جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-29@23:36:18 GMT

قصة: حُلم مُعَطّل (2)

تاريخ النشر: 26th, May 2025 GMT

قصة: حُلم مُعَطّل (2)

 حمد الناصري

   فندق ضخم على مدخل ساحل لا ضحالة فيه، ترسو قُبالته سُفن ويخوت وقوارب صغيرة للنزهات القصيرة.. فندق فخم ذو واجهة من الطراز الكلاسيكي الرفيع، كقصر صغير بين جبال راسيات، وبُحيرة اصطناعية صغيرة على خلفية الفندق الفخم، وباحة على جانبيها أشجار مُلِئت بالسيارات الفارهة، أشجار محلية وأخرى لأوّل مرّة يتعرّف عليها سكّان المنطقة الساحلية، أحدهم عرّفها بأشجار الصنوبر، أشجار غير مُثمرة، خلا أشجار النخيل المحلية والسدر والغاف، وأشجار البيذام ، أو " البيذار" المعروفة ثمارها بثمرة اللوز، وهي شجرة تُورق أوراقها ويتضخّم ساقها، وتُميّز عن غيرها بأشجار الظِل، غالبًا ثمارها على نوعين؛ صفراء وبيضاء، أو حمراء وبنفسجية، فالحمراء والبنفسجية محلية والصفراء والبيضاء غير محلية، تُعرف محلّيًا، بأشجار البحر .

. أو بيذام بحر، وهذه التسمية تعني غير محلية، فكل شجرة غير محلية يُسمونها "مال بحر".

     اتّخذ سعيد ـ لأول مرة تطأ قدماهُ المدينة الكبرى أو ما تُعرف بالعاصمة ـ غرفة صغيرة في فندق صغير، بإيجار يتناسب وما في جيبه.. وذات مساء التقى بشاب وسيم طويل القامة، لا يعرفه، ذا شعر منفوش وعينين بلون القرفة وشيء من بياض وسواد، ومن أول نظرة تُدرك أنّ عينيه أشبهَ بعين السنور "القط" في النهار تكون أقرب إلى اللون الفضي العاكس برمادية، كأنها صِبْغة خضراء غامقة.. سأله الشاب الطويل.. عن ماذا تبحث هنا؟ يمكن مساعدتك؟ قال سعيد.. أبحث عن عمل؟ فأجاب الطويل بذهنية حاضرة، ولكن هذا فندق فخم.. ولوح بيديه.. ألا ترى كم هو عالي العِمارة؟ سكت ثم قال.. ما الذي تحمله من شهادة أو مهارة.. نستطيع أن نخدمك بها؟ أجاب سعيد، لدي الكثير ممّا أقدمه.. ولم يتحدّث عن إجابة السؤال.. فهم الشاب الطويل ذو العينين بلون القرفة والشعر المنفوش.. أنّ سعيد لا يُريد التحدّث عن شهاداته وخبرته، فأردف: طيب.. هل لديك سكن؟ لا.. سكنت في ذلك الفندق الصغير وأشار إليه، نظر الشاب الطويل بعينيه الملونتين كالسنور إلى سعيد وإلى ملابسه غير التقليدية، فسأله منذ متى وأنت على هذا اللباس، فردّ سعيد، أنا ألبس البنطال والقميص في المدن الكبيرة، ذات الضجيج والحركة والنشاط.. كي أكون مقبولا أكثر، وابتسم، أنا باحث عن عمل.. قال الشاب الطويل ذو العينين المُلونتين، كأنكَ تهوى الزي الغربي؟ ردّ سعيد: نعم، في المدن الكبيرة، ولكيْ أتعوّد عليه أكثر، يُعطي راحة للحركة بين هدير الناس وموج الساحرات، أقصد كثرة السيارات، كما أنّ البنطال والقميص أجد فيهما نشاطاً وحيوية، وربما قابلية للبحث عن عمل، هزّ الشاب الطويل ميلاد ابراهيم رأسه وقال: حسنًا، ما رأيك لو اعطيتك غرفة في المكان الذي أسكنه بدون مقابل؟ حتى تجد لك عملا مناسباً. ردّ سعيد: اين تسكن أستاذ؟، قُل ميلاد إبراهيم أو صديقي؟ المُهم، اذهب وخلّص يومك من ذلك الفندق الرخيص وتعال اسكن عندي بالمجان، غرفة وما أدراك ما الغرفة.. غرفة تحلم بها طول حياتك.. ضحك ميلاد إبراهيم، ولا يزال سعيد متوجّساً، خائفاً.. لأوّل مرّة يلتقيه.. وبالتالي فحاجة سعيد إلى تخفيف عبء المصروف حتى يلقى عمل مناسب.. وقال: أيُعقل أن يكون الرجل ذو معروف.. وخيرٌ مني؟ وكأنّ ميلاد إبراهيم قد سمع كلامه.. وكأنه قرأ أفكاره.. فأردف: سِرْ بسرعة وأنا انتظرك، إنه يومك الجميل فلا تبخل عليه، ضحكا معاً.. ذهب سعيد إلى ذلك الفندق الرخيص وحاسبَ ما تبقى عليه وعاد بحقيبة يدوية.. كان "سعيد "عند عودته، يرتدي قميصاً وبنطالاً ارْتصّا على جسده، على غير العادة، وكأنه وضعه خصيصاً لمثل هذه المناسبة، أو لجذب ساحرات الليل ولفت الأنظار.. لباس يُواري سوءته، لكنه لا يُواري أخلاق أهل البلدة القديمة ذوي الجذور التاريخيّة العميقة، والذين تمسّكوا بزيّهم التاريخي دون تفكير في تغييره مهما كان الحدث أو مهما كانت المناسبة.

