عوالم خفية.. الجزيرة نت تحاور عالما عربيا فك شفرة ممالك النمل
تاريخ النشر: 2nd, June 2025 GMT
في زمن تتجه فيه الأضواء إلى العناوين اللامعة والمواضيع المثيرة اختار الدكتور مصطفى شرف الأستاذ الزائر بمتحف ليفربول للتاريخ الطبيعي أن يضع عدسته على عالم صامت صغير لكنه معقد ومبهر، وهو عالم النمل.
لم يكن مجرد اختيار علمي، بل شغف ولد مبكرا في ركن من أركان منزله بإحدى قرى محافظة القليوبية المصرية خلال سنوات الإعدادية، وتحول مع الزمن إلى مهنة ورسالة حياة.
يتحدث شرف عن أنواع النمل التي اكتشفها كما لو كان يسرد أسماء أبنائه، وكل اسم يحمل قصة وموقعا ولحظة دهشة لا تنسى، وعندما صارحته بأنني شعرت بذلك ابتسم وقال ببساطة "هم بالفعل أبنائي".
قبل الغوص في تفاصيل علم النمل واكتشافات الدكتور مصطفى شرف كان هناك سؤال ملحّ رأينا أن نستهل به الحوار بشأن الدوافع التي تجعل إنسان يهب حياته للنمل، هذا الكائن الصغير الذي قد لا يثير في أذهان كثيرين سوى الضيق أو السخرية، خاصة في مجتمع مثل مصر، حيث يغلب التوجه نحو التخصصات التي تضمن مستقبلا مهنيا واضحا، ولا سيما بين طلاب كليات العلوم.
حين طرحنا عليه هذا السؤال لم يخف سعادته، وقال إنه في طفولته كان يجلس في ركن هادئ من البيت ويراقب سلوك النمل وماذا يحدث حين تلتقي نملتان في الطريق، وماذا تفعل مستعمرة النمل إذا ماتت واحدة من أفرادها.
إعلانوأضاف "هذا ما قادني لاحقا لقراءة كتاب لغة الكيمياء عند الكائنات الحية للدكتور أحمد مدحت إسلام، ولمتابعة حلقات النمل في برنامج الدكتور مصطفى محمود (العلم والإيمان)".
لكنه كغيره من الطلاب في بيئة لا ترى النجاح إلا عبر كلية الطب كان يأمل أن يحقق رغبة أسرته في دراسة الطب، لكن القدر اختار له طريقا آخر، واليوم لا يخفي رضاه بذلك قائلا "أنا خلقت لأكون عالم نمل".
قاده هذا الشغف المبكر إلى قسم الحشرات في كلية العلوم بجامعة عين شمس، وهناك اختار أن يتخصص في النمل، وقال "عندما قررت أن أبدأ لم يكن هناك سوى أستاذ واحد في مصر يعمل في هذا المجال، وكان في كلية التربية، ومر على دراسته لنمل مصر أكثر من 20 عاما، فكان علي أن أبدأ فعليا من الصفر".
في الماجستير، اختار موضوعا عن مقارنة أنواع النمل بين الدلتا وسيناء، وفي الدكتوراه قدم عملا جادا لدراسة كل أنواع النمل في مصر، والذي صار بمثابة انطلاقة حقيقية في التخصص، ويضيف "كان إنجازا فارقا، فقد استطعت أن أوثق 147 نوعا من النمل في مصر".
ورغم ما حققه من إنجازات علمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه فإن شرف يعتبر أن الانطلاقة الحقيقية -كما يصفها- كانت في قلب شبه الجزيرة العربية، حيث عمل محاضرا في جامعة الملك خالد بالسعودية في البداية، قبل أن يتلقى عرضا للعمل في جامعة الملك سعود، ليكوّن هناك شراكة بحثية مع زميله الدكتور عبد الرحمن بن سعد الداود.
يتذكر شرف سنة 2009 حين تلقى هذا العرض الذي لم يتردد لحظة في قبوله، فقد أحس أن هذه الدعوة ستكون بمثابة فتح علمي جديد بدأ بتعاون بسيط ليصبح شراكة بحثية استمرت 15 عاما استطاعا خلالها معا اكتشاف 50 نوعا جديدا من النمل.
