"وأنا أرفع قاذف الآر بي جي، قلت لزملائي: حين أقف لضرب المصفحة الإسرائيلية، قوموا بتغطيتي ببنادقكم"، كانت هذه آخر عبارة قالها أسامة محمود العودة الله لجاريه الأخوين عبد الله وهاشم بطحة. "في تلك الأثناء، رن هاتف عبد الله، فلمع ضوء هاتفه، وكانت الزنانات وطائرة مروحية تحلق فوقنا، فكشفنا الضوء، فأرسلوا علينا قذيفة".

كان هذا بعض ما جرى في الثاني من أبريل/نيسان الماضي في ريف درعا الغربي.

في الشهر الماضي، شهد ريف درعا الغربي، فجر الخميس الثالث من أبريل/نيسان 2025، توغلا عسكريا إسرائيليا هو الأعمق منذ سنوات، حيث تقدمت قوة مدرعة داخل حرش سد الجبيلية بين مدينتي نوى وتسيل، وتصدى لها شباب مدينة نوى، فانسحبت بعد ساعات. وجاء القصف والاشتباكات في درعا بالتزامن مع ضربات جوية إسرائيلية استهدفت مواقع إستراتيجية في العاصمة دمشق وحمص وحماة.

اقرأ أيضا list of 3 itemslist 1 of 3ملكنا منابر الجمعة فحررنا البلد.. قصة وزارة الأوقاف في إدلبlist 2 of 3بندقية في المحراب.. كيف صاغ التديّن جنود تحرير الشام؟list 3 of 3إسرائيل القلقة من الشرع ورفاقه ماذا تفعل في الجولان؟end of list

بدت لي التقارير الإخبارية غائمة بشأن حيثيات ما حدث تلك الليلة في درعا بعد تقدم الجيش الإسرائيلي في ريفها، فقررت زيارة المدينة والوقوف على تفاصيل مبادرة المقاومة الشعبية للتوسع الإسرائيلي في سوريا.

مظاهرة في حرستا قرب دمشق يوم 11 أبريل/نيسان الماضي تضامنا مع الفلسطينيين ضد هجمات الاحتلال الإسرائيلي (الأوروبية) زيارة حوران

"هذا جبل الشيخ؟" سألت السائق، وأنا أنظر من النافذة بعد أن خرجنا من دمشق متجهين جنوبا.

"نعم، انظر إلى الثلوج، ما زالت عليه ونحن في بدايات الصيف"، أجاب السائق الأربعيني الذي لم يغادر سوريا قط.

"يبدو أن تسميته بجبل الشيخ منطقية إذن، فهذه العمامة من الثلج تلف رأسه طوال العام، كشيخ متأنق"، قلت معلقا.

إعلان

"هل يرانا الإسرائيليون الآن وهم فوقه إذا لوحت لهم؟"، قال زميلي المرافق ممازحا السائق.

"الله يهدهم"، قالها سائقنا الدمشقي بتذمر واضح، دون أن يبتسم، مخالفا بروتوكولات اللطافة الشامية التي تقتضي أن نكتة الزبون مضحكة دائما.

يعدّ جبل الشيخ (حرمون) أحد أكثر المواقع الجغرافية حيوية في منطقتنا العربية، حيث يجمع بين الأهمية العسكرية والاقتصادية والدينية. يقع عند تقاطع حدود سوريا وإسرائيل ولبنان، مما يجعله نقطة مراقبة إستراتيجية تكشف دمشق وتتحكم في تحركات القوات في المنطقة.

كما يشكل الجبل خزانا مائيا، حيث تنبع منه أنهار رئيسية مثل نهري الأردن وبانياس، بينما تجتذب ثلوجه الشتوية السياح ومحبي التزلج. ويحمل الجبل بُعدا دينيا وتاريخيا عميقا، حيث يرتبط بتراث ديني قديم ويحوي آثارا رومانية وبيزنطية. كل هذه العوامل لا تجعله مجرد جبل، بل نقطة صراع وجذب تتجاوز حدوده الجغرافية.

وتعتبر الصهيونية الدينية الجبل من "أرض إسرائيل التاريخية" وفقا للمفهوم التوراتي، إذ يصف الحاخام دوف ليئور، وهو أحد أبرز ممثلي التيار الديني القومي، الجبل بأنه "بوابة الأرض المقدسة" التي يجب أن تظل تحت السيطرة اليهودية.