     أدلفَ الشاب القروي "سعيد " إلى صالة فخمه، وقد عرّفه الشاب ذو العينين المُلونتين على نفسه، أنا ميلاد إبراهيم من أثينا من بلاد اليونان، سمعت عنها.. هزّ سعيد رأسه إيجاباً.. قال الشاب الطويل ميلاد إبراهيم، أنا منها، اليونان بلد الكنوز والعراقة التي لا تشبهها عراقة ولا حضارة.. بلادنا يا سعيد، خرجت منها العصور المُظلمة، وكلما سقطت حضارة، خرجت حضارة أخرى، تعاقبت الحضارة كطبقات فوق بعضها حتى الكتابة والقراءة أصلها يونانية، ماذا أحدثك يا سعيد، أو عن ماذا؟ عن الإغريق ـ مثلاـ أو عن الفلسفة والفلاسفة أو عن الأدب والفن أو عن موت الاسكندر الأكبر، حضارة امتدت إلى ما قبل الاسكندر الأكبر بمئات السنين، بلدي أثينا أو اليونان عموماً، تُعرف بعراقة العصور المُظلمة.. عصور عظيمة لا مثيل لها تركت آثاراً باقية، علمية وفلسفية وفنية وإنجازات من الموسيقى العالية، راقية لها بُعد في صُنع الحضارة الغربية قاطبة.

