5 إشارات خطر تشهدها تونس مع قيس سعيد
تاريخ النشر: 26th, July 2025 GMT
طوت تونس يوم 25 يوليو/ تموز الجاري، خمس سنوات على انقلاب الرئيس قيس سعيّد.. انقلاب شمل مرحلة وتجرِبة ودستورًا وقوانين ومؤسسات وسرديات، امتدّت لأكثر من عشر سنوات، كانت تونس خلالها قد وضعت قدميها على قيم ومعايير دولية، قانونية وحقوقية، منها الديمقراطية والحريات واحترام الحقوق والتداول السلمي على السلطة، عبر انتخابات شهد العالم بأسره على نزاهتها وشفافيتها وصدقية نتائجها.
في أقل من 24 ساعة، وضع الرئيس التونسي حدًا لكل ذلك المخاض الذي جاءت به ثورة اجتماعية وشعبية استثنائية، قادها شباب من أطراف جغرافيا البلاد، ممن كانوا يُوصفون بـ"الشباب المهمش"، و"سكان الأطراف"، و"القادمين من صقيع الأرياف".
قضى انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021 على تجربة كانت محلّ متابعة العالم، بشرقه وغربه، الذي كان يرى ويقف على إمكانية أن يترسخ الفعل الديمقراطي، في بلد من خارج الفضاء الأوروبي الغربي، بلد بإمكانات محدودة، وشعب صغير (11 مليون نسمة)، لكن بنخب استثمرت على امتداد أربعين عامًا على الأقلّ، في الديمقراطية وثقافة المشاركة السياسية، والانفتاح على تجارب الشعوب والأمم الديمقراطية، وبناء "مجتمع المواطنة"، بدل "شعب الرعايا".
هكذا، بخطاب احترابي في اجتماع مجلس الأمن القومي، أعلن الرئيس قيس سعيّد عن غلق البرلمان، وإحالة نوابه المنتخبين على "البطالة القسرية"، وأنهى أعمال الحكومة الائتلافية، وفسخ بجرّة قلم دستور البلاد، الذي كان ثمرة مناقشات ومخاضات لثلاث سنوات بين جميع مكونات الطيف السياسي والأيديولوجي، تخللتها عمليتا اغتيال لشخصيتين سياسيتين بارزتين، شكري بلعيد، ومحمد البراهمي.
بالإضافة إلى أحداث إرهابية عديدة ومتنوعة، خلقت بيئة عاصفة، كانت تنبئ بحرب أهلية، عملت جهات خارجية عديدة، بالتعاون مع أطراف وشخوص في الداخل، على تثبيتها، وحرصت بعض النخب السياسية على القفز عليها، ومنع حدوثها، عبر توافقات سياسية، ما تزال تثير الجدل إلى الآن، حول دوافعها وتوقيتها ومكوناتها والطريقة التي تمت بها.
إعلان اللاءات الخمس للانقلابخلال أكثر من عشر سنوات، برزت وجوه سياسية مهمة، وانكشفت علاقات وارتباطات وجوه أخرى، ورفعت الحجب عن أفكار ومواقف ومقاربات، كانت تتخفى وراء الديمقراطية والانتخابات وتجربة الانتقال الديمقراطي، بكلّ الخوض الذي عرفته، وبكلّ الانكسارات والمكاسب، التي تحققت، لا سيما على الصعيد السياسي.
لكنّ البعض ممن لم يستوعبوا التغيرات والتحولات الحاصلة بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، نكصوا على أعقابهم، ومارسوا نوعًا من "الردة السياسية"، فشيطنوا التجربة وشخوصها ورجالها ومواقفها وثقافتها الجديدة، وبعض القوانين التي بدأت في تغييرها.. واعتمدوا سياسة "الأرض المحروقة"، ما دام أنّ المشهد الجديد لم يوفر لهم المغنم السياسي الذي كانوا يتوقعونه، وعندما اتضح أن البنيان مختلف، والبوصلة في اتجاه مغاير، تحالفوا لكي ينهوا مسارًا، قد لا يتكرر في الأفق القريب، على الأقلّ.
