لجريدة عمان:
2025-05-27@21:14:11 GMT

الإغراق المعلوماتي في الحرب على غزة

تاريخ النشر: 26th, May 2025 GMT

تشكل وسائل التواصل الاجتماعي منصة لتداول المعلومات والمعرفة والأخبار، وتتسارع فيها المعلومات بشكل كبير جدًا، لا سيما مع دخول أدوات الذكاء الاصطناعي في معترك الإنترنت لتكون مسرّعةً للتداول المعلوماتي، ولذا يعتبر كثيرٌ من الناس أن وسائل التواصل الاجتماعي هي المصدر الأول للمعلومات والأخبار والمعرفة لديهم، مستغنين بذلك عن المنصات الإعلامية الأخرى التي توصف اليوم بـ«التقليدية».

من هنا يظهر لدينا مفهوم «الإغراق المعلوماتي» (Information overload) الذي ظهر عند ألفين توفلر في كتابه (صدمة المستقبل) وذكر: «عندما يُغمر الفرد في موقف سريع التغير وغير منتظم، أو في سياق مليء بالجدة، تنخفض دقته التنبؤية. لم يعد بإمكانه اتخاذ تقييمات صحيحة بشكل معقول، وهو ما تعتمد عليه السلوكيات العقلانية»، وهكذا ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في زيادة الإغراق المعلوماتي عند كثير من المستخدمين لها.

يحاول هذا المقال النظر إلى مسألة الإغراق المعلوماتي في الحرب على غزة، وكيف أن هذا الإغراق قد أثر على التضامن العالمي عموما والعربي خصوصا مع القضية، مع التأكيد على أهمية وسائل التواصل الاجتماعي التي لا يشك فيها أحد، إذ إنها وفّرت للناس استقاء المعلومات من مصادر مختلفة دون الحاجة للاحتكار المعلوماتي الذي كانت تمارسه وسائل الإعلام التقليدية في السابق، كما أنها ساهمت في الحديث الحر عن القضايا حول العالم بحرية دون تدخل أي موجّهات أو تصفيات كانت تتدخل في وسائل الإعلام في السابق.

تشهد الأخبار في وسائل التواصل الاجتماعي تسارعًا كبيرًا، إذ إنها تخرج بشكل مستمر ومتسارع من كل مكان، وتتسارع معها بالتالي التحليلات والمدخلات أيضًا، مما يساعد في تشتيت الحقيقة وتشتيت الشعور بالجرائم الإنسانية التي يرتكبها الكيان المحتلّ في غزة، مما يقلل من عمق الشعور وتأثيره في الكيان الهوياتي للأفراد، لتصبح الجرائم في مرحلة ما خبرًا يمرّ دون أي اعتبار أو توقّف عنده، مجرد «كليشيه» يُضم في تغريدة أو منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يدعى عند كثيرين «تطبيع الجريمة»، وللتدليل على هذا، يُمكن عقد مقارنة بين ردود الفعل التي نتجت عن مشهد محمد الدرّة قبل 25 عامًا، أثناء الانتفاضة، مقارنة بمشاهد الأطفال الذين يقتلون بطريقة أبشع وأكثر بهيمية، بالحرق والسحق والتجويع وغيرها، لكن الأول أحدث أثرًا عميقًا في نفوس المتلقين، العرب خاصة، واستمر وجوده في الذاكرة إلى اليوم، حتى بالنسبة لأولئك الذين لم يشهدوه مباشرة من مواليد السنين الأولى من الألفية الثانية، لكنهم سمعوا من أهلهم ومجتمعهم وبقي في ذاكرتهم، أما المشاهد الثانية، فعلى الرغم من أن هذا الجيل يشاهدها مباشرة، إلا أن تأثيرها على الشعور وعلى التحليل العقلي، بل بقاءها في الذاكرة، أقل بكثير من المشهد الأول، والسبب في ذلك أن المعلومات والقصص التي تتوارد متسارعة وكثيرة جدّا للحد الذي جعل وجودها في الذاكرة وتعميق الشعور بها أقل بكثير من المشاهد السابقة، وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تطبيع الجرائم بشكل كبير، إذ إن المشاركات للقصص والتعرض لها بشكل مستمر جعلها عاديّة ورقمًا مضافا للأرقام السابقة فقط، ولم تستخدم في التضامن، الذي تحوّل هو الآخر إلى تضامن مع السياق العام فقط، أي مع القضية بشكل عام ومضاد للجرائم التي تحدث، دون أنسنة الضحايا بمختلف اعتباراتهم (أطفال، نساء، كبار سن، عاجزين.. إلخ).