    وعرّج سعيد إلى حضارة بلدته العريقة، وتمتم، عن ماذا أحدثك يا صديقي ميلاد إبراهيم، عن الجنوب أو عن الشمال عِزين، أو عن "شصَر " العريقة التي لم يُعرف جذرها غير ابتداء التكوين، أو عن "باتْ" مُلتقى الأغنياء والفقراء وقطّاع الطرق والتجارة المرتحلة والسوق الذي فاقَ طاقته مدّ البصر؟ عن ماذا أحدثك يا ميلاد إبراهيم؟ أأُحدّثك عن القدرة والطاقة، أم عن أولئك "العِزِين" الذين تفرّقوا في مشارق الأرض ومغاربها، وكان لهم أثرٌ إنسانيّ رفيع في ميادين الأخلاق والقيم والمُثل؟ إنّ في مُثلهم حديثًا طويلًا عن سيرةٍ زاخرة بالفضائل، ولا ضير أن يُستعاد شيءٌ من مآثرها، خرج رجالنا جماعات وفُرادى، وكانت سيرتهم الصّبر والجد والمُثابرة، كانوا عزّة قوم خلّدهم التاريخ، رجال عزم نالوا الكرامة والعزّة بسخاء، تاريخ لا مُمسكَ له من العزّة الفاخرة، نالوا المجد في البرّ والبحر، وكانت أساطيلهم شُرّعة وسُفن فخمة ناقلة لكل غرض، تعتمد على سرعة الرياح والاتجاهات.. رجال لا طمع لهم غير السلام والاستقرار والحياة للناس أجمعين.. رجال ذو قدرة مُتناهية في مشارق الأرض ومغاربها.

  قال ميلاد إبراهيم لـ سعيد، أنظر وأشار إلى بنات ثلاثة، إنْ كانت واحدة منهن تُعجبك، سوف أحدثهن ثلاثتهن؛ ردّ سعيد مُنزعجاً: أولئك النسوة اللاتي أشرتَ إليهن، تجسّدت ملامحهن في عينيك، ربما هنّ أقرب إليك.. أليس كذلك؟ ردّ ميلاد إبراهيم.. نعم هنّ من نفس طينتي.. وضحك.
    إحراج وخجل وخوف ينتاب سعيد، فالرجل من طينتهن، شعور بالخوف لازمه بعض الوقت.. سألَتْه أرفعهنّ جمالاً، سامقة بإسمها، سَحر، ساحرة الأعين: ما الذي أصابك سعيد؟ ماذا ألمّ بك، أخبرني.. أتعرفه يا ميلاد ابراهيم.. من أين جِئت به؟ فعقّب ميلاد إبراهيم، نعم للتو تعارفنا وتوافقنا واتفقنا؟ ثم التفت إلى سعيد..  ألم أقل لكَ أنهنّ من طينتي.. لا بلوى من ورائهن.

    شعر سعيد بالخجل والإحراج من صديقه الجديد.. انتابه خجل لأنه انتقد قريبات ميلاد إبراهيم وهو لأول مرة يتعرّف عليه وقد قدّم له خدمة السكن بدون مُقابل.. قال ميلاد إبراهيم، لا تخجل سعيد، الحال واحد لا نختلف أبدا.. لكني خائف من حركات السائرين، إنها لا تُطَمْئِن ولا حتى الغاديين منهم. خلسَ ببصره إلى سُحب بدتْ تتكوّن، خوف سلبي، قلق يُساوره.. شبك يده في يد سعيد وأخذا يمشيان بجانب بعض، كنت أظنّ أنكَ تعرفهنّ أو تعرف واحدة منهن؟ ردّ سعيد لا؟ وكانت البنات ثلاثتهن يسرنَ خلفهما.. خلف ميلاد إبراهيم وسعيد.

