يُعّرَفُ عمّن يمارس النفاق على أنه يظهر للآخرين ما لا يخفـيه فـي نفسه. وبهذا المعنى فإن العلاقة بين الإنسان ونفسه علاقة لا يشوبها كدر، أو غبار، فكلا الطرفـين يواجهان بعضهما بعضا بحقيقة ما يبديانه، وما يخفـيانه؛ ولذا فمن المستحيل أن يخدع كلاهما الآخر، وتبقى حالة من المخادعة الظاهرية هي بينهما، وبين الآخرين من حولهما.
ولذلك يعيش الإنسان صراعا ذاتيا قاسيا مع نفسه فـي المواقف التي لا يكون صادقا فـيها، وإن أبدى المرح والسرور مع الآخر. ومن هنا فإن مشاعر القسوة لا يمكن التحايل عليها؛ حيث تتجلى قيمة الصدق فـيها أكثر، فلا خيار متاح فـي تلك اللحظة إلا تجرع الألم بكل حمولته القاسية، بخلاف مشاعر السرور التي قد يناور فـيها الفرد الآخرين، ويبدي عكس ما يضمره كنوع من المجاملة؛ ولذلك قال شاعر العربية الكبير أبو الطيب المتنبي: «لا تحسبوا رقصي بينكم طربا ... فالطير يرقص مذبوحا من الألم».
ومع ذلك فالناس مدمنون على إظهار السرور- كما يشاع -، وإن أظهروا ذلك السرور بتكلف فـي كثير من الأحيان؛ ولذلك تصنف الابتسامات المتكلف فـي إبدائها للآخرين على أنها «ابتسامات صفراء». وهذا التصنيف لم يأت من فراغ، وإنما يأتي عن تقييم حقيقي، فالآخرون - وإن حاول الفرد أن يخدعهم بابتسامة صفراء، أو بوصف مبالغ ليس فـيهم - فهم يدركون حقيقة الأمر، وإن أبدوا مجاملة لفظية. ففي قرارة أنفسهم يدركون حقيقة الطرف الآخر، وما يبديه من تكلف وتصنع؛ ولذلك سريعا ما تنكشف مثل هذه المراوغات، ويقع أصحابها فـي حرج شديد، ويظل تدارك الموقف ليس بالأمر الهين، وعادة ما يحدث مثل ذلك فـي المواقف التي يراد منها تحقيق غاية معينة، وهذه من أشدها خطورة فـي العلاقات القائمة بين الأفراد.
والسؤال هنا: كيف يجازف الفرد بحمولته الإنسانية، فـيبدي للآخرين عكس ما يختلج بين جوانحه؟ كيف يستطيع أن يخاتل نفسه فـي لحظة فارقة فـينفرد بقرار مخادعتها، وهو يدرك أنه غير صادق وغير أمين فـي تلك اللحظة؟ هذه من اللحظات التي يغتال الإنسان فـيها نفسه، وبالتالي فمع استطاعته اغتيال نفسه؛ كيف لا يستطيع أن يغتال من حوله، ولو كان هذا الاغتيال لأقرب الناس إليه! إنها من الحالات التي يمتحن الإنسان ذاته فـيها، وهذا الأمر ليس متاحا للجميع؛ حيث يحتاج إلى كثير من الخبرة والتجربة.
تشدنا بعض المواقف التي نرى فـيها ذلك الصراع المتوهج - ونصفه بالخطير- بين الحيوانات المفترسة، سواء بينها وبين الحيوانات المختلفة عنها، أو بينها وبين بني جلدتها، وهو صراع مادي صرف، تحسم نتيجته قوة الطرف على الطرف الآخر؛ لأن الحيوانات لا تعرف خداع بعضها بعضا، وإنما تبقى القوة هي الحاسمة لنتيجة الصراع القائم بين الطرفـين، بخلاف حقيقة الصراعات التي تدور بين بني البشر بعضهم ببعض؛ حيث لا تظهر الحالة الفـيزيائية الصرفة فـي هذا الصراع، وإنما يسود ذلك الصراع الباطني المبني على الخداع، والتضليل، مع قناعة كل طرف أنه يمارس فعلا شائنا لا يرتضيه مع نفسه، ويرتضيه مع الآخر من حوله؛ لتحقيق غاية ما.
ففـي الصراع الإنساني لا يتوقف الأمر على القوة المادية لكسب الرهان؛ حيث تميل جل الصراعات القائمة بين بني البشر إلى اختيار القوى الناعمة، وما أكثرها! ولكن أشدها خطرا تلك القوة التي يخادع فـيها الإنسان نفسه فـي لحظة ما، مع يقينه أنه يقع فـي مغالطة شعورية كبيرة، وذلك عكس ما ينادي به أبو الفتح السبتي:
« أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ».
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
كأس العرب ... وكأسك يا وطن!
لم نعد في حاجة لإهدار المزيد من الوقت في الحديث عن أسباب"فشل" لاعبي منتخب مصر في منافسات كأس العرب الأخيرة، فالمعركة الكلامية، وتوجيه اللكمات اللفظية لهذا أو لذاك، ليست سوى طلقات فارغة لا تفيد ، فالهزيمة وقعت، وليس لها من دون الله كاشفة.
