زواج على طريقة الأجداد في زمن الحرب
تاريخ النشر: 26th, May 2025 GMT
في مدينة غزة المحاصرة، حيث تتداخل أصوات القصف مع نبضات القلوب، تبرز قصص إنسانية فريدة تجسد إرادة الحياة المتأصلة في نفوس الفلسطينيين. فبين أزقة مدمرة وتحت سماء ملبدة بالغيوم، تنبعث أفراح بسيطة، تحتفي بالحب والأمل في وجه الدمار. هذه ليست مجرد احتفالات عابرة، بل هي شهادات حية على قدرة الروح الإنسانية على التشبث بالفرح رغم قسوة الظروف.
"لن يؤجل القصف حلمي بالزواج والاستقرار، فالزواج سنة الحياة والاستسلام للتأجيل ليس خيارًا"، بهذه الكلمات الواثقة، ترفض "لما أيمن"، ابنة الثالثة والعشرين ربيعًا، أن تستسلم لواقع الحرب المرير.
في خيمتها المتواضعة، يلمع فستانها الأبيض البسيط كنجمة في ليلة ظلماء، ومكياجها الرقيق يبرز جمالًا يصر على الت فتح رغم القسوة. بحضور الأهل والأقارب المقربين فقط، تحتفل "لما" بزواجها، مؤكدة أن "الجمال الحقيقي للفرحة يتجلى في الابتسامات الصادقة، والفرح النابع من القلب، والنظرات اللامعة المتبادلة، وتهاني الأحبة التي تحمل دفء المشاعر". زواج "لما" في قلب الظلام الدامس هو بريق أمل يضيء سماء غزة، مؤكدًا أن جذوة الحب أقوى من نيران الحرب.
أما "عمر محمود "، الشاب الطموح الذي قضى سنوات يجمع قرشًا فوق قرش من عمله في محل لبيع الشاورما ليجهز عش الزوجية، فقد حولت آلة الحرب حلمه إلى كومة من الركام. لكن مأساته لم تتوقف عند هذا الحد، ففي كل مرة تلوح في الأفق بوادر تهدئة، يعود الأمل ليراوده، ويبدأ في التخطيط لاستكمال مراسم الزفاف المؤجل. لكن سرعان ما تتلاشى هذه الآمال مع تجدد القصف وتراجع الهدنة، ليجد "عمر" نفسه أسيرًا لدائرة الانتظار والقلق.
يسترجع "عمر" أحلامه بمرارة قائلًا: "كنت أحلم بزفاف مختلف وحفل بهيج، لكن الظروف القاسية غيرت كل التصورات". ومع ذلك، يضيف بعزيمة لا تلين: "الأهم أننا معًا، وهذه الحرب علمتني قيمة اللحظات البسيطة وقيمة وجود أحبابنا بجانبنا. مهما طالت الحرب، لن تستطيع أن تسرق منا رغبتنا في الفرح".
في خضم هذه الأجواء القاسية، تستحضر "أم عمر"، والدة العريس، ذكريات زفاف ابنها البكر، وتعود بذاكرتها إلى تفاصيل زفافها هي نفسها. تتذكر الفرحة التي غمرت بيتها المتواضع، والكوشة البسيطة المكونة من كرسيين بلاستيكيين، وحضور الأقارب الذين اجتمعوا ليشاركوا العروسين بهجة اللحظة.
تتذكر أصوات النساء اللاتي صدحن بأغاني التراث الفلسطيني، وأهازيج الجدة العفوية التي كانت تحمل في كلماتها معاني الشعر وعمق الأصالة وإرثًا من الصمود في وجه التحديات. هذه الذكريات تصبح سندًا قويًا في الحاضر، وتؤكد أن الفرح الفلسطيني الأصيل لا يحتاج إلى مظاهر البذخ، بل ينبع من القلب والروح.
من جانبه، يوضح المختص الاجتماعي إياد الشوربجي أن "على الرغم من الحرب الشرسة التي طالت كل مناحي الحياة، إلا أن المجتمع الفلسطيني يثبت كل يوم قدرته العالية على الصمود والتحدي وأنه محب للحياة".