ومن بين الأنواع التي اكتشفاها خلال تلك الرحلة نملة "مو صلاح" التي اكتشفت في منطقة صلالة بسلطنة عمان، وسميت على اسم نجم الكرة المصري محمد صلاح، وتنتمي هذه النملة إلى جنس "ميرانوبولوس"، وتتميز بحركتها البطيئة وولعها بالأعشاب الخفيفة حتى إن اسمها العلمي بات "ميرانوبولوس مو صلاح"، ويبتسم وهو يروي تفاصيل حركتها المتأنية وكأنها تسير على سجادة من الضوء.
إعلانثم هناك نملة "باراسيسيا رفعت" -التي عثر عليها في جبال عسير جنوب غرب المملكة العربية السعودية-، وسميت تكريما لشيخ قراء القرآن الشيخ محمد رفعت قارئ القرآن المصري، ويتحدث عنها وكأنها قصيدة مورفولوجية، يصف فيها بدقة شكل رأسها وتوزيع شعيراتها ونقوش جسدها الدقيقة.
ويزيدك اندهاشا حين يحدثك عن نملة "نيسوميرميكس زاهري" التي اكتشفت في جبال فيفاء، وقد أطلق عليها هذا الاسم تكريما للشيخ عبد العظيم زاهر قارئ القرآن المصري، وهذه النملة النادرة تتمتع بخصائص تشريحية مدهشة تميزها عن بقية جنسها، من رأسها الدقيق إلى الشعيرات التي تغطي جسدها في تناسق هندسي.
وبعيدا في أقصى جنوب شبه الجزيرة العربية -تحديدا في جزيرة سقطرى اليمنية بالمحيط الهندي- كان الاكتشاف الآخر، وهو نملة "مونوموريوم الغزالي" التي اختار لها اسم المفكر الكبير محمد الغزالي، ويقول عنها إنها تنتمي إلى جنس معروف بتنوعه وانتشاره، لكن هذا النوع كانت له بصمته الخاصة، من قرون استشعارها إلى تفاصيل العيون والنحت على الجسم.
أما وسط المملكة العربية السعودية فقد شهد ميلاد نملة "تريكوميرميكس المسيري" التي حملت اسم الأستاذ الدكتور محمد المسيري من جامعة الأزهر، ويقول عنها إنها نموذج حي على تأقلم الكائنات مع البيئات القاحلة، بما تمتلكه من أشواك طويلة وبنية دقيقة لقرون الاستشعار.
وفي البيئة الصحراوية نفسها ظهرت نملة "تريكوميرميكس شاكري" التي سميت على اسم الشيخ محمود محمد شاكر، ويصفها الدكتور شرف بفخر شديد، مشيرا إلى خصائصها المورفولوجية التي تكشف عن عبقرية خلق مذهلة، من بنية الرأس إلى نمط توزيع الشعيرات.
كما حظي الشيخ محمد صديق المنشاوي بالتكريم أيضا من خلال نملة "تيمنوثوراكس المنشاوي" المكتشفة في جبال عسير بجنوب غرب المملكة العربية السعودية، وهي نملة تنتمي إلى جنس يتميز بالندرة الشديدة والتفرد في صفاته المورفولوجية أو الشكلية.
أما أكثر الاكتشافات التي لاقت تفاعلا عالميا فهي نملة "كريما توغاستر جاسيندا" التي أُطلق عليها هذا الاسم تكريما لرئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة جاسيندا أرديرن تقديرا لتعاطفها الإنساني مع المسلمين بعد الهجوم الإرهابي في بلادها عام 2019.
وبتأثر واضح، يقول إن النملة تنتمي إلى جنس متنوع، لكن هذا النوع الجديد يمتلك بنية فريدة، كما يتميز بجمال لونه وتباينه بين الجسم أسود اللون والبطن ذهبية اللون، مما يجعله مميزا بوضوح وأناقة عن بقية الأنواع، وكأنها تجسيد رمزي لشخصية الزعيمة التي حملت اسمها.
إعلانويقول "كل اكتشاف من هذه الاكتشافات له مكانة خاصة عندي، فأن تجد مخلوقا لم يعرف أحد بوجوده على الأرض وأن تختارك الأقدار لتكون أول من يعرّف الناس به فهذا أمر يدعو للفخر والامتنان".
ويضيف "كم من المخلوقات انقرضت قبل أن يعرف أحد بوجودها؟"، ويشير إلى أن هناك نحو 15 ألف نوع معروف من النمل حتى اليوم، وربما مثلها أو أكثر لا يزال في طيات الأرض لم يكتشف بعد.