استغلّت إسرائيل هذه المنهجية حتى تحيّد شعور الشارع العربي والعالمي في إبادتها الجماعية الطويلة التي حدثت في غزة منذ أكتوبر 2023م، إذ إن الآلة الإعلامية الصهيونية قد فهمت خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي واستشعرت خطورتها في التأثير على وجودها بعد انتهاء سيطرتها على وسائل الإعلام التقليدية لا سيما الغربية، فعملت على حالة الإغراق المعلوماتي في مواقع التواصل الاجتماعي، فيما يُفهم بظاهره أنه ترويج لغير أجندتها، إلا أن العمل عليه فيما يبدو كان مقصودًا، مع الدفاع -بالطبع- عن ذاتها وسياساتها ورغبتها في تنفيذ أهدافها من الحرب، فانظر مثلا إلى تغريدة إيدي كوهين المنشورة في 25 مايو هذا، التي يقول فيها: «أطلقوا سراح المخطوفين، وكل شيء يتوقف. لا تريدون؟ الحرب ستستمر»، وعلى الرغم من علم كوهين أن شعوب العالم جميعا عرفت وتشاهد مباشرة الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة واستهداف المدنيين، إلا أنه يتحدث بكلّ جرأة حول استمرارية الحرب على غزة في حال لم يتم الرضوخ لمطالب دولة الاحتلال، وكذلك في تغريدة لأفيخاي أدرعي يطرح فيه سؤالا استنكاريّا عن غياب حماس يقول فيه «مين اللي يدافع عن السكان اليوم؟»، ومرتديا في مقطع مصوّر اللبس العسكري، في حالة عنجهية فجة تمارسها إسرائيل بجميع وسائلها الإعلامية.

تزايد الأخبار والمقاطع والمعلومات تجعل من الضحايا مجرّد أرقام سواء عند الآلة الإعلامية الصهيونية أو الوسائل الإعلامية في باقي العالم، فتسارع الأخبار وكثرة المعلومات والأخبار يزيد من حالة الارتباك والقلق عند أولئك الذين يدافعون عن القضية حتى يدخلوا في حالة عدم الاهتمام بها. والإغراق المعلوماتي يتخذ شكلا آخر من صرف الانتباه غير هذا الذي يحدث الارتباك والقلق، وهو شكل توجيه الانتباه عن القضية أساسا، فإن كثرة المعلومات الواردة في مواقع التواصل الاجتماعي حول قضايا مختلفة من العالم، من الحرب الروسية- الأوكرانية، إلى الحرب التجارية وقرارات الإدارة الأمريكية الجديدة، وغيرها من القضايا التي تمس الناس في العالم، وفي كل واحدة تصدر آلاف الأخبار في اليوم الواحد عنها، يجعل الذهن في شتات وغير قادر على التركيز على قضية واحدة، فعلى الرغم من أن القضية الفلسطينية لا تزال قضية الشارع العربي الأولى والمسيّس الأكبر له، إلا أنها تحولت بسبب هذه العملية إلى قضية أخرى تحدث في الشرق الأوسط إضافة لقضايا كثيرة مستمرة.

هكذا تُغيّر وسائل التواصل الاجتماعي المعادلة الإعلامية والشعورية والحالة الفكرية السياسية إلى معادلة (الحرية مقابل الفوضى)، فإن المستخدمين يمتلكون الحرية الكاملة في الوصول للمعلومات والمشاركة في الأحداث وتشاركها مع بعضهم البعض، والحديث فيما يريدون ووقتما يريدون، مع متابعة مستمرة للآلات الإعلامية التي تبث الأخبار بالثانية، لكنهم في الجانب المقابل يعيشون حالة من التشتت الذهني واختلاط الحقيقة عليهم والتفرقة بين الخبر الحقيقي والخبر المزيّف، وهكذا يخلص الناظر إلى أن الوصول للمعلومة ليس وصولا إلى الحقيقة، بل قد يكون -هو نفسه- جزءًا من عملية الابتعاد عن الحقيقة، ومما يزيد من حالة الفوضى هذه أن مواقع التواصل الاجتماعي مع جميع المستخدمين الحقيقيين لها، تشاركهم فيها الحسابات المزيفة والذكاء الاصطناعي وحسابات الأخبار المزيفة، مما يوصل الكثير من المستخدمين إلى تجنب متابعة الأخبار أساسًا، بسبب الفوضى المستمرة التي يتعرّضون لها ولا يستطيعون من خلالها الوصول إلى الحقيقة الخالصة التي يريدونها، ولذلك يتسلل إليهم يأس خفي يدعوهم للتوقف عن متابعة أي شيء متعلق بالسياسة أو الأخبار عموما، وهذا ليس منحصرًا على العالم العربي فقط، بل يشمل سكّان الكوكب جميعا، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، شعر 65% من البالغين بالحاجة للحدّ من استهلاكهم الإعلامي المتعلق بالسياسة بسبب فرط الوصول المعلوماتي مما يسبب لهم الإرهاق والارتباك، وبالنسبة للحزبين الرئيسين في أمريكا فإن الديمقراطيين يشعرون بالحاجة لتجنب الأخبار عموما بنسبة 72% في مقابل 59% للجمهوريين، أما الجمهوريون فإنهم يشعرون بالحاجة لتجنب أخبار التغير المناخي بنسبة 48% في مقابل 37% للديمقراطيين، وهذا يدل على أن الإغراق المعلوماتي يؤدي بالضرورة إلى التوقّف عند مرحلة ما من متابعة الأخبار السياسية- أو أي أخبار أخرى- بسبب الشعور بالتعب وارتباك الوصول إلى الحقيقة.