وفي خطاب عام 2019، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن "هضبة الجولان -ومنها جبل الشيخ- ستبقى إلى الأبد تحت السيادة الإسرائيلية"، مستندا في تصريحه إلى "الحق التاريخي والديني" كما ورد في النصوص المقدسة.

 

المزيريب

حين وصلنا إلى بلدة المزيريب التي يكثر فيها وجود اللاجئين الفلسطينيين، كان مضيفنا الذي انتظرنا بعد خروجه من صلاة الجمعة واحدا منهم، ليصحبنا إلى موقع الحادثة في نوى بعد تنسيقه مع وجهاء البلدة.

"لقد جئنا من صفد بعد النكبة، ومنذ ذلك الوقت ونحن في المزيريب. في ليالي الصيف ننام على السطح ونرى أنوار مدينتنا التي سنعود إليها يوما ما"، قال لي أبو أيمن ذو الـ75 عاما، وهو يدعونا لركوب السيارة للانطلاق إلى نوى.

إعلان

أغلب سكان هذه البلدات مزارعون، فحوران هي سلة غذاء سوريا، حيث توفر جزءا كبيرا من إنتاج البلاد من القمح، والشعير، والخضروات، والفواكه، خاصة الزيتون والعنب والرمان. وبحسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، كان إقليم حوران قبل عام 2011 يساهم بأكثر من 20% من الإنتاج الزراعي السوري الإجمالي. وحوران أيضا موطن رئيسي لتربية الأغنام والأبقار، مما جعلها مركزا مهما لإنتاج اللحوم والألبان ومشتقاتها. وبحسب إحصاءات وزارة الزراعة السورية (قبل الثورة)، تتركز نحو 18% من الثروة الحيوانية السورية في محافظتي درعا والسويداء اللتين تشكلان قلب حوران.

في ضيافة رجال المقاومة

بصوت خفيض يقطعه نفس ثقيل من آلام المعركة، يحكي أسامة قصته -وهو ممدد فوق سريره- كوردة قطفت من رأسها، فقد أصيب إصابة أودت بكلتا رجليه.

"قبيل منتصف الليل بقليل، سمعنا بدخول الإسرائيليين إلى منطقة سد الجبيلية. اتصلت بأصدقائي أبناء بطحة، عبد الله وهاشم، وشاب من الطياسنة ندعوه أبا جانتي. أخذنا بنادقنا، وأخذت معي قاذف آر بي جي، وانطلقنا على دراجتنا النارية. وصلنا إلى المنطقة، ورأينا المسيّرات وقافلة من العربات المصفحة. كمنّا في الحرش، وأردنا أن نضرب إحدى العربات المصفحة التابعة لقوات الاحتلال المتوغلة في أراضينا".

أثناء زيارتنا لأسامة العودة (يسار) الذي استهدفته قذيفة إسرائيلية (الجزيرة)

"أوقفنا دراجاتنا بالقرب، ودخلنا سيرا على الأقدام. أردنا أن نضرب إحدى المصفحات المتقدمة. كان بيننا وبينها 150 مترا. قلت للشباب أن يغطوني برشاشاتهم لأضرب المصفحة. في تلك اللحظة، اقتربت زنانة استطلاعية، بعد أن رن هاتف عبد الله. وفجأة نزلت علينا قذيفة، أصابت الشاب الذي كان يحمل قذائف الآر بي جي، فتطايرت أشلاؤه، واستشهد الثاني معه على الفور. ثم أطلقوا قذيفة ثانية فاستشهد الثالث. أخذت أزحف بحثا عن ساتر، فأطلقوا قذيفة ثالثة، فبترت قدمي. واصلت الزحف إلى أن اختبأت بين صخرتين. ظللت أنزف من الساعة الثانية عشرة إلى الثانية صباحا، حينها وصل الشباب وأسعفوني إلى المشفى".

إعلان

وسألته: "هل أرسلت لك الحكومة أحدا لتكريمك وعلاجك، أو عرضت عليك أطرافا صناعية؟".