ويتحدث بفرح عن استقبال بعض المشاهير الذين أُطلقت أسماؤهم على هذه الأنواع، خاصة عندما سئلت جاسيندا أرديرن في مؤتمر صحفي عن شعورها بتسمية نملة باسمها، وأبدت سعادتها البالغة بذلك حيث أشارت إلى أن هذا التكريم استثنائي وغير معتاد.
وعن كيفية اكتشاف نوع جديد من النمل، يوضح أن الأمر يبدأ بشعور داخلي لحظة العثور على نملة تنتمي إلى جنس نادر، ويقول "أفحصها بالميكروسكوب الإلكتروني، وأبحث في تفاصيل دقيقة مثل توزيع الشعيرات وبنية الرأس وشكل قرون الاستشعار، وعندما أجد أنها تختلف عن كل ما رأيته من قبل أدرك أنني أمام كنز علمي".
ولا يخفي فرحته حين يؤكد اكتشاف نوع جديد، بل يعترف وهو يضحك بأنه قد يقفز من مكانه أو يصرخ فرحا، تماما كما يفعل لاعب كرة أحرز هدفا حاسما.
ويختم قائلا "لم تكن هذه الرحلة لتكتمل لولا وجود شريكي في الاكتشاف الدكتور عبد الرحمن بن سعد الداود الذي رافقني خلال هذه السنوات وشاركني الشغف والتفاني، وجعل من هذه المغامرة العلمية قصة تستحق أن أرويها للجزيرة نت".
قد يسأل البعض عن قيمة اكتشاف نوع جديد من النمل، ويجيب شرف قائلا "هذا السؤال سمعته مرارا، منهم من يسأله بلطف، ومنهم من يقذف به فظا ساخرا!".
وأضاف بثقة "أول خطوة نحو فهم البيئة من حولنا أو نحو تقليل ضرر مكوناتها أو تعظيم نفعها تبدأ بالمعرفة، أن تعرف ما الذي يعيش معك على هذا الكوكب، هذا هو جوهر عملي، أن أساعد الناس على معرفة ما يوجد تحت أقدامهم من مخلوقات لا يرونها، لكنها تؤثر على حياتهم أكثر مما يتصورون".
إعلانوتابع "كثير من النمل يتغذى على الأجسام النافقة، فينظف البيئة من بقايا الموت، وكثير منه مفترس يحافظ على التوازن البيئي عبر افتراسه حشرات ضارة، وهناك أنواع تحفر أنفاقا في الأرض تتيح التهوية للتربة، وقد ثبت علميا أن النمل أكثر كفاءة في تهوية التربة من دودة الأرض، بل هناك أنواع تستهلك كميات ضخمة من أوراق الأشجار، حتى إن إحدى الدراسات شبهت استهلاك مستعمرة واحدة باستهلاك بقرة كاملة في اليوم، فتسقط الأوراق وتغذي التربة، لكنها في الوقت ذاته قد تضر بالشجرة، فيكافَح هذا النوع من النمل".
ثم قال بنبرة أكثر جدية "هناك أنواع منزلية مزعجة نكافحها، وأنواع غازية من خارج البيئة تهدد التوازن البيئي لأنها تتغذى على غذاء الحشرات المتوطنة أو تزاحمها، وقد تدمر سلاسل غذائية كاملة، فهل نترك هذه الأنواع تعبث في بيئتنا دون فهم؟".
وأكمل "هل تصدق أن 99% من أنواع النمل تفرز مضادات حيوية من غددها؟ لهذا لا تمرض، ولهذا يتجه الباحثون اليوم إلى استخدام تلك المضادات لعلاج أمراض البشر، بل إن هناك قبائل أفريقية تستخدم "نمل النار" لعلاج الملاريا، و"نمل المحارب" لإغلاق الجروح، وفي كلية العلوم بجامعة الملك سعود أجريت تجربة واعدة لاستخدام إبرة نمل السمسوم -التي تشبه إبرة النحل- في علاج سرطان الثدي لدى حيوانات التجارب".
