مثل الذكاء العاطفي، والإبداع، والتواصل القيادي، هذا إلى جانب الصعوبات الناشئة عن وجود ثغرات في التوافق الثقافي مثل مقاومة التغيير.
وجميع هذه التحديات تفرض أهمية وضع المبادئ التنظيمية، والضوابط الأخلاقية الفاعلة قبل إدماج التكنولوجيات الرقمية، والذكاء الاصطناعي في عملية اتخاذ القرار.
إن المستشار الروبوتي ليس سوى صورة لما سيكون عليه واقع العمل في المستقبل، مما يفرض أهمية تسريع التكامل المسؤول للذكاء الاصطناعي في المشهد التنظيمي، وديناميكيات القيادة كاستراتيجية محورية، وضرورة إرساء الأطر الفاعلة لتمكين التعامل مع تعقيدات هذه التكنولوجيا، وتمكين إدارة المخاطر والتحديات التقنية والأخلاقية، واغتنام الفرص التي تتيحها هذه التقنيات لاتخاذ قرارات استباقية، وأكثر انفتاحا على البيانات والأدلة. ففي ظل بيئة الأعمال سريعة التطور، لم يعد توظيف الذكاء الاصطناعي مسألة أفضليات، ولكنه بمثابة الدعامة التي يمكنها أن توجه المؤسسات إلى الفرص غير المستغلة لتعزيز الابتكار والتنافسية.
ويتوقف نجاح المؤسسات في الاستعانة بالتقنيات الجديدة، مثل المستشار الروبوتي، على ثلاثة عوامل حاسمة وهي: ضمان جودة البيانات والمدخلات، والتغلب على فجوات الاتساق الثقافي، وتحقيق الإدارة المتكاملة والذكية للآثار الأخلاقية المتعلقة بدمج التقنيات المتقدمة للذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، تظهر أهمية التكامل مع الذكاء البشري من أجل توليد رؤى قائمة على البيانات، والخبرات، والحكمة، والتي يمكن الاستفادة منها في سد الفجوة التي تنشأ من الاعتماد على مصدر واحد لدعم صناعة القرارات الاستراتيجية، واكتساب القيمة النوعية من مختلف المدخلات، ودفع عجلة الابتكار على المدى البعيد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی فی للذکاء الاصطناعی صناعة القرارات صناعة القرار
إقرأ أيضاً:
هل روبوتات الذكاء الاصطناعي مجرّد ضجيج أم أمل حقيقي؟
ترجمة: بدر بن خميـس الظفري
طالما حلم الإنسان بأن تتولّى الآلات عنه الأعمال الشاقّة، وأن تساعده في المهام الذهنية كذلك. وعلى مدى القرون، ازداد اعتماد البشر على الآلات بوتيرة متسارعة، حتى وصلنا اليوم إلى مرحلة باتت فيها الروبوتات تؤدي شتى أنواع المهام اليدوية، وتُظهر مهارات لافتة.
وينطبق الأمر نفسه على الأنشطة الفكرية. فمنذ ظهور برنامج «تشات جي بي تي»، أصبح الجميع يدرك حجم الإمكانات التي يحملها الذكاء الاصطناعي. والمشهد مذهل بالفعل: كيف يمكن لبرامج أن تمتلك هذا القدر من المعرفة، وأن تنتج نصوصا واستنتاجات تبدو منطقية؟ وهل هناك حدّ لما قد تبلغه؟ ولماذا تحتاج هذه الأنظمة إلى موارد هائلة من البيانات والطاقة الحاسوبية؟
لكن لنبدأ من البداية، فمصطلح «الذكاء الاصطناعي» ظهر في خمسينيات القرن الماضي، وصاغه عالم الرياضيات الأمريكي جون مكارثي خلال ورشة عمل كانت مخصّصة للبحث في مستقبل قدرات الحواسيب. وقد قال لاحقا إن المصطلح لم يأت نتيجة تفكير علمي عميق، بل لأنهم أرادوا عنوانا مثيرا يجذب التمويل اللازم للورشة!