التقط الرئيس التونسي هذه اللحظة، فقلب الطاولة بكلّ محاملها، مدعومًا من الدولة العميقة، ومن يسار إقصائي، أثبتت الأعوام أنه أقرب إلى الهدم والخراب منه إلى البناء الاجتماعي والسياسي الوطني، بالإضافة إلى بقايا منظومة ما قبل الثورة، و"الانتهازيين الجدد"، الراكبين في كلّ قطارات الثورات والانقلابات، وحتى التحالفات السياسية.
وبالطبع، انضمّ كثيرون، حتى ممن كانوا يرفعون شعارات الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، إلى الحركة الانقلابية للرئيس التونسي، فاصطفوا خلفها، وباتوا في بضع ساعات، مروّجين لها، كما لو أنهم شركات "ماركتينغ" محترفة في الدعاية للانقلاب وصاحبه، وأطلقوا على ذلك نعوتًا وتسميات، من قبيل "حركة التصحيح"، و"المسار الثوري الجديد"، وباتوا بين عشية وضحاها، مفسرين لمقولات "البناء القاعدي"، و"الشعب يريد"، وذلك في سياق "شعبوية" قديمة- جديدة، رداؤها الرئيسي، لاءات خمس، هي:
لا للأحزاب؛ فهي سبب خراب البصرة. لا للديمقراطية؛ لأنها انتهت، ولا بد من شكل سياسي جديد. لا للمنظمات، وفي مقدمتها النقابات والجمعيات الحقوقية؛ لأنها إما عميلة للخارج، أو هي جزء من أجندته. لا للاقتصاد الحر، الذي يكرس التبعية، ويمس من السيادة، وينهب ثروات البلاد. لا للتداين الخارجي، لأنه الغول الذي أكل الثروة الوطنية، ورهن البلاد للمجهول.إنها المرتكزات التي انبنت عليها الثقافة السياسية الحديثة، والعلوم السياسية التي تُدرس في كبرى الجامعات العالمية، جاء الانقلاب لكي يلغيها ويفككها، بل ويجعل منها سبب فشل من سبقه.
وتأسيسًا على ذلك، إلغاء المقومات السياسية والقانونية والدستورية التي أقيمت عليها الدولة التونسية عامة، وتجربة السنوات العشر التي تلت الثورة التونسية بوجه خاص.
تساؤلات أساسيةتغذى "النظام الجديد" من حالة حقد و"كراهية سياسية"، نمت في الأوساط الحزبية، وبين النخب، على امتداد سنوات ما بعد ثورة يناير/ كانون الثاني، ومن شعور الناس- وهم محقون في ذلك- بأنّ بطونهم الخاوية، لا تشبعها السياسة وحدها، وحساباتهم المصرفية "الحمراء"، لا تسويها النوايا الحسنة، والرفاه الاجتماعي، لا تؤسسه الشعارات مهما كانت براقة، والنمو الاقتصادي، لا تبنيه خطابات بلا مشروع، ورغبات بلا برامج.
إعلاناستثمر الانقلاب في هذا الغضب المجتمعي، الذي سرعان ما تحول إلى مطالب سياسية، بشحن حزبي وسياسي رهيب، حتى ارتفع سقف الخطاب الرسمي (الانقلابي)، إلى درجة تجاوزت طموحاته ورغباته، فرسم خريطة بلا جغرافيا، وبرامج بلا سياسات، وآمال بلا مشاريع، ومشاريع بلا تمويلات، فاصطدم بواقع مرير، وتطلعات تجاوزت إمكانات الدولة.