وقال الشوربجي "إن إقبال الشباب في غزة على الزواج في هذه الظروف هو حالة دفاعية موحدة ذات أبعاد أيديولوجية واجتماعية وثقافية، ويظهر ذلك في السلوك الاجتماعي داخل مجتمعات النزوح التي تعايش الدمار والفقد والقتل اليومي".
ويضيف أن "بعض الشباب يلجأون للزواج في هذه الظروف الراهنة كتخفيف من وطأة الظروف القاسية والبحث عن بارقة أمل لحياة أجمل، وتعزيز روح التضامن والتكاتف ومساعدة بعضهم البعض في التغلب على الصعاب". ويختتم حديثه بالتأكيد على أن "الزفاف في هذه الأوقات الصعبة أصبح فرصة لإقامته بجمالية البساطة، حيث يكتفي الناس بأبسط مقومات الحياة كالخيمة وما تبقى من بيوت مدمرة أو في بيت العائلة، لافتًا إلى أهمية التعاون في تجاوز الظروف الصعبة الذي يساهم في إعادة بناء المجتمعات في مرحلة ما بعد الحرب".
وفي قصة أخرى تلامس القلوب، جمعت صدفة النزوح بين "مرح" و"رامي"، ليتبادلا مشاعر الحب ويقررا أن يمضيا سويًا، وأن يزرعا بذرة فرح في قلب الخراب. وحتى لا يلتهم اليأس أحلامهما، يصنعان من حياتهما قصة تحدٍ وإصرار، لتكون نموذجًا لكل مخطوب ومقبل على الزواج يتردد بسبب الظروف القاسية. في يوم زفافهما المنتظر، نصبت خيمة صغيرة متواضعة لتكون عشهما الزوجي، حيث أقيم حفل بسيط، وقرعت فيه طبول بالأيادي بصوت خافت. ارتدت العروس فستانًا أبيض استعارته من إحدى صديقات النزوح، وكان الحضور قليلًا بسبب النزوح وتشتت الأحبة، ليقتصر على أهالي العروسين فقط. وفي تلك الخيمة الصغيرة، وبين أحضان العائلة، بدأ "مرح" و"رامي" فصلًا جديدًا في حياتهما، مؤمنين بأن الحب أقوى من الحرب، وأن جوهر الفرح الحقيقي لا يزول بزوال المباني والأشياء.
وفي مشهد يبعث على التفاؤل، يعيد متجر "سفير الحب" فتح أبوابه وسط الدمار، مصممًا على إحياء الفرح والسعادة واستقبال العرائس.
يقول زين عبدو، صاحب المتجر: "مع بداية الحرب انخفض الطلب على خدماتنا، لكن مع طول أمدها وتأقلم السكان، بدأت تظهر ملامح عودة تدريجية للحياة الاجتماعية وإصرار الناس على إتمام مراســــــم الزفاف، مما أدى إلى ازدياد الطلب على خدماتنــــا". ويضيف زين أن "الاعتماد في تلك الظروف الصعبة انصب على الورود، التي تضفي بهجة على الأفراح، وعلى عدد محدود من الكراسي البلاستيكية اختصارًا للتكاليف، وتجهيز كوشة بسيطة لتزيين العروسين، مؤكدًا على إمكانية صنع الفرح بأبسط الطرق".
ومع محدودية الموارد، يضطر المتجر إلى استخدام البضائع المخزنة، مما يحرم العرائس من خيارات واسعة. ونتيجة لشح الأسواق وارتفاع الأسعار وإغلاق المعابر، لم يتم تقديم هدايا متنوعة تشمل الحاجات الأساسية والعطور والشوكولاتة ومستحضرات التجميل كما كان الحال قبل الحرب.
وبسبب تجريف قوات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الزراعية في قطاع غزة، يُستعاض عن الورد الطبيعي بالورد الصناعي، لكن الفرح يبقى ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. ويعلق زين عبدو بحزن على تكرار حالات استشهاد أحد العروسين قبل إتمام الزفاف، حيث يتم تجهيز مراسم الفرح التي سرعان ما تنطفئ لتتحول إلى مأتم.