ثم استدرك قائلا "أتذكر التغطية الإعلامية الضخمة قبل أشهر عندما حاول بلجيكيون تهريب آلاف من أفراد النمل الأفريقي الحصاد من كينيا، فذلك لم يكن مجرد تهريب عادي، بل كان تهديدا لتوازن بيئي حساس، فهذا النوع من النمل يوزع البذور ويعيد رسم خرائط النمو النباتي في الغابات الأفريقية، واختفاؤه ليس تفصيلا بسيطا، بل قد يُحدث اضطرابا بيئيا واسع النطاق، وهذا النوع تحديدا لا يُعرف إلا في كينيا وتنزانيا، هل ترى الآن لماذا نهتم".
إعلان عجائب النمل المدهشةسألناه "ما أعجب ما رأيت في هذا العالم؟ فما الذي يجعلك تقف مدهوشا وتقول "سبحان من خلق"؟ وهنا عادت الابتسامة إلى وجهه واسعة مطمئنة، وقال بشغف "عجائب النمل لا تعد ولا تحصى، لكنني سأنتقي لك ما أراه الأبرز من وجهة نظري".
بدأ شرف حديثه بالنمل من جنس" كاتاجليفيس" المعروف شعبيا في مصر باسم "حرامي الحلة"، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة يطلقون عليه "نملة الكرسي"، وذلك لتعامد محور البطن مع محور الجسم.
وقال إنه "يمكن للمرء أن يراها كثيرا وهي تحمل نملة أخرى، للوهلة الأولى يظن المراقب أن النملة المحمولة إما ميتة أو فريسة في طريقها للافتراس، لكن ما إن تقترب منهما حتى تجدهما تهرولان معا".
ثم أضاف وهو يبتسم "هذا المشهد هو سلوك لنقل معلومة تتعلق بمكان جديد للتعشيش، فهذا سلوك متطور لا يخطر على بال".
وقال إن "نمل "كاتاجليفيس" يمتلك أيضا نظام ملاحة بالغ الدقة"، مشيرا إلى أنه "لو خرجت نملة منه من مستعمرتها إلى مكان معين فإنها تعود في خط مستقيم مستخدمة ضوء الشمس المستقطب، وهذا النمل لديه نظام ملاحة يتفوق على (جي بي إس) البشر".
ثم انتقل إلى الحديث عن اكتشاف بحثي حديث أظهر كيف أن صغار شغالات النمل لا تبدأ العمل دفعة واحدة، بل تتعلم تدريجيا من الشغالات الكبار، في البداية يقطع النمل الصغير مسافة قصيرة لجمع الغذاء ثم يعود، وفي كل مرة تزيد المسافة قليلا "عملية تعلم تدريجية دقيقة"، كما أضاف.
ويولي شرف نملة جنس "كاتاجليفيس" اهتماما خاصا، ويضيف "ما سأقوله الآن هو اجتهاد مبني على معرفة طويلة بعالم النمل"، موضحا أنه لكنه يظل افتراضا لا يمتلك دليلا علميا، ثم يقول إنه "ربما تكون نملة من جنس "كاتاجليفيس" هي ذاتها النملة التي ذكرت في قصة النبي سليمان".
وشرحا لتلك النقطة، يقول إن افتراضه بني على 5 أسباب "أولا: كل أنواع هذا الجنس وعددها 17 نوعا معروفة في فلسطين، حيث عاش سيدنا سليمان، ثانيا: هذه النملة نهارية، لذا من المرجح أنها كانت نشطة عند مرور جيش سليمان، ثالثا: رؤيتها قوية جدا، وهو ما يمكنها من رصد الجيش، ورابعا: أن أعداد أفراد مستعمرات الجنس تكون بمئات الآلاف والتي تنتشر في الوديان باحثة عن الفرائس وتكون غالبا هي الأوفر بين الكائنات الحية في الوديان، وهذا يتماشى مع قوله تعالى "وادي النمل"، والتعبير القرآني بالغ الدقة والتحديد، وخامسا وهو الأهم: هو أن هذا النوع لديه نظام تخاطب كيميائي معقد".
إعلانويضيف "وسيدنا سليمان -عليه السلام- أوتي القدرة على فهم لغات الحيوانات بصريح النص القرآني ﴿عُلّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء﴾، وهذا يتسق مع النص القرآني الذي يصف سماعه لتحذير النملة لبنات جنسها"، ثم قرأ الآية ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُوا۟ مَسَـٰكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُۥوَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ النمل (18).