وزادت التجربة المحدودة، والجهل بميكانيزمات الدولة، ونواميسها، وحسابات الخارج الذي ضاقت مساحته، وتكتيكات الداخل المرتبك، ولهث "الحوزة" المحيطة بالقيادة الجديدة، وراء المناصب والغنيمة السياسية، في الدفع بقوة، بل وبسرعة فائقة، نحو جميع مؤشرات الفشل، والحصاد الصفر، إذا صحّ القول، وعدم إنجاز ما يمكن اعتماده في أيّ بناء جديد طموح، إن كان للطموحات في هذا السياق، معنى.
وعلينا هنا أن نطرح ثلاثة تساؤلات أساسية، لتفكيك "الحصيلة الصفر" للانقلاب إلى الآن:
ما الذي جعل هذا الانقلاب يعجز عن تحقيق أيّ شيء، رغم كل اليد الطولى التي لديه، خلال السنوات الخمس الماضية؟ ما هي مؤشرات الفشل، التي نتحدث عنها، ويلاحظها كل خبير أو متخصص في الشأن الاقتصادي والمالي، وفي مستوى التداعيات الاجتماعية، من بطالة وفقر وخصاصة وغيرها؟ وأخيرًا، وقد لا يكون آخرًا، ما هو الأفق الذي تترقبه البلاد خلال الفترة المقبلة؟ أسباب العجز الرئيسيةأما لماذا عجز "الانقلاب" عن تحقيق الشعارات التي رفعها، والطموحات والتطلعات التي أعلن عنها، فيمكن اختزال ذلك ــ في نظرنا ــ في ثلاثة أسباب رئيسية:
1- أنه أراد أن ينطلق من الصفر، فألغى كل شيء: الدستور، والمؤسسات، والنظام السياسي (شبه البرلماني/ أو البرلماني المعدّل)، والسياسات، والقوانين الجديدة المعدّلة، والعلاقة بالمانحين الدوليين، والعلاقات الدبلوماسية التقليدية، التي عرفتها البلاد، وكانت الأنظمة التي حكمت منذ سبعين عامًا تستثمر فيها، شدًّا وجذبًا، نزولًا وصعودًا، بحثًا عن مفاتيح أو مخارج للأزمات الداخلية العصيبة.
وعلى النقيض من ذلك، بدأ في إرساء ما وصفه "النظام المنقلب" بـ"المشروع الجديد"، الذي لم تتعوّد عليه "ماكينة" الدولة، ولم تهضمه الكفاءات الوطنية الموجودة، ولم يجد له التمويلات اللازمة.. فخسر الوقت والزمن والإرث المتوفر، فكان الفشل والعجز، والدوران في ذات المكان.. فالدول لا تتقدّم بفسخ ماضيها وتراكمات نخبها وهياكل الدولة القائمة وتقاليدها.
2- إنّ نظام الرئيس قيس سعيّد، عمل على خلق خصومات ومعارك سياسية وهمية، سماها "حرب التحرير الوطني"، واتخذ لها شعار "مكافحة الفساد"، فاكتشف أن الفساد أُخطبوط، يمتدّ في عمق الدولة ومؤسساتها، فظل كمن يقشّر مبنى خربًا، وكلما أسقط حجرًا تداعت له بقية الأحجار، ليجد النظام نفسه في دوامة لم يعد بإمكانه التخلّص منها، أو الانتصار عليها.
والنتيجة، هي أنّ الدولة غرقت في هذه المعارك، فالتفّ الحبل حول رقبتها، حتى باتت عاجزة عن الفكاك منه، فلا هي قضت على الفساد (ببعديه السياسي والمالي)، ولا هي استطاعت أن تخرج من هذه الدوامة.
وهكذا تاه التحرير، وضاع "المشروع"، ولم ينتهِ الفساد، بل امتدّت عروقه لمجالات أخرى، وتعقّدت الأدوار، وأُعيد توزيعها من جديد، دون القدرة على التقدّم قِيد أنملة.