وفي سياق متصل بالأفراح البسيطة، تستأنف "الماشطة" رولا عملها بعد تراجع كبير، متحدثة عن مهنتها التقليدية التي ورثتها عن أجدادها، والتي تعتبر فنًا ومهارة تتطلب خبرة بتقاليد المنطقة وزخارفها، وتؤكد أنها "أصبحت حاجة أساسية وجزءًا أصيلًا من الهوية".
تميز عمل رولا عن الصالونات الحديثة بتقديم خدمة متكاملة تجمع بين الجمال والأصالة والتقاليد، كنقش الحناء بأنماط وزخارف تحمل رموزًا ثقافية عميقة، وطرق التزيين والتجميل التي تعتمد على خبرتها اليدوية والمعرفية، والتي تختلف عن الأساليب العصرية التي تميل إليها الصالونات الحديثة.
وتراعي الماشطة رولا أسعار الزبائن في ظل الظروف الصعبة، وتحرص على الوصول إلى كل عروس مهما بعدت المسافات لرسم البهجة التي تتمناها.
تصف مهنتها بأنها "مبنية على الثقة واللمسات الجمالية المميزة، وأنها تحمل عبق الماضي ورائحة الأجداد". وتقول بفرح: "لما أمسك الحنة واشتغل فيها كأنها متصلة بجذور عميقة، مما يولد لدي شعورًا يعطيني قوة، وفرحة العروس عند انتهاء شغلي تعطيني دافعًا أكبر لمواصلة العمل رغم كل الصعوبات، وعملي عبارة عن نسمة حلوة في الجو الكئيب".
وبحسب إفادة هيئة الأحوال المدنية فإن أكثر من 2500 شخص عقدوا قرانهم في مدينة غزة وشمالها فقط خلال الشهور الأخيرة.
وهكذا، يسطر أهالي غزة فصولًا جديدة من حكايات الصمود، حيث يتحدى الفرح قذائف الحرب، وتُقام الأعراس ببساطة الماضي العريق. فبينما تدوي أصوات الانفجارات، تتعالى أصوات المودة والبهجة، لتعلن للعالم أن إرادة الحياة في هذه الأرض المقدسة أقوى من كل أشكال التحدي، وأن جذور الأمل ضاربة في عمق التاريخ الفلسطيني."
المصدر : وكالة سوا - ضحى الداعور اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين الاحتلال يواصل عدوانه على طولكرم ومخيمها لليوم الـ120 على التوالي الوزيرة حمد تتسلّم مهام مسير أعمال وزارة التخطيط والتعاون الدولي ضغوط لوقف الحرب - ترامب يتحدث عن إنفراجة وشيكة وأخبار سارة بشأن غزة الأكثر قراءة معاناة نزوح جديدة: الجيش الإسرائيلي يُحذّر بإخلاء مناطق واسعة في خانيونس سموتريتش: لا مساعدات لغزة إلا بالحد الأدنى وسندمّر ما تبقى من القطاع إسرائيل تُصادق على إقامة جدار على الحدود مع الأردن مستوطنون يعتدون على منازل المواطنين في بروقين غرب سلفيت عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025
المصدر: وكالة سوا الإخبارية
كلمات دلالية: فی هذه
إقرأ أيضاً:
قصة انتظار تنتهي بدموع الفرح ومقاضاة الحكومة.. طفلة خُطفت قبل نحو نصف قرن وأمها لم تستسلم أبدا
كوريا ج – عقب لقاء الكورية الجنوبية هان تي سون بابنتها بعد 44 عاما من اختفائها، إثر تأكيد تطابق الحمض النووي، تقاضي الأم الحكومة الكورية الجنوبية بسبب “الانتهاكات في ملف التبني”.