ومع ذلك، فإن فكرة الآلة الذكية سبقت ذلك بكثير؛ ففي عام 1939 عرضت شركة «وستنغهاوس» خلال معرض نيويورك العالمي نموذجا بشريّ الشكل يدعى «إلكترو»، قادرا على المشي والكلام والسمع.
وبمعايير اليوم، كان الروبوت بدائيا للغاية، لكنه جسّد مبكرا مفهوم الروبوت الإنساني، وكان يرافقه جهاز آخر على شكل كلب يُسمى «سباركو». وفي عام 1941، قدّم المهندس الألماني كونراد تسوزه أوّل حاسوب حديث، ثم طُوّرت أنظمة التحكم بالحركات الكهربائية عبر الحاسوب في أوائل الخمسينيات ودخلت مرحلة الإنتاج. تلك الخطوات كانت الأساس الذي قامت عليه الأنظمة الحالية، وإن كان أحد في ذلك الوقت لا يتخيّل مدى ما ستصل إليه الحواسيب اليوم.
هذه التطورات تطرح سؤالا أساسيا: هل يمكن للآلات أن تضاهي الذكاء البشري، أو حتى تتجاوزه؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟ أرى أن المسألة تقوم على ثلاثة مستويات.
أولا، درج الذكاء الاصطناعي التقليدي على محاكاة قدرات معرفية بشرية معينة، ولكن ضمن نطاق ضيّق، ومع ذلك، يمكنه إنجاز المهام بسرعة وكفاءة أكبر. من ذلك التفكير الرياضي، ولعب الشطرنج، وقراءة الخرائط للملاحة. اليوم، يُعدّ من المسلّم به أن هذه مهارات بشرية يمكن نقلها إلى الآلات، لكن في عام 1956 كانت أقرب للخيال العلمي.
لقد أصبحت هذه الأحلام واقعا، لكنها لم تعد تُصنّف ضمن «الذكاء الاصطناعي» بالمعنى الشائع. وكما قال مكارثي: «عندما يعمل النظام جيدا، لا يعود أحد يسمّيه ذكاء اصطناعيا». أما الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي، وهو الذكاء الاصطناعي التوليدي، فقد دخل الوعي العام بقوة، ويمتاز بقدرته على إنتاج نصوص وصور وأصوات جديدة استجابة لتعليمات تُكتب بلغة طبيعية.
غير أن تدريب هذا النوع من «الذكاء الاصطناعي غير المجسّد» يعتمد على كميات ضخمة من البيانات المأخوذة من الفضاء الرقمي، ويتطلب قدرة حسابية هائلة. وهذا يعني أنه يرتبط بعالمنا الواقعي بشكل غير مباشر للغاية. ثانيا، يمكن إيجاد بيئة رقمية تحاكي قوانين الفيزياء في العالم الحقيقي بهدف إنتاج بيانات أقرب إلى الواقع لتدريب الأنظمة الذكية. في هذه البيئة، تُحاكي الأشياء الافتراضية خصائص الأشياء المادية بدقة كبيرة. فمثلا، تسقط قطرة الماء وتتحرك كما تتحرك في الطبيعة.
وفي هذا «العالم الافتراضي»، أو ما يُعرف بـ«الميتافرس» (العالم الماورائي الرقمي)، يمكن تدريب أنظمة التعلم الآلي على الاستكشاف والتجربة، وتنمية حسّ الفضول والقدرة على التعامل مع تنوّع المواقف.
غير أن هذا العالم، مهما بلغ تشابهُه مع الواقع، يظل من صنع الإنسان ويُصوّر العالم من منظور الإنسان فقط. وبالتالي، لا يمكن أن نتوقع فيه المفاجآت الحقيقية التي شكّلت مسار حياتنا وأسهمت في تطوّر الذكاء البشري.