إنّ تحرير الأوطان، يحتاج إلى مشروع ضخم، وجمع شتات النخب والشخوص الفاعلة، وتشريك الجميع في "الهمّ الوطني" المتضخم، بفعل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمؤسساتية. فالدولة في هذه الحالة البنائية الجديدة المفترضة، مثل تلك الدجاجة التي تضمّ كتاكيتها تحت جناحيها، حتى تعبر بها المسالك الوعرة، لا أن تلعن اليوم الذي ولدتها فيه.
3- إنّ المحيطين بـ"مشروع الرئيس"، بدؤُوا بالانسحاب، أو التخلّي عن الوضع الجديد، بعد أن تراكمت مشكلاته، وبات جزءًا من المشكل، وليس سبيلًا للحل، كما تمّ التسويق لذلك قبل خمس سنوات، ما جعل عديد الأطراف، التي التحقت به، وطبّلت لقراراته، وصفّقت للمحاكمات السياسية الجارية على قدم وساق إلى الآن، وبرّرت قرارات القمع وتكميم الأفواه، وسكتت عمّا يسميه معارضو الرئيس سعيّد، بـ"عملية التخريب الشامل" التي جرت خلال السنوات الماضية.. هؤلاء قفزوا من السفينة، قبل أن تغمرها مياه المحيط.. فوجد الانقلاب نفسه، مع تقدم الأيام والشهور والأعوام، وحيدًا، يواجه المشكلات المجتمعية والاقتصادية والسياسية، متشبثًا بتلك الشعارات المتكررة، التي باتت محل نقد القريبين والموالين للحكم الجديد، قبل خصومه ومعارضيه.
إعلان تصريحات غير مسبوقةفهذا المنجي الرحوي، زعيم حزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحّد"، الموالي للانقلاب، ينتقد النظام الراهن بوضوح، قائلًا: "نحن متمسّكون بـ25 يوليو/ تموز، لكننا غير معنيين بالبطء الحاصل في المنجزات واتخاذ القرارات"، مضيفًا: "إنّ مجالات السلطة الجديدة، لم تحقق ما كان منتظرًا منها"، مشيرًا إلى أنّ "الإصلاحات الدستورية لم تُنجز.. والمجلس الأعلى للقضاء لم يقع إرساؤه، والمحكمة الدستورية، لم يتم تشكيلها، وما قيل عن الثورة التشريعية، لم يُنجز إلى الآن".
ولفت الرحوي إلى أنّ "سلطة 25 يوليو/ تموز.. ليست منسجمة، فهناك أعلى هرم السلطة، وثمّة البقية التي تعمل في عزلة عنه".
من جهته، أكد عبيد البريكي، رئيس حزب "تونس إلى الأمام" (يسار)، وأحد المكونات المناصرة بقوة لانقلاب 25 يوليو/ تموز، أنّ نسق إنجاز الأهداف المعلنة، بطيء جدًا، والتشغيل متوقف، والأسعار ترتفع يومًا بعد يوم، فيما الأجور مجمّدة منذ عدّة سنوات، والمرسوم 54 الذي ضرب الحريات، لم يعد له معنى في ظل وجود برلمان تشريعي..".
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فحزب "أوفياء للوطن"، القريب من السلطة الحالية، أطلق تصريحًا خطيرًا منذ عدة أيام، على لسان رئيسته، زكية الكسراوي، التي أعلنت أنّ "رئيس الجمهورية محاصر.. وبعض المحيطين به معرقلون لمسار الإصلاح".
