حين تصمت الأقلام الكبيرة، يبكي الورق، واليوم، بكت إفريقيا قبل العالم، فقد أسدل الموت ستاره على آخر فصل من سيرة أحد أعظم أدبائها: نغوجي وا ثيونغو، الكاتب الكيني والمناضل الثقافي، الذي غيّبه الموت عن عمر ناهز 87 عامًا، في منفاه الاختياري بمدينة بوفورد بولاية جورجيا الأمريكية، لكنه ترك وراءه مكتبةً من الكلمات النابضة بالحياة والمقاومة، وسيرةً تشبه سيرة الأوطان الجريحة التي لم تتخلَّ عن الحلم.

وُلد نغوجي في 5 يناير 1938 بقرية كاميرييثو في كينيا، ونشأ في بيئة ريفية تحت نير الاستعمار البريطاني، حيث كانت الأرض تُغتصب، والهوية تُداس، واللغة تُقمع. كانت طفولته شاهدة على أهوال "تمرد الماو ماو"، الذي ألهمه لاحقًا في رواياته، وخاصة أول أعماله "لا تبكِ يا ولدي" عام 1964، التي شكّلت صوتًا جديدًا في الأدب الإفريقي الناطق بالإنجليزية.

لكن نغوجي لم يرضَ أن يكون صوته مسموعًا بلغة المستعمر فقط، فقرر التمرد، لا على السلطة السياسية وحدها، بل على السلطة اللغوية. كتب مسرحية "سأتزوج حين أريد" عام 1977 باللغة الكيكويو، لغته الأم، بالتعاون مع مزارعين وعمال، ما أدى إلى سجنه دون محاكمة. وفي زنزانته كتب روايته "الشيطان على الصليب" على ورق التواليت، في مشهدٍ أصبح رمزًا لإرادة الكلمة في وجه القمع.

اختار نغوجي المنفى عام 1982، واستقر في الولايات المتحدة، حيث واصل الدفاع عن حق الشعوب الإفريقية في الكتابة بلغاتها الأصلية. اعتبر اللغة سلاحًا مقاومًا، وهاجم "الاستعمار الثقافي" في كتابه الشهير "تحرير العقل"، داعيًا إلى الانعتاق من سيطرة اللغة الإنجليزية بوصفها أداة للاستعمار.

من أبرز رواياته أيضًا: "بتلات الدم"، و"ساحر الغربان"، و"الثورة المستقيمة" التي تُرجمت لأكثر من 100 لغة. كما كتب مذكراته في عملين بارزين: "أحلام في زمن الحرب"، و"مصارعة الشيطان"، حيث رسم فيهما ملامح رحلته الشخصية من القرية إلى المنفى، ومن الأسْر إلى الفكر الحر.

رغم ترشحه مرارًا لجائزة نوبل، إلا أن نغوجي لم يكن بحاجة إلى تتويج، فقد نال حب القرّاء وتقدير المفكرين والكتاب، وبات أحد أعمدة الأدب الإفريقي الحديث، ومُلهمًا لأجيال تبحث عن الحرية عبر الكلمة.

اليوم، يرحل نغوجي وا ثيونغو، لكن صوته سيبقى عابرًا للغات، محمولًا على صفحات رواياته، وشهادته على زمن الاستعمار والاضطهاد والمقاومة، درسًا خالدًا في أن الكتابة الحقيقية لا تموت، حتى وإن مات كاتبها.

طباعة شارك إفريقيا نغوجي وا ثيونغو الكاتب الكيني والمناضل الثقافي الاستعمار البريطاني

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: إفريقيا الاستعمار البريطاني

إقرأ أيضاً:

عبد الله الثقافي يكتب: الحرب جرح لا يندمل

الحرب والقتل ليسا سبيلًا إلى حلّ المشكلات، بل هما سفاهة وجريمة عظيمة يدفع ثمنها الأبرياء من الأطفال والنساء والضعفاء. فالدماء التي تُسفك ظلماً تلطّخ وجه الإنسانية، وتبقى شاهدة على خيبة العقل وانطفاء الضمير.