النمل والتغيرات المناخيةوبسؤاله عن جديد الأبحاث، قال إنه في نهاية هذا الشهر (يونيو) ستصدر لنا دراسة جديدة عن تأثير التغيرات المناخية على النمل.
وأعطى لمحة عن الدراسة قائلا "ندرس كيف تؤثر درجات الحرارة والعوامل المناخية المختلفة على التوزيع الجغرافي لأنواع النمل حاليا ومستقبلا، فقد يؤدي تغير المناخ إلى هجرة بعض الأنواع إلى مناطق جديدة أكثر اعتدالا واختفاء أنواع محلية وظهور أنواع غازية، مما يهدد التنوع البيولوجي المحلي".
وأضاف "النمل يتفاعل مع العديد من الكائنات، نباتات، حشرات، وحتى الفطريات، أي تغير في توقيت الفصول أو درجات الحرارة يمكن أن يخل بتلك العلاقات، مما يضعف الأدوار الحيوية التي يقوم بها النمل، مثل تهوية التربة وتدوير المغذيات".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أنواع النمل مصطفى شرف هذا النوع النمل فی من النمل ن هناک فی مصر
إقرأ أيضاً:
خريطة توغل الاحتلال في الاقتصاد المصري.. تحالفات خفية تحكم السيطرة
في ظل التحولات السياسية والاقتصادية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، خاصة في ظل حرب إبادة يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وغضب شعبي عالمي متزايد من الصمت الدولي للحكومات العربية والغربية، كشفت دعوات المقاطعة لـ"حصار الاحتلال اقتصاديا"، حالة التوغل الإسرائيلي في الاقتصاد المصري.
الأمر لم يعد مجرد حديث نظري أو اتهامات متبادلة بين الأطراف، بل بات واقعا ملموسا يثير القلق حول مدى تأثير هذا التوغّل على السيادة الاقتصادية لمصر، وأثره على قطاعات حيوية مثل: الصناعة، الطاقة، التكنولوجيا، وحقوق العمال.
وتشمل خريطة التوغل الاقتصادي لدولة الاحتلال الإسرائيلي في مصر، عدّة تحالفات دولية، تدعم هذا النفوذ، في القطاعات الحيوية التي تم اختراقها، مما له من أثر الاقتصادي على السوق المصري، بالإضافة إلى موقف الرأي العام المصري تجاهه.
خريطة توغّل الاحتلال عبر الشركات العاملة في مصر
في السنوات الأخيرة، ظهرت مؤشرات متعددة على وجود شبكة متشابكة من الشركات المحلية والأجنبية التي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالاقتصاد الإسرائيلي، وقد أخذت هذه الشبكة تتسع على نحو مقلق.
ولا يقتصر هذا التوغل فقط على شركات إسرائيلية تعمل بشكل مباشر في السوق المصري، بل يشمل أيضًا شركات عالمية تمتلك فروعا في مصر أو تعمل عبر وكلاء محليين لهم علاقات مع كيانات بدولة الاحتلال الإسرائيلي أو حتى شركات مصرية تصدر وتتعامل مع الاحتلال بشكل علني.
وكشفت بيانات في مطلع العام الجاري، لوزارة التجارة الخارجية المصرية، عن تصدير 313 شركة مصرية منتجاتها إلى أسواق الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك المواد الغذائية.
وأفادت التقارير، أن الشركات المصرية كانت تواصل تزويد الاحتلال بالملابس والغزل والنسيج، مثل شركة "قطونيل مصر لصناعة الملابس والجوارب". بالإضافة إلى قيام شركات مصرية أخرى بتصدير الأدوات الكهربائية وأجهزة التدفئة والعوازل.
وتشمل المواد المصدرة أيضاً للاحتلال، كلا من: الطوب الرملي والرخام والجرانيت من شركة "مصر للرخام والجرانيت"، بالإضافة إلى السيراميك، والأسمدة، والمنظفات، والبلاستيك.
وفي دراسة أعدّها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عام 2023، أشار التقرير إلى أن هناك أكثر من 40 شركة أجنبية لديها استثمارات مباشرة أو شراكات مع شركات إسرائيلية، تعمل في السوق المصرية، وتتحكم بشكل أو بآخر في قطاعات حساسة.
