✍️ محمد هاشم محمد الحسن
7 مايو 2025.
في قلب الصراع السوداني المتصاعد، يطل علينا مشهد عبثي ومفجع، ألسنة اللهب الشريرة تلتهم مستودعات النفط الحيوية في بورتسودان والأبيض. ليس مجرد حريق، بل هو فعل تدميري ممنهج يهدف إلى خنق آخر خيوط الأمل في هذا الوطن المنكوب. إنها ضربة قاصمة توجه إلى عصب الحياة، إلى الشريان الذي يغذي اقتصادًا هشًا بالكاد يتنفس، ويهدد بتحويل حياة الملايين إلى كابوس يومي لا ينتهي.
تلك النيران لم تحرق براميل الوقود فحسب، لقد أحرقت معها احتمالات ضئيلة للاستقرار، وأحلامًا بسيطة في تأمين لقمة العيش. فالنفط هنا ليس مجرد سلعة إنه الدم الذي يجري في عروق قطاعات النقل والزراعة والصناعة، إنه الطاقة التي تدير المستشفيات وتضيء العتمة، إنه الماء الذي يروي الظمأ بفضل المضخات التي تعمل به. وبغيابه أو ندرته القاتلة، يصبح شبح الشلل التام واقعًا مريرًا يلوح في الأفق.
تخيل مدنًا صامتة، شوارع خالية إلا من أصداء الجوع والخوف. تخيل مرضى يتأوهون في الظلام، وعمالًا عاطلين يتجرعون مرارة الفقر. تخيل حقولًا قاحلة، وأطفالًا بعيون زائغة يبحثون عن كسرة خبز. هذه ليست مجرد صور قاتمة، بل هي الملامح الأولية لكارثة إنسانية واقتصادية تتشكل بفعل هذا الحريق الأسود.
إن أولى بشائر هذا الخراب ستكون ندرة حادة في الوقود، وجحيم أسعار يحرق جيوب المواطنين المنهكة. سيصبح الحصول على قطرة بنزين معركة يومية، ورحلة شاقة محفوفة بالمخاطر. وستتوقف الحافلات التي تقل الناس إلى أعمالهم، وسيارات الإسعاف التي تنقل المرضى إلى المستشفيات، وستعجز منظمات الإغاثة عن إيصال المساعدات إلى المنكوبين.
أما الكارثة الأكبر فتكمن في تهديد الأمن الغذائي. فالزراعة، عصب الاقتصاد السوداني ومصدر غذاء شعبه، تعتمد بشكل حيوي على الوقود لتشغيل الآلات ومضخات الري. وتدمير هذه الإمدادات يعني ببساطة فشل الموسم الزراعي، ونقصًا كارثيًا في الغذاء، وارتفاعًا جنونيًا في الأسعار يحيل حتى أبسط المواد الغذائية إلى حلم بعيد المنال. شبح المجاعة سيخيم بثقله على البلاد، ليضيف إلى ويلات الحرب جرحًا آخر لا يندمل بسهولة.
ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد. فارتفاع تكلفة النقل، كنتيجة حتمية لندرة الوقود أو غلاءه، سينعكس كالنار في الهشيم على أسعار جميع السلع والخدمات. سترتفع أسعار الدواء، وسيصبح الحصول على مياه الشرب النظيفة رفاهية، وستتحول أبسط الاحتياجات اليومية إلى كابوس يؤرق الأسر السودانية. وقد يتجاوز الأمر مجرد الغلاء ليتحول إلى ندرة حقيقية، حيث تختفي السلع من الأسواق تمامًا.
والأخطر من كل ذلك، هو التحدي الهائل الذي سيواجه أي محاولة لإصلاح الأضرار أو بناء مستودعات جديدة في ظل هذا اللهيب المستعر من الصراع وعدم الاستقرار. من سيجرؤ على الاستثمار في أرض مهددة بالاحتراق مجددًا؟ هذا يعني أن السودان قد يواجه أزمة وقود طويلة الأمد، جرحًا غائرًا في خاصرة أي محاولة للتعافي الاقتصادي والاجتماعي حتى بعد انتهاء الحرب.
إن تدمير مستودعات النفط في هذا التوقيت الحرج ليس مجرد خسارة مادية، بل هو جريمة مكتملة الأركان ترتكب بحق الشعب السوداني. إنه عمل عبثي يزيد من حجم المعاناة، ويقوض أي فرصة للسلام، ويدفع البلاد نحو الهاوية.
فلينتفض كل سوداني حر، رافضًا أن يكون وقودًا لهذه الحرب اللعينة. لنجعل من شعار (لا للحرب) قوة موحدة، عصية على الانكسار، تنتزع الشرعية من دعاة القتال، وتُرغمهم على إسكات البنادق والجلوس إلى طاولة المفاوضات. وحده صوت الشعب المتحد قادر على إخماد هذا اللهيب الأسود، وعلى بناء سودان جديد ينعم بالسلام والازدهار. فلنجعل من هذه المحنة نقطة تحول، نعلن فيها بصوت واحد كفى للحرب، نعم للحياة.
herin20232023@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
السودان: خيارا الإفناء الذاتي والإقليمي
(1)
تتزايد تعقيدات المشهد السوداني يوماً بعد يوم، فيما تتوغّل الحربُ الكارثية إلى عامها الثالـث، ويتواصل النزيف الذي سبّبته تلـك الحـرب ويتواصل قتل الأبرياء من أبناء الشعب السوداني بلا أفق يوقف تلك الحرب. كلّ يومٍ يمرّ على تلك الكارثة التي تجري فصولها داخل السودان، لا يخفى على المتابعين رصد امتداداتها خارج السودان، بما يخرج تصنيف هذه الحرب الكارثية من كونها حرباً أهلـية، إلى صيرورتها حرباً إقليمية بامتياز، بسبب تدخّلات وتقاطع لأجندات ومصالح لأطرافٍ تقع وراء حدود السودان الجغرافية المعلومة. إنّ التحولات التي طرأت على طبيعة الحروبات في سنوات الألفية الثالثة، تجاوزت ما شاع في سنوات القرن العشرين ممّا وقع من حروب بالوكالة، أو حتى عبر تجنيد مرتزقة أو جواسيس. تلك أمور لم تعد لها صلاحية في السنوات الماثلة، سنوات الثورة الرقمية واتساع رقعة الشفافية المعلوماتية، وانكشاف بقاع العالم على بعضها البعض بحيثيات افتراضية كاسحة.