"لم نر مسؤولا واحدا. أخي يعمل في الأمن العام، ومع ذلك لم يلتفت إليه أحد. لقد خرج للدفاع عن سوريا، وحكومة سوريا ليست مهتمة به"، قال محمد، شقيق أسامة بانفعال شديد، قبل أن ينفجر بالبكاء حزنا على أخيه الذي فقد أطرافه في مقتبل شبابه.

في ضيافة أبي الشهداء

أمام بيت حجري متواضع في مدينة نوى، توقفت السيارات. كان أبو الشهداء عطا الله السقر (أبو بسام) يقف أمام مضافته. شيخ سبعيني نحيل الجسد، أكلت الأحزان من جسده، لكنها لم تحنه. جلسنا في المضافة التي علق على أحد جدرانها صورا لأبنائه الأربعة الذين استشهدوا، وعلى الجدار المقابل تقويم عليه صورة المسجد الأقصى، بينما سائر الحيطان المقشرة من الطلاء بسبب الرطوبة كانت خالية من أي زينة.

بعد أن تأكد من أن جميع الزوار قد أخذوا أماكنهم في مجلسه، جلس أبو بسام في طرف المجلس بجانب الباب، والشمس مسلطة عليه. أوسع له الجميع ليغير مكانه، لكنه قال بلهجته الفلاحية الأصيلة: "أحب هذا المكان، أريد أن أبقى تحت الشمس".

عطا الله السقر أبو الشهداء (الجزيرة)

بدأت التعازي تنهال عليه من كل زوايا المجلس، وهو يردد: "الحمد لله، الحمد لله". فلما سكت المجلس، أشعل سيجارة وقال: "فداء للأمة العربية والإسلامية، هذا شرف لنا أن يستشهد ابني في حماية أرضه وعرضه من الإسرائيليين. لم يكن الأول، فقد سبقه إخوته الثلاثة وهم يقاتلون النظام الأسدي".

كان أبناؤه موسى وأحمد ويحيى قد انضموا إلى الجيش الحر في الثورة السورية. استشهد أحمد في "عاصفة الجنوب"، وهي حملة عسكرية شنها الجيش السوري عام 2018 بدعم من الحلفاء (روسيا وإيران والمليشيات الموالية) لاستعادة السيطرة على مناطق في جنوب سوريا، وخاصة محافظتي درعا والقنيطرة، من سيطرة الفصائل المعارضة. أما يحيى، فقد جاءت عناصر موالية للنظام واغتالته وهو يفلح أرضه، إذ كان قائد فصيل.

إعلان

وتابع أبو بسام "اتصل أحد أصدقاء عيسى به وأخبره أن مجموعة شباب خرجوا إلى الحرش ليتصدوا لتوغل الإسرائيليين. لم يفكر كثيرا، بل حمل بندقيته وخرج. بعد ساعات بلغنا خبر استشهاده، فحمدنا الله. في يوم التشييع خرجت درعا كلها، وجاء الناس من كل المحافظات يعزون ويهنئون. كانت المسيّرات بعشرات الآلاف".

"حين تابعت التشييع الشعبي، رأيت الناس يطلقون على الشهداء لقب (إخوة السنوار).. من الذي أطلق عليهم هذا؟"، سألته.

"نحن شعب واحد، أطلق الناس هذا الاسم وانتشر. في وعي أهل درعا نحن وغزة شعب واحد، والمقاومة للاحتلال واجب يجمعنا"، أجاب أبو بسام.

ودعنا أبو بسام وهو يعتذر لنا بأنه لم يقدم لنا سوى الشاي والماء، وقال إنه كان يجب أن يطعمنا.

 

معاينة أثر الحفرة التي خلفتها القذيفة (الجزيرة) في موقع العملية

في موكب من السيارات تتقدمه حافلة صغيرة تقل وجهاء نوى، وينتهي بسيارتنا العائلية، أخذنا نخوض طريقا غير معبدة في منطقة زراعية يسميها أهل البلاد "الحرش"، وهي منطقة أشجار حراجية لا تفلح، مليئة بأشجار الكينا.

"إلى أين يأخذوننا؟ السيارة لا تستطيع أن تواصل في هذا الطريق الوعر"، قال سائقنا متذمرا. بعد دقائق توقفت السيارات بالقرب من سد الجبيلية، بجوار تل الجموع.