تحقيق يكشف أن #مصر ثاني أكثر دولة عربية بعد الإمارات صدّرت منتجات لإسرائيل خلال الحرب على غـ ـزة بـ 924 منتجاً بينهم 76 منتجاً رئيسياً كالأسمنت والمنتجات الصيدلانية والخضروات والفاكهة والقطن#مزيد pic.twitter.com/unUobT9dmW — مزيد - Mazid (@MazidNews) April 9, 2025
شركات إسرائيلية وتحالفات دولية لشركات داعمة للاحتلال
يعتمد التوغّل اقتصاديًا "بشكل ناعم" عبر تحالفات دولية بشكل كبير على إخفاء هوية الاحتلال الإسرائيلي الفعلية، إذ تعمل العديد من الشركات تحت أسماء محلية أو عبر شراكات مع شركات دولية، بجانب الشركات المعلنة أنها "إسرائيلية".
في قطاع الطاقة، مثلا، تُعد شركة "نيوميد إنيرجي" أول شركة إسرائيلية تملك أصول نفطية وغازية في مصر، وتمتلك حصة في حقل ليفياثان البحري، مع خطط لتوسيع صادرات الغاز عبر محطات عائمة للغاز الطبيعي المسال، وفي الوقت نفسه، تمتلك شركة "إنيرجيان" أصولًا في حقول الغاز الطبيعي داخل مصر.
الغاز الإسرائيلي إلى مصر
• في 2018، وقّعت شركة “دولفينوس” المصرية اتفاقًا بـ 15 مليار دولار لشراء الغاز من إسرائيل
• الغاز ينقل من حقول الاحتلال إلى مصر، ويُعاد تصديره لأوروبا
• مصر الآن أكبر مستورد عربي للغاز الإسرائيلي pic.twitter.com/Rhh70ri6KM — مِهلائيل ???????? (@id_author) June 3, 2025
في قطاع النسيج، تستفيد شركات إسرائيلية مثل "دلتا" و"كيتان" من اتفاقية QIZ التي تتيح تصدير منتجات مشتركة إلى الولايات المتحدة بدون جمارك بشرط وجود مكون إسرائيلي محدد، وتعمل تلك الشركات عبر مصانع في بور سعيد.
وتدخل شركات أمنية إسرائيلية، عبر بوابات غير معلنة في مناطق حيوية مثل قناة السويس وجزيرة تيران، تديرها إدارات محلية وأطراف لها خلفيات عسكرية إسرائيلية سابقة.
بالإضافة إلى ذلك، تبرز شركات مثل "شكون وبنوي" في قطاع البناء والبنية التحتية التي تنفذ مشاريع في مصر عبر عقود متعددة، فيما بدأت شركة الطيران الإسرائيلية "العال" رحلات مباشرة بين "تل أبيب" وشرم الشيخ منذ 2022، في مؤشر على تطور العلاقات السياحية والاقتصادية.
أبرز الشراكات الدولية
لا يقتصر ذلك على الشركات ذات الجنسية الإسرائيلية فقط، بل يمتد ليشمل تحالفات دولية مع شركات من أوروبا ودول الخليج، تعمل كواجهة أو شركاء في مشاريع بمصر، وكثير من الاستثمارات الإسرائيلية تدار عبر شركات أوروبية في قبرص أو اليونان، ما يجعل تتبع مصدرها أصعب.
ومن الأمثلة على ذلك شركة "ZIM Integrated Shipping" التي تمتلك حصصًا إسرائيلية وتعمل ضمن سلسلة الشحن بين موانئ قناة السويس ودولة الاحتلال الإسرائيلي.
وتتضمن هذه التحالفات شركات عملاقة متعددة الجنسيات مثل "كوكاكولا" و"بيبسيكو"، التي حسب تقارير مستقلة تُتهم بدعم مستوطنات إسرائيلية، لكنها في الوقت ذاته تحافظ على حصص سوقية واسعة في مصر.
على سبيل المثال، شركات مثل "ماكدونالدز" التي تُعتبر من أكبر الشركات العالمية في مجال الأغذية والمشروبات، لها تواجد واسع في السوق المصرية، وتعمل ضمن شبكة توزيع متطورة وشراكات محلية، الأمر الذي يجعلها طرفًا مهمًا في هذه المعادلة.
على الرغم من نفي هذه الشركات أي صلة مباشرة بالاحتلال الإسرائيلي، إلا أن بعض التقارير ومجموعات الضغط من المجتمع المدني في مصر والدول العربية ربطت بين حضور هذه الشركات في الأسواق المحلية ودعمها أو تقبلها لعلاقات اقتصادية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة في ظل اتفاقيات التجارة الحرة الإسرائيلية مع بعض الدول.