أما أكثر التصريحات اللافتة للنظر، والتي تعكس مستوى جريئًا من النقد للانقلاب ومساره، وأداء رئيسه، السيد قيس سعيّد، فهو الصادر عن النائب اليساري بالبرلمان، أحمد سعيداني، الذي كتب تدوينة على فيسبوك بتاريخ 20 يوليو/ تموز الجاري، شدّد فيها على أنّ "رئيس الجمهورية كسيح سياسيًا، لا يستمع لأحد، يريد أن يبدأ تحريرًا لا برنامج له، لا مال له فيه، ولا رجال.. مجلس نواب أُحيل على وضعية الشلل التشريعي العام، وأصبح منصة مصادقة على قروض.. مجلس جهات وأقاليم، اكتفى بدور يونس شلبي في مسرحية مدرسة المشاغبين ولا أزيد.. حكومة يطالبها الرئيس بالنصوص، ولا يتجرأ وزير واحد على إخباره بأنّ المشكلة مشكلة فلوس، لا معضلة نصوص.. حكومة كاملة لا يوجد فيها وزير قادر على صياغة الجملة السياسية.. مجالس محلية (بلديات)، أُقصيت عن دورها الحقيقي..".
والحقيقة، أن الاسترسال في عرض نصوص وتصريحات مماثلة، سيجعلنا أمام كمّ هائل من الانتقادات الشديدة للانقلاب، من داخل مكوناته، إلى حدّ التبرّؤ منه أحيانًا، بل إنّ أحد النواب، توجّه لرئيس البرلمان بالقول: "أتوجّه للرئيس قيس سعيّد بالقول: إن تونس تتجه نحو الهاوية، وعليه أن يسمعنا جيدًا؛ لأننا كنواب الأقرب للشعب"، وفق تعبيره.
بلا شك، فإنّ هذه التصريحات والتدوينات، تغني عن كلّ تعليق.
مؤشرات سلبية للغايةأما مؤشرات ما يصفه الخبراء وكثير من مكونات المعارضة للرئيس قيس سعيّد بـ"الفشل"، فهي كثيرة، وذات دلالات هامة، في علاقة بالدولة ومستقبلها:
1- نسبة النمو الاقتصادي والتنموي التي لا تتجاوز 1.5 بالمائة، وهي نسبة لا تخلق الثروة، ولا توفر فرص عمل، ولا تحرّك دواليب الاقتصاد، المعطّل منذ خمس سنوات، بفعل الخصومة مع "صندوق النقد الدولي"، وبعض المانحين في الخارج، ورجال الأعمال في الداخل، بسبب ما يسمى "مكافحة الفساد".
2- جمود كلي في أجور الموظفين، مقابل ارتفاع مشطّ للغاية في الأسعار.
3- مستوى البطالة المرتفع، إذ يبلغ حاليًا نسبة 15.7 بالمائة خلال الربع الأول من العام الجاري، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء، التي تشير إلى وجود 664.5 ألف تونسي عاطلين عن العمل.
4- ارتفاع حجم الدين العمومي إلى مستويات قياسية منذ 2021، تاريخ القيام بالانقلاب، من 109.23 مليارات دينار، إلى 147.40 مليار دينار في العام الجاري (2025)، ما سوف يضع ضغوطًا كبيرة على الحكومة، ويجعل تونس تواجه تحديات ضخمة على مستوى قدرتها على سداد ديونها الخارجية.
5- تواجه تونس تحديات في جذب الاستثمارات الأجنبية، بل إنّ الاستثمارات الداخلية تكاد تكون معطّلة، نتيجة تخوّف رجال الأعمال من إمكانية المساءلة القضائية، بتهم الفساد، وهو ما كان له تأثيره على النمو الاقتصادي.
اتفاقيات قروض أجنبية بالجملة صادق عليها البرلمان التونسي منذ انتخابه قبل ثلاث سنوات، بشكل أثار اهتمام غالبية المحللين في المجال الاقتصادي والمالي، في وقت كان نظام الرئيس قيس سعيّد، ينتقد تضخم القروض الأجنبية، ويعتبرها من أسس خراب الحكومات السابقة، ومن أسباب المساس بالسيادة الوطنية.