في أرض فضاء مليئة بالأشجار تطل على السد، اتخذها السكان متنزها عاما، تحلقنا حول حفرة عميقة في الأرض. قال لنا مرشدنا، أبو عبادة ياسر المسلم، أحد أعيان نوى: "هذا أثر القذيفة من المروحية التي أصابت الشباب الذين جاؤوا في الدفعة الثانية لإسعاف الشباب الأربعة الذين وصلوا أولا".

وأضاف أبو الوليد، الرجل الذي أسعف أسامة وأخذه إلى المشفى: "عندما وصلنا كان عددنا 11 رجلا، رأينا الشباب وقد قتل منهم 3 وبقي أسامة، أردنا إسعافه، فجاءتنا هذه القذيفة، فأصابتني شظاياها في ظهري وبطني، وقتل 6 أشخاص منا".

أثر القذيفة (الجزيرة)

أخذ الفريق المصاحب لنا يجمع شظايا القذائف وبقايا الشهداء من الملابس وحاجياتهم. بعض الشهداء جُمعوا أشلاء، لم يكونوا قطعة واحدة.

إعلان

لقد كمن الجنود الإسرائيليون لفترة في مبنى مهجور قريب كان مخصصا للواء "أهل العزم"، يبعد 150 مترا عن موقع الاشتباك.

"وجدنا بقايا طعام ومعلبات وأعقاب ذخائر ولفافات من الأسلاك الشائكة تركتها قوات العدوان الإسرائيلية بعد انسحابها من المنطقة"، قال لي إسماعيل أبو خشريف.

كان التقدم الإسرائيلي قادما من الغرب، من جهة القنيطرة التي اعتاد الإسرائيليون اقتحامها بدوريات عسكرية منذ سقوط النظام، بحثا عن الأسلحة وتقديم المساعدات للقرى.

"مؤخرا جمع أهل القنيطرة المساعدات الإسرائيلية وقاموا بإحراقها، في رسالة رفض لتطبيع العلاقات مع الجيش الإسرائيلي"، يقول أبو خشريف.

احتلت إسرائيل القنيطرة في حرب 1967، ثم استعادت سوريا معظمها في حرب 1973، لكنه كان استردادا منقوصا، إذ بقيت منطقة منزوعة السلاح بموجب اتفاقية عقدت عام 1974.

بعد سقوط النظام، احتلت إسرائيل 235 كيلومترا من جنوب سوريا على شكل قمع بطول 80 كيلومترا، يضيق جنوبا حيث يبدأ عرضه بـ200 متر، وينتهي بعرض 10 كيلومترات.

من بقايا ملابس الشهداء (الجزيرة)

تركز القصف الإسرائيلي مطلع الشهر الماضي على تل الجموع المشرف على المنطقة، والذي يمكن أن يكون نقطة لتأمين السهل المحيط به.

"لقد قصفوه بـ40 قذيفة"، يقول أبو عبادة. ولتل الجموع ذاكرة تاريخية عظيمة عند أهل المنطقة، فعند هذا التل جمع خالد بن الوليد جيوش المسلمين قبل معركة اليرموك (15 للهجرة/636 للميلاد) التي وقعت على هذه الأراضي، وانكسر بعدها الوجود الرومي في الشام، واستولى المسلمون على مدن دمشق والقدس وحمص تباعا، وتراجعت الإمبراطورية البيزنطية إلى أقصى الشمال السوري عند الحدود التركية.

تشييع شهداء نوى (الجزيرة) حوران بوابة دمشق

منذ فجر التاريخ، كان طريق الجيوش إلى دمشق والقدس يمرّ عبر حوران. منها عبر الفرس حين استولوا على الشام والقدس من الإمبراطورية البيزنطية في القرن السابع الميلادي، ومن هنا مرّ المسلمون في فتوح بلاد الشام.

إعلان

فحوران بوابة دمشق، فهي تمثل الدرع الأول للعاصمة السورية بفضل موقعها الجغرافي الحيوي، الذي يجعلها خطا دفاعيا أماميا ضد أي تهديدات قادمة من الجنوب، حيث تشكل حاجزا طبيعيا يحمي العاصمة من الهجمات البرية. وهي شريان إمداد للعمق العربي، لكونها ممرا رئيسيا يربط دمشق بالمملكة الأردنية ودول الخليج عبر شبكة طرق حيوية. كما أنها نقطة مراقبة إستراتيجية، إذ توفر مرتفعاتها مواقع متقدمة لرصد التحركات العسكرية في جنوب سوريا وهضبة الجولان.