شراكات محلية ودولية
في مجال التكنولوجيا، تعاونت شركات مصرية مع شركات إسرائيلية متخصصة في الأمن السيبراني وتقنيات الاتصالات، ما أدى إلى تسهيل دخول التكنولوجيا الإسرائيلية إلى السوق المصري، وهو ما فتح الباب واسعًا أمام المخاوف الأمنية من تسرب بيانات مهمة تخص البنية التحتية المصرية.
إلى ذلك، تقارير من مراكز أبحاث مثل مركز "راند" الأمريكي وشبكات مراقبة الأمن السيبراني، تؤكّد أنّ: هذه التعاونات تُشكّل تهديدًا للسيادة الرقمية.
كذلك، تبرز تحالفات بين شركات إسرائيلية وأوروبية في مجالات متعددة، مثل شركات الشحن والخدمات اللوجستية التي تستخدم مصر كمركز للتوزيع في الشرق الأوسط وأفريقيا، ما يعزز من النفوذ الاقتصادي الإسرائيلي غير المباشر عبر هذه الشركات الكبرى.
وفي قطاع الزراعة والري، تشير تقارير استقصائية من Haaretz وموقع Mondoweiss إلى تورّط شركات إسرائيلية، منها Netafim وAmiran, في توريد أنظمة ريّ بالتنقيط وبيوت زراعية ذكية لبعض مشاريع القطاع الخاص الزراعي في دلتا النيل وصعيد مصر، عبر وكلاء محليين مصريين.
هذه الأنظمة تباع عبر شركات تحمل أسماء عربية خالصة، لكنها في الواقع مرتبطة بشركات إسرائيلية كبرى عبر عقود ترخيص وتوزيع حصرية.
أما قطاع الأمن السيبراني والتكنولوجيا، فقد شهد دخولًا هادئًا لشركات إسرائيلية متخصصة، مثل NSO Group وCognyte, عبر بوابات الشراكة مع شركات متعددة الجنسيات توفر حلول أمنية للقطاع المصرفي المصري وبعض المؤسسات الحكومية، بحسب تقارير صادرة عن Citizen Lab وجريدة "هآرتس" العبرية. ورغم أن هذه الشركات لا تعمل بأسمائها الصريحة، فإن بعض تقنياتها تُباع من خلال فروع شركات دولية وسيطة تمتلك حصصاً إسرائيلية.
وتتخذ بعض الشركات من جنسيات أجنبية غطاءً قانونيًا للعمل في مصر بينما تُدار فعليًا من "تل أبيب"، كما هو الحال مع شركات الشحن والخدمات اللوجستية المسجلة في قبرص واليونان، لكن تمتلك دولة الاحتلال الإسرائيلي حصّة فيها، مثل شركة ZIM Integrated Shipping، والتي تعمل ضمن سلسلة الشحن إلى موانئ قناة السويس من خلال وكلاء مصريين.
القطاعات الحيوية المخترقة
يُظهر الواقع أن توغل الاقتصاد الإسرائيلي يتم بشكل مركّز في عدد من القطاعات الحيوية التي تمثل عماد الاقتصاد المصري، مما يطرح تحديات كبيرة فيما يتعلق بالأمن القومي والاقتصادي.
ويستخدم عدد من الشركات شهادات الكوشير التي تسمح بتصدير المنتجات إلى السوق الإسرائيلي، ما يفتح المجال أمام تعاون تجاري يتجاوز الشكليات، في عام 2022، كشفت تقارير اقتصادية عن زيادة في صادرات مصر الغذائية لدولة الاحتلال الإسرائيلي بنسبة 15 بالمئة، ما يعكس توسعًا في هذه العلاقات رغم الضغوط الشعبية لمقاطعة المنتجات.
في قطاع الطاقة، لم يعد التعاون الاقتصادي بين مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي مقتصرًا على الصفقات السياسية، بل تطور ليشمل تصدير الغاز الطبيعي المصري لدولة الاحتلال الإسرائيلي عبر أنابيب تربط بين البلدين، كما تعاونا في مشاريع مشتركة في حقول الغاز بالبحر المتوسط.