إعلانوإذا أضفنا إلى ذلك، شبه العزلة الدبلوماسية التي يعيشها النظام حاليًا، قياسًا بالمرحلة السابقة، إذا استثنينا العلاقة بالجزائر وليبيا، والنظامين الإيطالي والفرنسي، والجمهورية الإسلامية الإيرانية ومصر، لا يكاد المرء يعثر على حراك مهم مع الدول الصديقة والشقيقة لتونس تقليديًا، وحتى إن وجدت علاقات، فهي من قبيل المجاملات الدبلوماسية، التي لا تعكس اتفاقيات ولا بروتوكولات تعاون، ولا لجانًا عليا مشتركة، كما كان يجري منذ أكثر من عشرين عامًا في البلاد على الأقل.
فهل يبقى بعد كلّ ذلك، بصيص أمل، أو أفق للمرحلة المقبلة؟
لا يمكن لتونس أن تستمرّ في هذا النهج، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، لأنّ للدولة، أيّ دولة، منطقًا للتقدّم، وليس للتراجع، والشعوب لا تعيش على وقع الخطابات الرنّانة، والأمعاء الخاوية، والفقر المتزايد، وخطاب الاحتراب الذي تستخدمه السلطة ضدّ كل المعارضين مهما كانت هوياتهم.
إنّ العلاقات الدولية، لها شروطها الدنيا، ومن أهمها، الاستقرار السياسي، وهو ما لا يلاحظه الكثير من الملاحظين، الذين يُبدون قلقهم من محاصرة الحريات، واستخدام المحاكمات السياسية لتصفية المعارضين، والزجّ بالصحفيين في السجون، ويدعون إلى العودة للديمقراطية، حتى وإن لم يكن ذلك بالجدّية المطلوبة.
لذلك يبقى المشكل في تقديرنا، تونسيًا- تونسيًا، والتسوية الداخلية أنجع لتونس، ولاستقرارها، ولكلّ مرحلة ثمنها.. أما الخارج، فسيكون في كلّ الأحوال رقمًا مهمًا في أيّ تطورات قادمة، لكن بأيّ صيغة؟ وضمن أيّ شروط؟ وبأيّ كيفية؟
ذاك ما تُخبّئه الأيام المقبلة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات الرئیس قیس سعی د إلى الآن ما کان التی ت
إقرأ أيضاً:
قضية إنستالينغو في تونس بين حرية التعبير وأمن الدولة
واحدة من أبرز القضايا الإعلامية والسياسية المثيرة للجدل في تونس، اتُّهمت فيها شركة إنستالينغو (المختصة بإنتاج المحتوى الرقمي والترجمة) بإدارة شبكة للتأثير في الرأي العام وتشويه شخصيات سياسية بارزة، من بينها رئيس الجمهورية، مع نفي المتهمين لهذه الاتهامات. وتوسعت التحقيقات لتشمل مسؤولين أمنيين وصحفيين وسياسيين بارزين من ضمنهم زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس الحكومة السابق هشام المشيشي.
وبينما رأت منظمات حقوقية وأحزاب أن القضية محاولة لتقييد حرية التعبير، أكدت السلطات أن الاتهامات تتعلق بجرائم مثل التشويه والتحريض وغسل الأموال. وظهرت القضية في ظل وضع سياسي متوتر بعد الإجراءات الاستثنائية للرئيس التونسي قيس سعيد في يوليو/تموز 2021.
وفي فبراير/شباط 2025، أصدرت المحكمة أحكاما بالسجن تراوحت بين 5 و54 سنة لـ41 متهما، وسط انتقادات وجهتها حركة النهضة ومنظمات دولية بأن المحاكمة سياسية وتشوبها مخالفات قانونية.
تفاصيل القضيةفي 10 سبتمبر/أيلول 2021 دهمت وحدات أمنية بزي مدني مقر شركة إنستالينغو المختصة بإنتاج المحتوى الرقمي والترجمة في مدينة القلعة الكبرى بولاية سوسة، وحجزت المعدات التقنية ووحدات تخزين مركزية. وحققت الجهات الأمنية مع موظفي الشركة من مترجمين وصحفيين وإداريين بعد حجز هواتفهم على مدى 3 أيام.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته، أوقفت السلطات التونسية عددا من العاملين في الشركة، وكان من بينهم مؤسس الشركة هيثم الكحيلي وزوجته.