    همس ميلاد إبراهيم إلى سَحر، هل تعرفين أحد منهم، وأشار إلى السالكين والرائحين والغاديين من الرجال؟ ردتّ: لا.. ربما هم يعرفونني أكثر ممّا أعرفهم.. تضاحكا معاً؛ قال الرجل الذي من طينتها ميلاد إبراهيم.. جيوبهم مُمتلئة؟ بابتسامة قالت سَحر وشَفتها العُلوية ضاغطة على السفلى، انتفخت أوداجها، برزت أسنانها قليلاً: ألا تعرف، ذلك مِن أجل مَنْ؟ وصوّبتْ نظرها سريعًا إلى صديقتيها، ثم أشارت إلى أجزاء من جسدها المُثير.. قال ميلاد إبراهيم: وكانت سَحر تُحادثه على انفراد سريعاً.. الجيوب تمتلئ إذا صارت العقول... وأشارت إلى موضع في جسدها؛ قال ميلاد إبراهيم وقرصَ عينه، أي غمز لها، ففهمت.. أنتِ شابّة رائعة.. تمتلكين الجمال والسحر الجاذب، تضاحكا بدعابة، وتلاطف مع سعيد بكلمات زادت من ارتباطهما ببعض، آه.. لو تعلم شيئاً يا سعيد.. سكتت.. فقال سعيد: ماذا؟ قالت سَحر.. لا تخجل سعيد، قل ولا تخف، لا سرّ ولا نجوى في حالنا، قُلْها ولا تتردّد.. نحن نعلم أسراركم ونعلم ما تُخفي سرائركم.. أنا مارونية لا إثم ولا عُدوان عليّ.. ضحكت.. ههههه فعقّب الرجل من طينتها ميلاد إبراهيم وكان ماكراً: أنتِ عالم من الجمال الطبيعي، خاصّتك فطرية، وفخامة لا تُنسى.. ابتسما معاً.. تخيّلي لو لم يكن لديك هذا العطاء الجسدي، لما وُجد بالشارع أحد.. والتفت إلى سعيد وابتسم بلطف: أليس كذلك يا صديقي؟ لم يعقب سعيد؟ ثم التفت إلى سَحر وأردف هامساً: لكانت الروحة والغدوة و.. وفلوس.. وسكت.. وأخذ يُعاين بضاعتها وعينيه تدور في خصائصها وذلك لكي يشدّ انتباه سعيد.. قالت سحر بذكاء، ما بالك تفحص جسدي.. ألم ترى غيرها من قبل؟ فردّ هامساً: هذه حركة كي لا يظنّ سعيد أني لا أعرفكنّ، لقد قلت له أنكنّ من طينتي فقط؟ لا توضحي لـ سعيد أنكنّ تعرفنني أو...؟ سأغيّر الحديث إذا اقتربنا من سعيد، لئلا يشكّ في شيء ما؟ رفعتْ رأسها إلى أعلى، إذْ كان يفوقها طولاً، وقالت في غنج ودلع: ما دام الأمر يتعلق بـ سعيد وأمثاله، فكل شيء سيكون، أنتَ تعرف الحكيمة إيرين.. فردّ لا.. لكنّها هي من تعرفني. ضحكا معاً.. ثم استطرد، لا تخفنَ، نحن نعمل معاً. ردّت سحر، قالت الحكيمة: إنّ رجلاً أميناً على مصالحنا، لن تعرفنه ولم ترينّهُ من قبل، سوف يُطل ذات يوم.. هو من سيعرفكنّ على نفسه بطريقته.. فردّ ميلاد إبراهيم.. إذن، أنا هو. دعي الأمر مكتوماً حتى حين. إن وجدّتني أساومكنّ في شيء ما.. فتلك هي لُعبة.. لعبة الكبار.. تخفىَ على الصغار.
*