وبعد أكثر من أربعة عقود من الإصرار وخيبات الأمل، اجتمعت هان بابنتها كيونغ ها التي اختفت دون أثر عام 1975. حيث وقع اللقاء المؤثر في أحد مطارات العاصمة سيؤول، بعدما كشفت اختبارات الحمض النووي أن ابنتها — التي أصبحت تعيش في الولايات المتحدة باسم لوري بندر — كانت قد اختُطفت وتم تبنيها بشكل غير قانوني في الخارج.
وتعود القصة إلى مايو 1975، حين تركت هان ابنتها ذات الستة أعوام تلعب أمام منزل العائلة في سيول لتتوجه إلى السوق. وتقول: “قلت لكيونغ ها: ألا تأتين معي؟ لكنها ردت: لا، سألعب مع أصدقائي”. وعندما عادت إلى المنزل، لم تجد أي أثر لها، وكانت تلك آخر مرة ترى فيها ابنتها وهي طفلة.
وفي عام 2019، تحقق اختراق مهم في القضية عندما أرسلت هان عينة من حمضها النووي إلى منظمة “325 كامرا”، وهي منظمة غير ربحية تهدف إلى لمّ شمل المتبنين الكوريين مع عائلاتهم البيولوجية. وجاءت النتيجة مؤكدة بأن ابنتها، التي باتت تُعرف باسم لوري بندر، تعمل كممرضة في ولاية كاليفورنيا.
وقد سافرت لوري إلى سيول لتلتقي بأمها، منهية بذلك رحلة بحث طويلة امتدت طوال العمر، تخللتها معاناة وأمل لا ينقطع.
وهان حاليا تقاضي الحكومة الكورية الجنوبية، متهمة إياها بالإخفاق في منع اختطاف ابنتها وتبنيها غير المصرّح به. وتُعد قضيتها من أوائل القضايا من هذا النوع، وتسلّط الضوء على تزايد التدقيق في برنامج التبني الدولي في كوريا الجنوبية، الذي وُجهت إليه اتهامات بوجود مخالفات كبيرة.
فما بين عام 1950 وبداية الألفينات، صدّرت كوريا الجنوبية للتبني ما يُقدّر بـ170,000 إلى 200,000 طفل معظمهم إلى دول غربية. وقد خلص تحقيق حديث إلى أن الحكومات المتعاقبة ارتكبت انتهاكات لحقوق الإنسان عبر السماح بتصدير الأطفال على نطاق واسع، غالبا دون وثائق رسمية أو موافقة الأهل.
وقد تفتح الدعوى القضائية التي رفعتها هان الباب أمام تحديات قانونية جديدة من قبل ضحايا النظام. ومن المقرر أن تنظر المحكمة في القضية الشهر المقبل.
وأفاد متحدث باسم الحكومة لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بأن الحكومة “تتعاطف بشدة مع المعاناة النفسية للأفراد والعائلات الذين لم يتمكنوا من العثور بعضهم على بعض لسنوات طويلة”، معربا عن “أسف عميق” ومتعهدا باتخاذ “الإجراءات اللازمة” حسب نتائج القضية.
قضت هان وزوجها سنوات في تجريب كل وسيلة ممكنة، من زيارة دور الأيتام، وتفحص سجلات الشرطة، وتعليق الملصقات، وحتى الظهور في التلفزيون، حيث أوضحت قائلة: “أمضيت 44 عاما أدمر فيها جسدي وعقلي في البحث عن ابنتي. ولكن، هل اعتذر لي أحد طوال هذه المدة؟ لم يعتذر أحد. ولو مرة واحدة”.
وتحدثت عن تأثير رحلة البحث على صحتها الجسدية قائلة: “سقطت أظافر قدمي العشر كلها” بسبب المشي المتواصل في رحلة البحث عن ابنتها.
وفي عام 1990، تقدّمت امرأة زاعمة أنها ابنتها، وعاشت مع العائلة لفترة قصيرة قبل أن تعترف بأنها كانت تكذب. ولم تحصل هان على إجابات حقيقية إلا في عام 2019، بفضل منظمة 325 كامرا، التي أوصلتها إلى لوري بندر.
المصدر: “the daily guardian”