وتركزت التحقيقات على الرابط الاقتصادي بين الشركة وبعض الشخصيات السياسية وصحفيين ومدونين، واعتبرت السلطات أن تلك الشبكات استُخدمت لتمويل حملات إعلامية تهدد استقرار الدولة.
وفي مارس/آذار 2022، أصدرت دائرة الاتهام بطاقات إيداع بالسجن في حق 4 موظفين بالشركة، وذلك على الرغم من أن قاضي التحقيق كان قد قرر في مرحلة أولى إبقاءهم في حالة إطلاق سراح.
ووُجهت للموقوفين تهم تتعلق بـ"تبديل هيئة الدولة" و"حمل السكان على مواجهة بعضهم البعض بالسلاح" و"إثارة الهرج والقتل والسلب" و"ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة" و"المؤامرة لارتكاب اعتداءات ضد أمن الدولة الداخلي".
وفي يونيو/حزيران 2022، تسلمت المحكمة الابتدائية بسوسة تقريرا من لجنة التحاليل المالية أشار إلى وجود شبهة غسل أموال ومعاملات مالية مشبوهة داخلية وخارجية بين عدد من المشتبه بهم. وعلى أثر ذلك، فُتحت تحقيقات قضائية جديدة أفضت إلى توقيف 9 متهمين، من بينهم الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الداخلية محمد علي العروي، إلى جانب عدد من الصحفيين والمدونين.
إعلانولاحقا، توسعت دائرة التحقيقات لتشمل 28 شخصا إضافيا، ليصل العدد إلى 41 متهما من بينهم رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، والقيادي في الحركة السيد الفرجاني.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024، قررت المحكمة الابتدائية بسوسة التخلي عن النظر في القضية وإحالتها إلى القطب القضائي لمكافحة الإرهاب في تونس العاصمة.
السياق السياسيتزامنت قضية إنستالينغو مع قرارات الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو/تموز 2021، التي تمثلت بإقالة حكومة هشام المشيشي، وتجميد اختصاصات البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب، وتعليق عمل المحكمة الدستورية، وحل المجلس الأعلى للقضاء واستبداله بهيئة مؤقتة تحت سيطرة السلطة في فبراير/شباط 2022.
واعتبر حقوقيون وسياسيون هذه الإجراءات انقلابا على الدستور، وتصاعدت حملة الحكومة ضد ما سمتها "منظومة الفساد الإعلامي والسياسي"، ووُضعت شركة إنستالينغو ضمن هذا السياق.
وقالت جهات مقربة من السلطة إن الشركة لم تكن مجرد مؤسسة إعلامية، بل جزءا من شبكة تأثير سياسي وإعلامي تعمل لصالح أطراف داخل السلطة السابقة، وقد تكون مرتبطة بجهات خارجية.
ومن جهة أخرى، رأى محللون أن القضية تعكس صراع مراكز القوى داخل "الدولة العميقة"، وتحمل أبعادا أعمق من مجرد مخالفات إعلامية، إذ تمثل معركة لإعادة ترتيب المجال العمومي في تونس وفرض تصور جديد لحرية الإعلام وأمن الدولة، عبر تحييد خصوم الرئيس وأدواتهم، وعلى رأسهم حركة النهضة.
أبرز الاحكام الصادرةأصدرت المحكمة التونسية في 5 فبراير/شباط 2025 أحكاما قضائية بحق 41 متهما في قضية "إنستالينغو"، من بينهم شخصيات بارزة في السياسة والإعلام والأمن. وتنوعت الأحكام بين السجن والغرامات ومصادرة الممتلكات، وشملت أحكاما حضورية وأخرى غيابية.