تسعى دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى بسط نفوذها على حوران بالسيطرة على تلالها ومرتفعاتها، ومنع أي وجود عسكري أو وجود حالة مسلحة بين سكانها، وتعمل بجد لتحقيق هذين الهدفين.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات أبعاد جبل الشیخ أبو بسام عبد الله

إقرأ أيضاً:

سوريا الجديدة تقرع أبواب الغرب.. هل تنجح استراتيجية الشرع؟

انخرطت دمشق على مدى الأشهر الماضية في حراك دبلوماسي مكثف بهدف مد جسور التواصل مع المجتمع الدولي من جديد، مركزة على تقديم سوريا جديدة غنية بالفرص إلى الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، وهو ما تجسد في زيارة الرئيس أحمد الشرع الأولى إلى أوروبا.

وتحمل دمشق، التي تعاني من إرث الأسد المخلوع من العقوبات الدولية، معها إلى الغرب عددا من الفرص من بينها سوريا صديقة في الشرق الأوسط ومجالا استثماريا واعدا في بلد يحتاج لإعادة الإعمار وإنعاش اقتصاده المنهك، حسب مراقبين تحدثوا لـ"عربي21".

على وقع ذلك، أجرى الشرع رفقة وفد رسمي زيارته الأولى إلى القارة الأوروبية من خلال البوابة الفرنسية، التي شرعت أبوابها أمام حاكم دمشق الجديد.

والتقى الشرع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون وأجرى الزعيمان مؤتمرا صحفيا في قصر الإليزيه، شدد فيه الرئيس السوري على ضرورة رفع العقوبات الغربية عن بلاده بعدما زالت مسبباتها بزوال نظام الأسد.

كما لوح الشرع بما قدمته الثورة السورية إلى الغرب من خلال الإطاحة بنظام الأسد الذي حول البلاد على مدى عقد ونصف من الزمان إلى بؤرة لتصدير الأزمات، قائلا "أنقذنا المنطقة بأسرها من إرهاب محتم كان يجثم على صدور السوريين وعلى صدور المنطقة، وأثر الإرهاب الذي كان يمارسه النظام في سوريا كان يصل إلى أوروبا".

من جهته، بدا ماكرون الذي وقف إلى جانب الشرع في المؤتمر الصحفي على وفاق مع الطرح السوري بشأن ضرورة التعاون الغربي مع سوريا الجديدة من خلال رفع العقوبات.

وأوضح الرئيس الفرنسي أن بلاده ستعمل على رفع تدريجي لعقوبات الاتحاد الأوروبي عن سوريا، موضحة أن باريس ستضغط أيضا على الولايات المتحدة لاتباع هذا المسار كذلك.


ويرى مدير قسم التحليل السياسي في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، سمير العبد الله، أن زيارة الشرع إلى فرنسا "مهمة في السياق الذي تعيشه سوريا، ليس فقط لكونها أول زيارة إلى دولة غربية بعد سقوط النظام السابق، بل كخطوة رمزية واستراتيجية خلال مرحلة انتقالية حساسة".

ويوضح العبد الله في حديثه لـ"عربي21"، أن "القيادة الجديدة تتحمل مسؤولية إعادة بناء علاقات سوريا الدولية، ورأب العزلة والتشرذم العميقين اللذين أفرزتهما سنوات الحرب والاستبداد والتهميش".

وبحسب الباحث، فإن هذه الزيارة "حملت ثقلا سياسيا ورمزيا قويا"، ودلت على "رغبة واضحة، لا سيما من أوروبا، في الانخراط مع الواقع الجديد في دمشق، وإتاحة الفرصة للقيادة الانتقالية لإظهار جديتها في بناء مسار سياسي تعددي وشامل ومنفتح، مشروط بإصلاحات حقيقية واستعادة الثقة الداخلية والخارجية".

وكانت زيارة الشرع الأولى إلى أوروبا نتيجة سلسلة من التواصلات الحثيثة التي قادتها دمشق، حيث استقبل قصر الشعب بالعاصمة السورية العديد من الوفود الغربية رفيعة المستوى منذ سقوط نظام الأسد أواخر العام الماضي.