في المستوى الثالث، يمكن تجاوز تلك القيود من خلال تمكين الحواسيب من العمل باستقلالية داخل العالم الحقيقي عبر الروبوتات التي تستشعر بيئتها باستخدام المجسّات. وبفضل أدوات الحركة المدمجة فيها ـ مثل الأيدي والأذرع والأرجل ـ تستطيع هذه الروبوتات تغيير بيئتها، ثم ملاحظة النتائج المترتبة على ذلك.
وهكذا تنشأ «حلقة مغلقة» تجمع بين الإدراك، والفهم الذكي، وتنفيذ الأفعال. وبذلك يصبح بإمكان الآلة المزوّدة بنظام ذكاء اصطناعي مدمج أو متصل بها خارجيا أن تخرج إلى العالم «بمفردها»، وأن تتعلم وتطوّر ذكاءها الخاص. ويُطلق على هذا النوع من الذكاء اسم «الذكاء المجسّد»، لأنه مرتبط بجسد، ومصمّم بما يتناسب مع خصائص الروبوت نفسه، من طريقة إدراكه للعالم إلى قدرته على التفاعل معه.
ماذا يمكن أن نتوقع في المستقبل؟ من الواضح أن دمج الذكاء الاصطناعي بالروبوتات ـ وليس بالضرورة الروبوتات الشبيهة بالبشر التي تمتلك سيقانا، بل بمختلف أشكالها ـ هو الطريق الذي سيُسهم في جعل الآلات الذكية قادرة على أداء مهام مفيدة.
فإذا استطاعت هذه الكيانات «المجسّدة» أن تفهم عالمنا الحقيقي مباشرة، وأن تمزج هذا الفهم بما اكتسبته من الفضاء الرقمي، فقد يؤدي ذلك إلى تآزر أو علاقة تكاملية تجعل الإنسان أكثر ذكاء وتفتح أمامه آفاقا أوسع بكثير.
ويتحمل واضعو السياسات والباحثون مسؤولية رئيسية في الاستثمار في هذا النوع من الروبوتات باعتباره جزءا أساسيا من مهمتهم في دعم تطور الإنسان. كما أن الفوائد العملية لاستخدام هذه الآلات في عمليات الإنتاج ستظهر بوضوح في المدى القصير والمتوسط.
إن البلدان التي تمتلك أعلى كثافة من الروبوتات ـ مثل الصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وألمانيا، واليابان ـ تتمتع بأفضلية إنتاجية هائلة. ومن المتوقع أن يتّسع هذا الفارق بدرجة كبيرة مع دخول الوكلاء المجسّدين إلى خط الإنتاج.
أما الدول التي تمتلك قاعدة صناعية واسعة وموارد بيانات كبيرة، وتعرف كيف توفّق بين البرمجيات وأنظمة الحوسبة المدمجة والمجسّات والميكاترونكس والذكاء الاصطناعي، فهي الأكثر قدرة على طرح هذه الآلات في الأسواق.
وليس من قبيل المصادفة أن هذه الدول هي بالفعل في طليعة صناعة الروبوتات.
ومع الإنجازات اللافتة التي تحققها الشركات الناشئة الصينية في مجال الروبوتات الشبيهة بالبشر، ومع الهدف المعلن للصين بأن تصبح رائدة في الذكاء الاصطناعي المجسّد ـ كما ورد في توصيات الخطة الخمسية الصينية الخامسة عشرة (2026-2030) ومبادرة «الذكاء الاصطناعي بلس» ـ فإننا نتوقع إنجازات كبيرة إذا ما نُفّذت هذه الخطط بذكاء.
كما أن المنافسة الدولية تتصاعد، ما يجعل السنوات المقبلة حبلى بابتكارات لافتة في هذا المجال. وأنا شخصيا لا أطيق الانتظار لرؤية ما سيظهر.