ولكن المهم الآن وما يجب أن نتوقف عنده كثيرا، هو أن ندرك حقيقة الفكر الذي قادنا إلى الهزيمة .
والهزيمة لا تقع مع إطلاق صافرة نهاية المباراة، بل تبدأ قبل ذلك بزمن طويل، تبدأ من عقول المسئولين، ومن مكاتب بعيدة عن الملاعب، فتهزم الفريق قبل أن يدخل أرض الملعب!
و نكسة كأس العرب لم تكن مجرد نكسة رياضية فحسب، بل كان شاشة عاكسة ومرآة صادقة كشفت عن خلل خطير يضرب صميم بنية الجهاز الإداري نفسه!
في الماضي، كنا نُرجع هزائم كرة القدم لأسباب فنية: سوء حظ، أو نقص لياقة، أو تكتيك خاطئ، أو استهانة بالمنافس...
في الماضي أيضا كنا نسمى الهزائم" نكسة" أو حتى "وكسة"، ونرتضي بذلك ونكتفي به، ونصمت بعده، بينما يبقى السر الأكبر وراء كل الهزائم و" النكسات" كامنا داخلنا، ومتغلغلا في قلب المجتمع ، وهذا السر هو "غياب الوطنية لدى المسئولين".
إن الخسارة في"كأس العرب" ليست سوى قمة جبل جليد يخفي ما هو أخطر، وهو أن "كأس الوطن" نفسه أصبح مهددا، وأن مستقبل الأمة بأكملها يمكن أن ينكسر بسبب تصرفات مسئولين منشغلين بذاتهم لا بعملهم، وبمصلحتهم الشخصية لا بالمصلحة العامة!.
لقد صار واضحاً للعيان أن هناك صراعات خفية، أو ربما ليست خفية، بين أجنحة وأجهزة داخل كثير من منظوماتنا الإدارية، وأن هناك مسئولين في المؤسسات العامة يرى كل منهم نفسه "الحارس الأمين" دون سواه، وهناك من يرى منصبه "غنيمة" يجب الدفاع عنها بأي ثمن ، حتى لو كان الثمن هو سمعة مصر ذاتها!.. وهناك من يصرف كل طاقته ووقته وجهده لا لحل مشاكل الناس ولا لوضع خطط لمستقبل أفضل، وإنما لتصفية الحسابات، وتوجيه الاتهامات، وتشويه "السمعات"، وتمزيق الثياب، وفضح السوءات وكشف العورات..
وهذا هو القاتل الحقيقي لأي تقدم، وهو السر الأكبر لكل الهزائم والنكسات و"الوكسات" والانكسارات.
بالله عليكم .. كيف ننتظر أن يلعب فريق كجماعة متكاملة، بينما أجهزته الإدارية "جماعات متصارعة"؟ .. وكيف يمكن لمؤسسات أن تحقق "النصر"، في حين أن طاقاتها بالكامل تتبدد في الصراعات الداخلية بين مسئوليها؟.. وكيف نطلب من الجمهور أن يثق في "غد أفضل" بينما يرى كبار المسئولين في بعض مؤسسات الدولة تتقاتل وتتصارع كما لو كانوا أعداء وليسوا شركاء في تحقيق الصالح العام ؟
وفي يقيني أن الكارثة لن تتوقف عند خسارة بطولة كروية، بل تتخطاها إلى ما هو أبعد وأخطر، فعندما يرى المواطن هذا التصدع داخل بعض مؤسسات الدولة، وهذا الانشغال بالصراع على النفوذ بدلاً من العمل الجاد، فإن شعوره الأول يكون الإحباط، وشعوره الثاني هو فقدان الثقة.. وفقدان الثقة هو الانهيار الأكبر.
فإذا اهتزت ثقة الناس في قدرة الحكومة على إدارة شؤون البلاد حتى في الأمور البسيطة ككرة القدم، فكيف يمكن أن يُطلب منهم تحمل الصعاب لبناء مستقبل أفضل ووطن أقوى؟
وأمام هذا الحال صار لزاماً على الأجهزة الرقابية جميعا أن تتحرك - اليوم وليس غدا- لمحاسبة كل مسئول يتجاوز في مسئولياته ومهامه ، و أيضا لـ "فض الاشتباك المؤسسي" في كثير من الجهات والهيئات العامة.. يجب أن تُرسم خطوط واضحة تفصل بين مهام كل مسئول ومهام مسئول آخر، ويجب أن يلتزم جميع المسئولين أيا كانت مناصبهم ، وأيا كانت جهات عملهم،.. الكل يجب أن يلتزم بتحقيق هدف واحد أوحد، وهو: المصلحة العامة.
إن لم نقم بذلك الآن، فالحقيقة القاسية التي يجب أن نتوقعها، هي أن ما شاهدناه في كأس العرب من إهانة ومهانة وانكسار لن يكون سوى "بروفة" أولى لسلسلة من الإخفاقات التي تنتظرنا في ميادين أخرى قد تكون أشد خطراً وأكثر حساسية.