كما اضطلع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بمهمة جسر الفجوات مع الغرب عبر سلسلة من الجولات المكوكية التي حطت عبرها رحاله في دول فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا بالإضافة إلى الولايات المتحدة.

ومنذ سقوط الأسد، بدا أن دمشق تسعى إلى رسم خارطة تحالفات وعلاقات دولية مغايرة لما كان عليه الوضع على عهد النظام المخلوع الذي اتخذ من دول معادية للغرب مثل روسيا وإيران حلفاء رئيسيين له.

وقد بدأ الشرع من خلال الزيارة الفرنسية بقطف ثمار جهود إدارته الدبلوماسية الرامية إلى تقديمه كزعيم جديد لسوريا، حسب الباحث السياسي محمود علوش.

وأوضح علوش في حديثه مع "عربي21"، أن الزيارة إلى باريس كشفت عن "اندفاعة فرنسية قوية في التعامل مع الرئيس الشرع، خاصة وأن فرنسا دولة صانعة قرار داخل الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن موقفها سيكون مؤثرًا في صياغة السياسة الأوروبية تجاه سوريا".

وشدد على أن "هناك هامشا واسعا من الدبلوماسية أمام الرئيس الشرع للتفاعل مع المجتمع الدولي"، لافتا إلى أن دمشق "تدرك الحاجة إلى إقامة علاقات جيدة مع الدول الغربية، ليس فقط من أجل تجاوز معضلة العقوبات، بل أيضا لمعالجة التحديات الكبرى، وعلى رأسها التحدي الإسرائيلي".

هوية جيوسياسية جديدة
يعمل الشرع على مد جسور التواصل مع الولايات المتحدة بشكل رئيسي من أجل تمهيد الطريق أمام رفع العقوبات المفروضة على دمشق، كما يأمل أن تؤدي مثل هذه الخطوة إلى لجم جماح الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، والتي بلغت ذروتها قبل أيام باستهداف محيط القصر الرئاسي.

وكشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" نقلا عن مصادرها، عن سعي الرئيس السوري إلى لقاء نظيره الأمريكي دونالد ترامب خلال جولة الأخير المرتقبة إلى المنطقة، من أجل مشاركة رؤيته لإعادة الإعمار على غرار خطة مارشال.

وأوضحت الصحيفة أن خطة الشرع تضمن تفوق الشركات الغربية والأمريكية على نظرائها في الصين، كما لفتت إلى أن الشرع أبدى استعدادا لإبرام اتفاقات تسمح للشركات الأمريكية بإجراء عمليات تجارية في مجالي النفط والغاز.

ويرى علوش أن الإدارة السورية الجديدة تدرك أهمية انخراط الغرب في إعادة إعمار سوريا، مبينا أن سوريا الجديدة ليست جديدة فقط داخليًا، بل على مستوى الهوية الجيوسياسية كذلك.


وبحسب الباحث، فإن الرئيس الشرع يسعى إلى تذكير الغرب بأن التحول الحاصل في البلاد يشكل فرصة كبرى، وأن سوريا يمكن أن تصبح حليفا وصديقا للولايات المتحدة والغرب في الشرق الأوسط.

من جهته، يرى العبد الله كذلك أن القيادة الانتقالية "تبدو عازمة على تبني سياسة خارجية مختلفة عن سياسة سوريا ما قبل عام 2024، ويشمل ذلك تقليل الاعتماد على التحالفات الجيوسياسية الضيقة، وفتح قنوات متنوعة للتواصل مع الجهات الفاعلة الرئيسية، بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة".

وكانت تقارير أشارت إلى أن سياسية إدارة ترامب تجاه سوريا لا تزال قيد المعالجة، بينما تسعى العديد من دول المنطقة من بينها تركيا والسعودية إلى الضغط على واشنطن من أجل معالجة ملف العقوبات الضاغط على دمشق.

وقبل أيام، كشفت وكالة رويترز عن سماح واشنطن للدوحة بتمويل رواتب القطاع العام في سوريا، بما يمنح دمشق القدرة المالية لدعم مساعيها الرامية لإعادة بناء الدولة.

ونقلت الوكالة عن ثلاثة مصادر أن التمويل القطري سيسمح بزيادة الرواتب تدريجيا بنسبة تصل إلى أربع مئة بالمئة، في حين أوضح مصدر سوري أن المبادرة القطرية تشمل الموظفين المدنيين فقط دون وزارتي الداخلية والدفاع.