في هذه الحالة، وبسبب زيادة الإغراق المعلوماتي مما يشكّل زيادة في العرض مقابل الطلب عليها، فإنه يجب أن يتشكّل وعيٌ في كيفية قراءة الأخبار السياسية، ومتابعة الجرائم الوحشية التي تحدث في غزة، وعدم الاكتفاء بالقراءة الأفقية للأخبار التي تُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا الوعي يتضمن التمحيص المعرفي للأخبار وتفعيل الحاسة النقدية أمام كل خبر قبل أي تلقٍّ عاطفيٍّ أو ردّة فعلٍ مبنية على خبرٍ مزيف، وقبل الوصول إلى حالة التعب والإرهاق ثم التوقّف كليّا سواء عن متابعة الأخبار أو عن مناصرة القضية، مما يتيح لدولة الاحتلال أن تستمر في جرائمها ووحشيتها في غزة دون الشعور بأي خطر.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: مواقع التواصل الاجتماعی وسائل التواصل الاجتماعی إلا أن فی غزة

إقرأ أيضاً:

زوجة الرئيس الفرنسي “تصفعه”.. ومواقع التواصل تشتعل والإليزيه يرد مضطرًا

أثارت لقطات مصورة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزوجته بريجيت ماكرون، أثناء نزولهما من الطائرة في هانوي، عاصمة فيتنام، موجة جدل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما ادعى البعض أن بريجيت صفعته على وجهه أمام الكاميرات.

لحظة عابرة تتحول إلى عاصفة

في اللقطات التي تم تداولها بكثافة، يظهر ماكرون وهو يتفاجأ فجأة أثناء نزوله من الطائرة، بينما تمر ذراع امرأة ترتدي فستانًا أحمر بجانب وجهه. وقد فسّر بعض مستخدمي وسائل التواصل هذه الحركة بأنها صفعة من بريجيت ماكرون، فيما رآها آخرون مجرد تفاعل عابر بين زوجين.

الإليزيه يرد: لا صفعة.. بل تنفيس عن التوتر

ردًا على هذه المزاعم، أصدر قصر الإليزيه بيانًا رسميًا نفى فيه تمامًا وقوع أي عنف بين الرئيس وزوجته. وقال البيان:

“الصور المتداولة حقيقية، لكنها لا تتضمن أي صفعة. كانت لحظة سريعة من تبادل عفوي للتخفيف من التوتر قبل بداية الرحلة”.

اقرأ أيضا

التحقيقات تتصاعد.. مشاهد جديدة وتصريحات صادمة من مدير أمن…

مقالات مشابهة

  • حادث مأساوي يفسد احتفالات ليفربول بلقب الدوري… وكلوب يعلّق
  • إبراهيم عيسى: الاعتماد على وسائل التواصل لقياس للرأي العام خطأ
  • إبراهيم عيسى: وسائل التواصل الاجتماعي أداة بيد الإخوان للتأثير على الرأي العام
  • قومي حقوق الإنسان يناقش تأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي
  • فضح الانتهاكات.. القومي لحقوق الإنسان يناقش تأثير السوشيال ميديا
  • زوجة الرئيس الفرنسي “تصفعه”.. ومواقع التواصل تشتعل والإليزيه يرد مضطرًا
  • 455 خريجاً من برنامج تطوير مديري وخبراء «التواصل الاجتماعي»
  • وسم “استقلال 79” يعتلي منصات التواصل الاجتماعي
  • تعليق على «التواصل الاجتماعي» يكلف شاباً 70 ألف درهم