       كان سعيد قد جلس بعيداً عن الفتيات، حين بدا ميلاد يتهامس مع سحر. قال ميلاد إبراهيم: هيّا معي، وأشار إلى سعيد، إنه صديق تعرّفت عليه للتو من بلدة بعيدة، يسكن هناك، وأشار إلى الفندق الصغير، هذا ليس فندقاً بالمفهوم الفندقي، وإنّما يُقدّم خدماته كما لو أنّه فندق.. لكن الرقابة عليه أقلّ.. تُعرف هذه الخدمة هنا.. بالشقق الفندقية.. هذه الشقق لا تجعلك تحت طائلة المسؤولية الكبيرة، لا يلتزم الساكن بحدّ معيّن من الأصدقاء، فمن حقّك أن تأتي بمن تشاء، وبمن ترغب.. لا أحد يسألك عن شيء، ولا يسمح بأي صديق بدون مؤجّر الشقة أو الغرفة، هذا هو النظام، وبالطبع تسدّد نظير الخدمة.. وما عليك إلا تقديم لمسات الصداقة من أجل استدامة الخدمة، وقد حاسبَ وخلّص نفسه وسيسكن في إحدى غرفكن المُقرّرة.. أنتن، تفاهمن واخبرنَ الحكيمة بالأمر؟ ردّت سحر، لعلّ الحكيمة إيرين ترفض.. فهي لم تُعلم بمجيء سعيد مُسبقاً.. وكأنّ ميلاد إبراهيم يتحدّى.. خذي الخبر من عندي سيسكن سعيد في إحدى الغرف الخاصة. لا أريد اعتراضاً على ذلك. قالت سحر بإذعان وإذلال: هيا، إذنْ نسير إليه معاً ونتعرّف عليه عن قُرب. كان سعيد قد انسحب إلى داخل الفندق وجلس لوحده ينتظر في صالة الضيوف الكبيرة.. ينتظر ميلاد حتى يعود من حديثه مع الفتيات. قال ميلاد إبراهيم لـ سحر: إنه شاب وسيم وخدوم ولديه الرغبة لتقبّل أي شيء، لأنّه جاء باحثاً عن عمل من بلدته الريفية إلى هذه المدينة الطاحنة لكل شيء.. قالت سَحر: وما هو عليّ فِعله تجاه صديقك هذا؟ فقال ميلاد ابراهيم بعد تنهيدة أخرجها بزفرة واحدة: ما عليك شيء.. غايتنا هي أن نجد له مكسباً، وهدفنا تقديم خدماتنا في البدايات، ونُوهمه بطرائق شتّى.. ولا أظن بأنّك لم تفهمي قصدي.

     وأمام سعيد، أخذ ميلاد بخبث ومكر يُساومها، وكأنه لا يعرفها من قبل، ولا صِلة له بها ولا علاقة مُسبقة تربطهما.. فقال جسدك أنيق وطولك رشيق، فقط نحتاج إلى الأمان.! ردّت سحر بخبث: كيف؟ وكان سعيد يسمع تحاورهما، دون الفتاتين الأخريين اللتين لم ينبسا بحرف، فردّ ميلاد إبراهيم: تملكين قوة ثراء المال في قوة مُغرية، جمال ونقاوة ينتظران من يدفع أكثر. فردّت بمكر أكبر: وأنتما ـ لم تقل وأنت ـ ما هو دوركما؟ فردّ ميلاد: نحن نمتلك علاقات واسعة وأشخاص كبار يدفعون، وشباب سُذّج لا يُبالون ومُراهقين مكسب مُستمر، ولا بأس إنْ اتخذناها مِهْنة ومكسب. هزّت رأسها.. وابتسم لها، أنا اسمي ميلاد إبراهيم، أعمل هنا، وأشار إلى الفندق الفخم.. فتحتْ عينيها بدهشة.. أنتَ.. وبدهشة صكّت حلقها وسكتت.. فردّ ميلاد إبراهيم بذكاء، وقرص عينه، غمز لها: نعم.. أنا المشرف على الصالات الليلية والنهارية. وهذا صديقي، سوف يعمل معي، وإن وجدناهُ عاملاً مخلصاً، أوفيناهُ حقّه، وربّما يرتقي إلى نائباً من بعدي. قالت سَحر الأكثر نُعومة ورقّة: إذنْ المنفعة بيننا ...؟ لدينا ما تُريدا وأنتما لديكما ما نُريد.. فما قولكما؟ ردّ ميلاد إبراهيم: اتفقنا. ولم ينبس سعيد بكلمة.. وظلّ ساكتاً.