ومن بين أبرز الأحكام، الحكم بالسجن 22 سنة مع غرامة 80 ألف دينار ومصادرة الأملاك بحق رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي. كما حُكم على رئيس الوزراء السابق هشام المشيشي بالسجن 35 سنة، وعلى مدير المخابرات السابق لزهر لونقو بالسجن 15 سنة وغرامة 300 ألف دينار، إضافة إلى المنع من الترشح للانتخابات لعشر سنوات.
وشملت الأحكام أيضا الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الداخلية محمد علي العروي بالسجن 13 سنة، والمسؤول الأمني توفيق السبيعي بالسجن 8 سنوات، والصحفية شذى الحاج مبارك بالسجن 5 سنوات، والصحفية شهرزاد عكاشة بالسجن 27 سنة، والمدونَين سليم الجبالي وأشرف بربوشوكان بالسجن 12 و6 سنوات على التوالي.
ومن بين المسؤولين والسياسيين الآخرين وزير الخارجية السابق رفيق عبد السلام الذي حُكم بالسجن 35 سنة، والقيادي في النهضة السيد الفرجاني بالسجن 13 سنة مع غرامة 50 ألف دينار ومصادرة ممتلكاته، والوزير السابق رياض بالطيب بالسجن 8 سنوات.
أما المؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي، فحُكم يحيى الكحيلي بالسجن 18 سنة مع غرامة 50 ألف دينار ومصادرة أملاكه، وحُكم سالم الكحيلي بالسجن 54 سنة، وحُكم مؤسس شركة إنستالينغو هيثم الكحيلي بالسجن 38 سنة مع غرامة 80 ألف دينار.
كما حصل معاذ الغنوشي ابن رئيس حركة النهضة، على حكم بالسجن 35 سنة، وسمية الغنوشي ابنته ومديرة موقع إلكتروني، بالسجن 25 سنة، وعلى الوزير السابق من حركة النهضة لطفي زيتون بالسجن 35 سنة، وعلى رئيس منتدى الشرق وضاح خنفر بالسجن 32 سنة مع غرامة 80 ألف دينار.
إعلان ردود الفعلوبينما رحب أنصار الرئيس التونسي بالأحكام واعتبروا أنها كشفت تورط حركة النهضة في حملات تشويه ضد خصومها، وصف حقوقيون وسياسيون الأحكام بأنها "سياسية" واعتبروا أن القضاء استُخدم لتصفية حسابات سياسية خصوصا ضد قيادات النهضة.
وعقب صدور الأحكام في القضية، قال حزب النهضة في بيان إن ما حدث هو "محاكمة سياسية ظالمة تأتي في سياق مزيد من التشفي والاعتداء على الحقوق والحريات وتُمثل انتهاكا صارخا لاستقلالية القضاء".
وأوضحت الحركة أن شركة "إنستالينغو" مختصة بإنتاج المحتوى الإعلامي والصحفي بما في ذلك الترجمة، وتقدم خدمات إعلامية متنوعة منها المشاركة في الحملات الانتخابية لعدد من المترشحين للحملات الانتخابية الرئاسية لسنة 2019، وليس من بينهم مرشح حركة النهضة في تلك الانتخابات.
وأضافت أن "هذه القضية شملت عددا من السياسيين وأعضاء الحكومات السابقين وموظفي الدولة والصحفيين والمدونين، ولا علاقة لعدد منهم ببعضهم البعض، ولم تثبت المحكمة هذه العلاقة بينهم".
ودعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان السلطات التونسية إلى وقف اضطهاد المعارضين واحترام حرية التعبير، وطالب بالإفراج عن كبار السن والمرضى. وذكر المتحدث باسم المفوضية أن المحاكمة شهدت انتهاكات مزعومة للعدالة، وحث تونس على تعديل قوانينها لتتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.