في الصراع العربي الإسرائيلي، الذي قارب سنته الثمانين، اجتهد العرب في إطلاق الأسماء على كل هزيمة يتكبّدونها أمام عصابة صهيونية لا تاريخ لها ولا جغرافيا، وما أكثرها الهزائم، بين “نكبة” و”نكسة”… وفي كل شهر ماي يفضّل بعض العرب، استخراج الأرشيف الملوّن بالأبيض والأسود، وتلاوة وعد بلفور الذي يطلقون عليه وصف “المشؤوم”، ويبكون على أطلال الذكرى المسماة “النكبة”، التي ولّدت نكبات، حتى كادت تتحوّل إلى صفة نتوارثها بقوة الكروموسومات.
العرب الذين أعلنوا الهدنة المزمنة مع الكيان حتى لو دخل بيوتهم وذبحهم من الوريد إلى الوريد، فآخر حرب لهم مع هذا الذي أذاقهم الشؤم والنكبة والنكسة تعود إلى سنة 1973، أي منذ أكثر من نصف قرن، عندما كانوا يجتمعون بجيوشهم طلبا لتحرير هذه الأرض أو تلك، من الأجدر لهم أن يدفنوا الماضي، ما داموا قد رهنوا الحاضر والمستقبل، وكبّلوا جيوشهم، وما عادوا قادرين حتى على أضعف الإيمان، من تنديد وتحذير.
لقد حمل المشعل الذي كان أصلا خامدا، طائفة من المؤمنين، ذهبوا وربّهم للقتال وتركوا أمة بأكثر من مليار نسمة ها هنا قاعدة، عفوا نائمة ومغيّبة عن الحياة وعن الكرامة، لا يبدو عليها أي حرج، ومنها من فضّل أن يختار الجهة المعادية، في نكبة تطبيع وخيانة ونكبة انبطاح واستسلام ونكبة صمت رهيب.
من المؤلم أن يحتفل الكيان بيوم قيامه وتأسيسه لدولته الطاغية، ويتلقى التهاني من رؤساء، بعضهم أكبر من الكيان سنًّا، ومن المؤسف أن يتلقى الكيان تبريكات كيانات أخرى محسوبة على العرب وعلى المسلمين، ومن الموجع أن تكون اليد المحتفلة ملطخة بالدماء، في أحقر احتفال يقوم به كيانٌ في تاريخ البشرية، وفي “أنكب” صمت تصاب به أمة وتتوجع، على وجه الأرض.
في الحروب الكلاسيكية العربية الإسرائيلية السابقة من سنة 1948 إلى سنة 1973، مرورا بسنوات الاستنزاف، كانت انتصارات العدو تتحقق ببعض الحيلة والدعم الفرنسي والبريطاني، والغطاء الجوي الأمريكي، وبكثير من التردّد العربي ونقص الثقة بالنفس، لكن الانتصارات الأخيرة ما كانت لتتحقق لولا هذا الهوان والخيانة وخاصة الصمت الذي تجاوز النكبة بمراحل.
في تاريخ كل الشعوب نكباتٌ ونكسات وعهود شؤم ومجازر، بل إن النكبة هي التي تلد الثورة، والعُسر يُتبع باليُسر، ولكن في نكبة فلسطين تبدو النكبات، تلد نكباتٍ أصعب وأخطر، حتى صارت تشبه القدر المحتوم.
كنا نظنّ مع تعدّد النكبات والنكسات، بأننا في امتحان ومحنة ستزول مع الأيام والسنوات، وكنا نقول دائما إن الحرب دواليك يوم لنا والآخر لغيرنا، ونُصبّر أنفسنا بأن الفرج قريب، ولكن في هذا الزمن الذي لا نرى فيه وميضا، لا يبدو في الأفق أي أمل، ولو طفيف لفجر قريب. والذي لم يغتنم رياح “طوفان الأقصى”، لا يمكن أن يحركه أي طوفان آخر، مادام قد “نُكب” بنكبة الصمت.
(الشروق الجزائرية)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه النكبة فلسطين فلسطين الاحتلال النكبة مقالات مقالات مقالات سياسة رياضة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
انتصار إيران كشف هشاشة الكيان
في مشهد يعيد رسم معادلات القوة في المنطقة، خرجت الجمهورية الإسلامية الإيرانية من 12 يومًا من العدوان الصهيوني الأمريكي أكثر تماسكًا وصلابة بينما خرجت إسرائيل تجر أذيال الهزيمة والانكسار على كل المستويات. حرب الأيام القليلة كانت كاشفة لاختلالات الكيان وأوهامه ومانحة لطهران فرصة ذهبية لتعزيز قدراتها وفضح أعدائها.
لم يعرف تاريخ كيان إسرائيل سلسلة نكسات بهذا العمق كما شهدها خلال الأيام الاثنى عشر الماضية. فمنذ الضربة الأولى للعدوان انكشفت هشاشة الجبهة الداخلية الصهيونية وتوالت الإخفاقات على المستوى العسكري والاستخباراتي والسياسي، حتى بات الكيان في أسوأ حالاته المحلية والإقليمية والدولية.
ورغم ما حُشد من قدرات عسكرية واستخباراتية عجزت أمريكا والكيان الصهيوني عن تحقيق أحد أبرز أهداف العدوان: تدمير البرنامج النووي الإيراني. فالمواقع الحيوية بقيت آمنة والمنشآت الاستراتيجية لم تُمس مما يشكل هزيمة صريحة للمخطط الغربي الصهيوني الذي طالما روّج لإمكانية توجيه ضربة قاصمة لطهران.
لم يفلح العدوان في تحييد القوة الصاروخية الإيرانية بل على العكس كانت هذه القوة في قلب المعركة توجه موجات من الضربات النوعية وتختبر أنظمة جديدة بفعالية ميدانية. سلاح الجو الفضائي الإيراني أثبت جاهزيته وابتكاريته ليؤكد أن زمن احتكار السماء قد ولى.
وبالتالي العدو راهن على الداخل الإيراني لكن حساباته سقطت سريعًا. فبدل أن ينجح في زعزعة الأمن انكشفت مئات شبكات التجسس وتم ضربها بفعالية. كانت هذه الصفعة الاستخباراتية مؤلمة وكاشفة لمدى توغل العدو في أساليب الحرب غير المعلنة لكنها شهادة على يقظة الأجهزة الإيرانية وتطورها النوعي.
وبالمجمل.. النتيجة النهائية لهذا العدوان كانت واضحة: إيران تخرج أكثر صلابة من أي وقت مضى على المستوى الشعبي والسياسي والعسكري، بينما كيان إسرائيل غارق في أزماتها منقسم داخلياً ومعزول خارجياً بعد أن فشل في تحقيق أي من أهدافه.
لم تكن الحرب مجرد مواجهة عسكرية بل كانت صراعاً على الوعي. وقد خرج الإيرانيون أكثر إدراكاً لخطورة العدو وأكثر التفافًا حول قيادتهم. لقد تكشّف وجه العدو الحقيقي، وانكسر قناع الردع الصهيوني وسقط وهم القدرة الأمريكية على الحسم.
لقد كانت تجربة العدوان الأخيرة على إيران منعطفاً استراتيجياً بالغ الأهمية أكدت من خلاله طهران قدرتها على الصمود والتصعيد والجهاد والقتال وأثبتت أن زمن الهيمنة العسكرية والسياسية لأمريكا وإسرائيل في المنطقة قد انتهى.