   سار سعيد إلى صالة الانتظار وربما استاء من وعود ميلاد إبراهيم للفتاة سَحر، ولم يعرف بأنهما مظاهر خداعة، وقد مكرا بمن هو أشدّ من سعيد حذراً وفطنة.. ولم يكن بوسع سعيد الرفض ولكنه كان مُمتعضاً لسوء الحال، وتصرّفه بأنْ أخْلا مكان السُكنى في الفندق الصغير.. وأنه مُضطر للسكوت حتى يرى السفينة تسير بأحداثها، ومجراها ومُرساها.. فهو بلا غرفة الآن ولا سكن.

       من صالة الضيوف دقّ سعيد هاتف كان إلى جانبه، وسأل موظفي الاستقبال عن ميلاد إبراهيم ميلاد، فقد عكس الاسم، للتأكّد بأنّ جميع موظفو الشقق الفندقية في علاقة صداقة معه أم لا؟ قال أحدهم عبر الهاتف، ربما اسمه ميلاد إبراهيم؟ نعم هو، قال سعيد، وقبل أن يقفل سعيد السماعة، سمع قولاً: قُلْ له كان هُنا ومشى.. نعم، إنّه هنا، كان هنا بالفِعل.. يبدو أنّه في دورة المياه أو في.. في مكان آخر.

      لاحظ سعيد توتّر موظفي الاستقبال وقلقهم، كأنّما انتابهم توجّس من السؤال عن ميلاد إبراهيم.. فزادهم السؤال ضغطاً عصبيًا وغضبيًا في آن واحد.. أدرك سعيد أنّ القلق يَسري في ملامح موظفي الاستقبال، وقرأ في نظراتهم ما يُشير إلى أن الفتيات الثلاث خرجن بصحبة أستاذهن، ميلاد إبراهيم. قال سعيد في نفسه: إذن ميلاد إبراهيم يعرفهن بثلاثتهن.. أغلق الهاتف، ودلّف يبحث عنهم، كانوا قد جلسوا جميعهم على طاولة طعام صغيرة جداً، فقال سعيد انتظرتكم ودلّفت إلى صالة الانتظار من بَعد سَئم وملَل، ثم أخذ مكانه على طاولة صغيرة اعدّت لهم وتبادلوا الأحاديث الودّية بينهم، وبعض كلمات تفتّحت لها نفس الشاب سعيد، وراح يفكّر بصوتٍ عالٍ: جئت للعمل وليس لديّ من المال لتحمّل أعباء أخرى، لم آتِ لأقبع هنا وأتسوّل.. رحّب ميلاد إبراهيم بالشاب القروي سعيد، لا تخف سعيد، ولا تقول كلاماً بغلظة، فكلّ ما تهتم به ستجدهُ.. فقال بلهجتهم.. روق " روء " يا زلمه. فقال سعيد مرحباً صديقي ميلاد إبراهيم: أشكرك لأنّك تهتم بشأني، فأنا أبحث عن عمل وأطمح في المال لمساعدة أهلي في البلدة التاريخية.. قاطعهُ ميلاد إبراهيم، قائلا: حدّثنا عن بلدكم تاريخياً واقتصادياً وجغرافياً. فعقّب سعيد: لكنّي جئت باحثاً عن عمل ولست باحثاً في التاريخ والاقتصاد والجغرافيا...، فعقّب ميلاد إبراهيم: طالما بلدكم تاريخي وعميق وعتيق النشأة، فلا بدّ أن يكون له عصبٌ وشدّة وتراث وأمجاد. هزّ سعيد رأسه مُعتزاً: نعم يا صديقي، ولكنّي لا أحبّذ أن أسرد تاريخاً دون مُناسبة.. ومن حيث المعرفة، فأنا أعرف أنّ تاريخنا كبير واقتصادنا توسّع كثيرا وجغرافيتنا امتدّت إلى أقصى شرق أفريقيا وآسيا في حُقب زمنية مشهودة، وفي عصور قوية كان لها أسطولاً بحرياً مكّنها من السيطرة على البحر.. موقعنا البحري قوة اقتصاد وطريق تجاري عبر بحرنا الكبير أتاح لنا صِلات مترامية الأطراف بحراً وأرضًا.. يُقال أنّ الرجل الأول وطأت قدمه أرضنا، وسردية واسعة استندت إلى أدلّة ثابتة، أن الرجل الأول "يأدم " هو أول رجل من السماء يهبط على أرض تسمّت باسمه "يدم"، نحن يا ميلاد ملامح لم تُعرف من قبل ولم تُكتشف أسرارها، ولا تزال خافية على كثير من الناس، أو هي طُمست لأسباب يعلمها أعداء التاريخ النظيف.. نحن أمة ملامحها تاريخية وإنسانها شاهد عليها وآثارها باقية، نحن أُمّة أزلية لا بداية لها ولا نهاية، حضارة تِلو حضارة، لا تكد تُفندها عن بعضها ولا تُفرّقها عن أُسّها ولا تقتلع منها شيئاً أبداً، جذورها جبلية صَلبة وأطرافها بحرية عميقة وامتدادها وِدْيان ورمال وكثبان وخزائنها كهوف وأعماق لم يصل إليها بشر، جيولوجية في صخورها ونارية في بطونها، وصلابة مُخبأة في عُمقها، تكوينات تعجّب مِنها الجان والعفاريت والشياطين، وأقرأ يا صديقي عن إنسانها، قديم منذ التكوين، مُغامر منذ الأزل، مُكتشف، مبدع في العلوم والفنون والتراث العتيق، بلدة طيبة، عراقتها امتداد صَلب وعميق، لا يُمكنك أنْ تقُدّم حضارة أو تُؤخّرها، حضارات تعاقبت وراء بعض لا تقلّ عن عراقة عصوركم المُظلمة وقِدَمها.
 