إنّ العالم اليوم في أمسّ الحاجة إلى قائد رشيد يتفكر في مستقبل الإنسانية، ويعمل لمنافع الأمة جمعاء، بعيدًا عن نزوات السلطة وشهوة السيطرة. فالتفكر في المصير الإنساني، والنظر في نتائج الاحتلال، والتأمل في أحوال الأمم عبر التاريخ، كلّها دروس تدعو إلى نبذ الحرب وإيثار السلام.

لقد أثبت التاريخ أنّ الغزو جريمة لا تُمحى من ذاكرة الزمان، وأن الاحتلال مهما طال، لا يولّد إلا الحقد والثأر. فكل حرب تُخلف جيلاً غاضباً، وكل ظلم يزرع في القلوب بذور كراهية لا تموت.

إنّ ما تمارسه إسرائيل من عدوان وغطرسة، هو مثال صارخ على مصير كلّ دولة تبني مجدها على أنقاض الأبرياء. فمهما بلغت من القوة، فإنها تموت في داخلها بالذلّة والمسكنة، لأنّ الظلم لا يدوم، والحقّ لا يُقهر.

يا قادة الدول، تفكروا مليّاً قبل أن تفتحوا أبواب النار بأيديكم. اسألوا أنفسكم:
ماذا حصدتم من الحروب؟
وماذا كسبتم من تجارة الأسلحة؟
أهي أرباحٌ زائلة؟ أم دماءٌ باقية على جبين التاريخ؟
لقد آن للعالم أن يتعظ، وأن يكتب فجرًا جديدًا من السلام والعدالة. فالحروب لا تصنع النصر، بل تصنع الندم، ولا تبني الحضارة، بل تهدمها.
قال الله تعالى:«وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»
[الأنفال: 61]

الكلاب تأكل لحوم الإنسان، والسارقون ينهبون أموال الفقراء، ويموت الصغار جوعًا وعطشًا، والأطباء عاجزون لكثرة الجرحى، والطيور تحوم حول جثث البشر.
وَرَاء ذلك كله قلوبٌ لا رحمة فيها ولا إنسانية.وقد صار نتنياهو أكبرَ مجرمٍ في التاريخ.

فانتظروا – يا أمة العرب – الخيانةَ والكيدَ في صورة الحق والصدق، والصهاينة يفتحون ملفًا آخر من القتل والحرب والتجسس، وكأنها أصبحت لهم متعةً قديمًا وحديثًا.
فليكن السِّلم طريقنا، والعقل رائدنا، والإنسانية ميثاقنا، حتى يعيش العالم في أمنٍ ووئام، بعيدًا عن ويلات الحروب وجراح التاريخ.

طباعة شارك إسرائيل السلام العدالة

مقالات مشابهة

  • قرارات بغلق 21 منشأة طبية مخالفة في حملة للعلاج الحر بالإسماعيلية
  • التيار الوطني الحر يكرّم شهداءه وموتاه في أستراليا
  • رحيل ديان كيتون عن 79 عامًا وسط غموض حول أسباب الوفاة
  • المرأة اليمنية.. حضور فاعل في مقاومة الاحتلال البريطاني
  • عبد الله الثقافي يكتب: الحرب جرح لا يندمل
  • الدقهلية: ضبط أدوية مهربة ومنتهية الصلاحية بمراكز جلدية وتجميل في المنصورة ودكرنس
  • صلوا عليهما الظهر والعصر.. وفاة ربة منزل بعد ساعتين من رحيل زوجها في قنا
  • إدارة العلاج الحر بالبحيرة تُطْلِق سلسلة دورات تدريبية للعاملين بالمنشآت الطبية الخاصة
  • صور| صقور الإنتاج المحلي تنتزع صدارة شوط "الحر" في سباق الملواح
  • الإنتاج المحلي تنتزع الصدارة في شوط (الحر) بسباق الملواح ضمن معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2025