تلك تطورات أدخلت العالم إلى مرحلة تجاوزت عبرها المعطيات التقليدية التي ظلتْ سائدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م، بقصد كبح جماح الصراعات التي قد تنشب بين أطراف المجتمع الدولي، وفق التعريف الذي بدأ يتهاوى في سنوات الألفية الثالثة.
(2)
إنّ نظرة واحدة لمجمل الصراعات التي تحوّلتْ إلى حروبٍ طاحنةٍ، مثل ما وقع بين روسيا وأوكرانيا، أو بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، أو الحرب الدائرة في السودان بين أطرافه الداخلية بامتداداتها الخارجية، تقنع أيَّ متابعٍ أنَّ ما توافق عليه المجتمع الدولي من مبادئ لحفظ السلم والأمن الدوليين ، بات هرطقة لغوية لا علاقة لها بالواقع الماثل. إنّ جميع هيئات ومنظمات المجتمع الدولي، باتت محض ظواهر صوتية، تجعجع دون طحن، وتولول لموت قتيل ولا تملك أن تعاقب قاتله.
لم يلتفت رئيس إسرائيلي إلى أيّ طرف دولي أو غير دولي، ليدير ما يشبه حرب إبادةٍ جماعية لشعب فاسطيني أعزل، يذبح وتدمر مدنه وقراه ويُجبر على الخـروج
إلى دياسبورا. كأنّ زعماء الدولة الصهيونية ينتقمون من عرب فلسطين ويذيقونهم ما ناله اليهود عبر تاريخهم في الشتات الطويل. إنهم يصنعون دياسبورا عربية، مستغلين عجز المجتمع الدولي عن ردعهم، ومتكئين على سيطرتهم بطريق غير مباشر على أطراف دولية نافذة ارتهنت إرادتها لهم.
(3)
ثمَّ نرى تصاعد الاشتباكات بين روسيا وأوكرانيا، حربا يقف العالم أمامها على أطراف أصابعه إن تواصلت تعقيدات تلك الحرب لتكون حربا نووية تأخذ العالم إلى إفناءٍ متبادل. تراجعت تلك الحرب بفراسخ بعيدة عن المجتمع الدولي، لتعزِّز عجز منظماتها عن التذكير بقيم ومبادئ حفظ السّلم والأمن الدوليين. هكذا بقيتْ الأمم المتحدة غير مأسوفٍ عليها، ظاهرة لسانية مبحوحة الصوت.
أمّا الحرب الدائرة في السودان فقد ظلت - على تنافس أطرافها -وبعضهم قبِلَ أن يكون وكيلا عن أطراف خارجية- في تدمير ثاني أكبر دولة مساحة وموارد وسكانا- شأناً منسياً، وتعجز حتى المنظمة الأممية عن لجم الاشتباكات فيها، وهي دولة من دول العالم الثالث الهشّة. إن التصعيد الماثل في حرب السودان وفي مشهد من مشاهد الحروب التي تدار اشتباكاتها بأسلحة الجيل الجديد الافتراضية، من طائرات بطيّارٍ أو بدون طيار، أو مسيّرات انتحارية أو مسيًرات ذكية تدمِّر وتهرب، يتجاوز تصنيفها محض حربٍ أهلية داخلية، لأن تكون حرباً إقليمية افتراضية، تتقاطع في فضائها مصالحُ بلدانٍ في الاقليم، وربما خارج الإقليم. إن الاشتباكات والضربات الموجعة في الحرب السودانية، من أطراف يصعب رصدها، قد تفتح بابا لشكوك حول استهداف على البعد يأتي من جهات وراء حدود السودان.
(4)
لعلّ الأخطر في مشهد السودان الماثل، هو إصرار الأطراف المتقاتلة على تواصل الاشتباكات بدعم من أطراف خارجية خفية، بما قد يفضي إلى تصعيد تسفر فيها تلك الأطراف بصورة جلية. إن اقدام السلطات العسكرية في السودان، خاصة بعد تعمد استهدافها في مقرها في العاصمة المؤقتة، للإعلان عن موافقتها على استضافة قاعدة عسكرية روسية في السواحل السودانية للبحر الأحمر، سيفتح باباً لتدويل عسكري لكامل الدول المشاطئة لذلك البحر. إن التصعيد الذي يجري الآن في معاقبة الحوثيين في اليمن، بمشاركة إسرائيل والولايات المتحدة، يجعل من احتمالات جعل ذلك الإقليم ساحة لمواجهات إقليمية ودولية أيضا.
يبقى على السلطات العسكرية في السودان أن تتحسب لتلك التطورات، وإلا ستكون طرفا في مواجهات عسكرية ذات أبعاد إقليمية وربما دولية، لن يكتب بعدها للسودان إلّا الفناء.
العربي الجديد اللندنية
القاهرة – 6 مايو 2025