     وكأنّ ميلاد إبراهيم صُدم بالمعلومات التي تحصّلها من سعيد فقال في عُجالة: أشكرك صديقي، سنكون معاً لنعلم كثيراً ممّا تقول وعن ما تتحدّث، أنا أحبّ الأمكنة التي يُمكنني أن أكتشف بها سراً في حياتي. فردّ سعيد: لا بأس عليك صديقي، وأنا لم أحدثك شيئاً عن بلادي، فما علمته جزء من جناح بعوضة انكسر، فلم يكن عليها هوناً ولم يُؤثر في توازنها، بل هي في سكينة وقوة ولا زلنا نؤمن بالسلام، فهو المجد الذي ألفناهُ مِمّن سَبقنا وهو الإخاء الذي بذله الأقدمين لحياة استقرّت على الإطمئنان، رجالنا أهل نخوة وأهل كلمة صادقة وأهل سلام كعنوان ذلك الكتاب القيّم، كتاب السماء الأزلية، ولك أن تعلم قليلاً.. كن مُطمئناً واستقر، ولكن إيّاك أن تخنس في الشدّة أو تخون في العهد، فبعض القلوب تكون ملوّنة وإنْ تلوّنت بشيء منها، فاعْلم أنّ في جبالنا الصلابة وقوة الحجر الصلد في تماسكه ولو كان أملساً ناعماً، ولأطرافنا امتداد من الجبال لها أعينٌ حُمر وبيض مُختلفة ألوانها، وفي عُمقها ما يُجدّد بعضه بعضا.

    فجأة توقّف سعيد ولم يبزم.. وبدا على ميلاد إبراهيم خوف ورهبة وارتجاف، يهتزّ كأنه ورقة.. ترى ماذا يعني سعيد بقوله: جناح بعوضة وانكسر.. وسلام واستقرار.. وجبال وأعين بيض وحُمر ورمال وكثبان وأعماق هادرة.. وفي سرّه تمتم: سعيد ليس عادياً ولا باحث عن عمل ولا فقير، وأظنه مُخبراً سرياً.. يا إلهي. هل عرف أهل هذه البلدة عنّي أمراً ليسوقوا لي باحث عن عمل من بلدة ريفية.. حكّ أذنيه حتى احمرّتا.. أحسّ برغبة ما.. أحسّ بألم في بطنه.. غازات.. عُسر هضم أو شدّ عضلي.. قال ميلاد إبراهيم في عُجالة: أظنّ تحدّثنا كثيراً، تعارفنا بما يكفي، وقد أنبأتني بالخبر اليقين، وزدتني ثقة واطمئنان، ولعلّي أشعر بالأمان بقربك، فخذ هذه غُرفة لك وحدك لا يُشاركك أحد فيها، إلى أن تجد لك وظيفة تناسبك وتشعر من خلالها بالأمان.