ويرجح علوش أن تقدم الولايات المتحدة في المرحلة القادمة مزيدا من المبادرات المحدودة على غرار مبادرة التمويل القطري، بما يسمح للشركاء العرب بتمويل مشاريع استثمارية داخل سوريا، مشددا على أن "كل ما يتعلق بإعادة الإعمار مرهون بالعقوبات الأمريكية".

ويبين العبد الله بدوره أن دمشق الجديدة "تقدم نفسها كشريك محتمل في جهود إعادة الإعمار، مُشيرة إلى نواياها في الانفتاح الاقتصادي وتنفيذ إصلاحات تدريجية في هيكل السوق ومناخ الاستثمار - تحت إشراف دولي لضمان الشفافية".

التحدي الإسرائيلي
تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهتها التصعيد ضد سوريا منذ سقوط نظام الأسد، وهو ما يضع دمشق تحت تحديات ضاغطة في المرحلة الانتقالية.

وبعد أيام من بلوغ التصعيد الإسرائيلي ذروته عبر استهداف محيط القصر الرئاسي بدمشق، كشف الشرع خلال زيارته باريس عن إجراء بلاده مباحثات غير مباشرة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وقال الرئيس السوري إن المباحثات مع إسرائيل تهدف إلى "تهدئة الأوضاع وعدم فقدان السيطرة"، مشددا على أن "تصرفات إسرائيل عشوائية، وعليها التوقف عن التدخل في الشأن السوري".

وكانت مصادر رويترز كشفت أن الإمارات فتحت قناة اتصال بين الجانبين تقتصر فقط على القضايا الأمنية وملفات مكافحة الإرهاب، نافية أن تكون المسائل العسكرية أو الأنشطة الإسرائيلية في سوريا ضمن نطاق النقاش الحالي.


ويرى علوش أن  "الهدف الأساسي من هذه القنوات هو التعامل مع التهديد الخطير الذي تمثله إسرائيل في هذه المرحلة"، معتبرا أن هذا التواصل "يعزز من هوامش الدبلوماسية لإنتاج حلول لهذا التحدي، وقد يمهّد لاحقا لسياق سوري-إسرائيلي أوسع".

وأشار الباحث إلى أن "العلاقة غير المضطربة مع إسرائيل تعد بوابة لعلاقات جيدة بين دمشق والغرب، وهذا ما يدركه الرئيس الشرع جيدا".

بينما يرى العبد الله أن الاتصال غير المباشر مع الاحتلال الإسرائيلي يأتي "في إطار تحول براغماتي يقر بالديناميكيات الإقليمية المعقدة"، لافتا إلى أن “التوصل إلى اتفاق رسمي يبدو بعيد المنال".

لكن حتى الاتصالات الأولية بين الجانبين تشير إلى استعداد جديد لتجاوز الأعمال العدائية المتجذرة والسعي إلى تفاهمات أوسع نطاقا تخدم مصالح سوريا الإقليمية والأمنية، حسب العبد الله.

مقالات مشابهة

  • أنقرة تعلن استضافة اجتماع ثلاثي مع سوريا والأردن يؤكد دعم الحكومة السورية
  • زيارة رئيس الجمهورية العربية السورية السيد أحمد الشرع إلى مملكة البحرين الشقيقة
  • سوريا تحبط عملية تهريب أسلحة عبر الحدود إلى لبنان (شاهد)
  • الشرطة السورية تنتشر على مدخل السويداء تنفيذا للاتفاق مع الحكومة
  • وداع رئيس الجمهورية العربية السورية السيد أحمد الشرع من قبل جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين
  • سوريا الجديدة تقرع أبواب الغرب.. هل تنجح استراتيجية الشرع؟
  • الجبهة الشعبية: سياسة الاغتيالات الجبانة ستكون دافعًا لتصعيد الاشتباك المفتوح مع الاحتلال
  • اتفاق بين دمشق وأنقرة على نقل الغاز الطبيعي إلى سوريا
  • ما العمل لمواجهة صلف إسرائيل تجاه سوريا؟
  • محافظ اللاذقية يبحث مع نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السورية لتعزيز السلم الأهلي