يتبع 3 ..

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

من يدركها يعيش سعيدًا.. أسامة كمال: الدنيا «حق انتفاع» وليس ملكية مُطلقة

أكد الإعلامي أسامة كمال أن الدنيا بأكملها ما هي إلا "حق انتفاع"، وأن من يفهم هذه الحقيقة يعيش في سلام وسعادة، مشيرًا إلى أن أي اعتقاد بملكية مطلقة للأشياء هو فهم خاطئ لجوهر الحياة.

وأوضح كمال في برنامج "مساء دي أم سي" أن الإنسان يعتقد أنه يمتلك شقة أو سيارة أو أموالًا ملكية مطلقة، بينما هي في حقيقة الأمر مجرد "حق انتفاع" مؤقت.

وضرب كمال مثالًا بكُرسي الطائرة أو القطار، حيث يدفع الراكب قيمة التذكرة ويظن أنه صاحب المقعد، لكنه في الواقع "مجرد منتفع" ينتقل من مكان إلى آخر ليأتي بعده شخص آخر لينتفع بنفس المقعد.

وأكد أن هذا المفهوم ينطبق تمامًا على الشقة التي تُكتب باسم الشخص لتنتقل إلى غيره بعد رحيله، وكذلك السيارة والملابس، فوجوده بها هو "حق انتفاع" طوال فترة بقائه على الأرض.

وأشار كمال إلى أن من يدرك حقيقة أن الدنيا كلها "حق انتفاع" يدرك عبث الخلافات والصراعات على الأموال والميراث بين العائلات، حول أشياء مصيرها الزوال.

وشدد على أن فهم هذه الحقيقة يجلب السعادة والراحة للنفس، فلا يفرق إن كانت الأشياء باسم الشخص أو باسم غيره، لأنه يعي أننا جميعًا مسافرون.

وتابع قائلاً: "يا بخت من فهم حقيقة الدنيا، وأحسن استخدام الأمانة التي أعطاه له ربه، ويا بخت الذي عرف أن الدنيا حق انتفاع."

طباعة شارك أسامة كمال الحياة الدنيا

مقالات مشابهة

  • ريهام سعيد تعلن تصالحها مع طبيب التجميل بعد نزاع طويل
  • مصطفى العش: سعيد بأول لقب مع الأهلي
  • عبدالمنعم سعيد: ترامب أصبح يتعامل مع مصر بشكل استثماري
  • شريف فتحي: سعيد بزيارتي لوزير السياحة والشباب الصربي في بلجراد
  • فى ذكري ميلاد جورج سيدهم.. ولد ميتًا وتزوّج فى سن الخمسين بعد رفضه للفكرة
  • من يدركها يعيش سعيدًا.. أسامة كمال: الدنيا «حق انتفاع» وليس ملكية مُطلقة
  • آدم وعلي الحلم.. أصالة تحتفل بعيد ميلاد توأمها
  • ذكرى ميلاد فاتن حمامة.. ما ‏حقيقة علاقتها بـ عبد الوارث ‏عسر؟
  • في عيد ميلاد المخرج عمر عبد العزيز.. صاحب يا رب ولد يحتفل بمسيرة من البهجة
  • ميلاد هلال ذو الحجة وغدًا أول أيامه فلكيًا.. ومواعيد وقفة عرفات وعيد الأضحى