وفقًا لتقرير "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي" في أذار/ مارس 2024، قد ارتفعت صادرات الغاز الطبيعي من حقل ليفياثان إلى مصر بنسبة 28 في المئة في عام 2023، حيث بلغت 6.3 مليار متر مكعب، مقارنة بـ4.9 مليار متر مكعب في العام السابق
وفي مقال في "ميدل إيست آي" في شباط/ فبراير 2024 أشار إلى أنّ: "التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل شهد نموًا بنسبة 56 في المئة في عام 2023، مع زيادة بنسبة 168 في المئة في الربع الرابع من نفس العام، مما يعكس تعزيز التحالفات الاقتصادية بين البلدين".
الأثر على الاقتصاد المصري
يأتي توغل الاقتصادي الإسرائيلي في مصر محملاً بتداعيات قد تؤثر على عدة مستويات من الاقتصاد الوطني، تبدأ بالسيادة الاقتصادية، مرورًا بالسوق المحلي، وصولاً إلى فرص العمل والصناعة الوطنية.
من الناحية السيادية، يثير وجود شركات إسرائيلية أو شركات ذات علاقة بالاقتصاد الإسرائيلي في قطاعات حساسة تساؤلات حول مدى قدرة الدولة على التحكم في مواردها واستراتيجياتها الاقتصادية، خاصة وأن بعض هذه الشركات قد تكون قادرة على التأثير في القرارات الاقتصادية والسياسية، كما أن تزايد هذا التوغل قد يضعف من مبدأ الاعتماد على النفس ويزيد من التبعية الاقتصادية لدول أو كيانات أجنبية.
أما السوق المصرية، فإنّها تعاني من منافسة غير متكافئة بين الشركات المحلية والشركات الأجنبية ذات الخلفيات الإسرائيلية أو تحالفاتها الدولية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تراجع حصة السوق للشركات المصرية الصغيرة والمتوسطة، وارتفاع معدلات الإغلاق والتراجع الصناعي في بعض القطاعات.
فيما يتعلق بالوظائف، فإن التوغل الإسرائيلي في بعض القطاعات لا ينعكس بالضرورة على زيادة فرص العمل للمصريين، حيث تشير الدراسات إلى أن بعض الشركات تعتمد على استقدام خبرات أجنبية أو تشغيل العمالة في وظائف أقل مهارة بأجور منخفضة، مع احتكار المناصب الإدارية والاستراتيجية لأجانب أو لشركاء لديهم مصالح مع الاحتلال. هذا الأمر يزيد من مشكلات البطالة ويحد من تطوير القدرات البشرية المحلية.
الرأي العام ودعوات المقاطعة
على الرغم من العلاقات الاقتصادية التي تنمو في الخفاء أو عبر اتفاقيات رسمية بين مصر والاحتلال الإسرائيلي، إلا أن الرأي العام المصري لا يزال متحمسًا لحملات المقاطعة والتصدي لأي شكل من أشكال التغلغل الاقتصادي الإسرائيلي في بلده.
وأظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات بحثية مثل مركز ابن خلدون للدراسات في 2023، أنّ نسبة تزيد عن 70 في المئة من المصريين يؤيدون مقاطعة المنتجات والشركات المرتبطة بالاحتلال.
هذه الحملة الشعبية تدعمها حملات إعلامية ومبادرات منظمات المجتمع المدني، التي تسعى لتوعية المواطنين بخطورة التغلغل الاقتصادي الإسرائيلي، وتحث على دعم المنتج الوطني والاعتماد على الشركات المحلية فقط. في الوقت نفسه، تواجه هذه الحملة تحديات كبيرة بسبب عدم وجود بدائل قوية ومنافسة على مستوى الجودة والتكلفة، مما يجعل مقاطعة بعض الشركات تحديًا اقتصاديًا للمستهلكين.
تزامنا مع قصف #غزة.. حركة" مقاطعة إسرائيل" في #مصر تطلق حملة لإلغاء مهرجان إسرائيلي في #سيناء pic.twitter.com/LbhjtSv2dU — قناة الجزيرة (@AJArabic) April 8, 2023
ومع ذلك، تشير تحليلات الخبراء إلى أن هذه الحملات قد أثرت بالفعل على بعض الشركات الأجنبية ودفعته إلى مراجعة علاقاتها مع السوق المصري، أو التخفيف من نشاطاتها المرتبطة بإسرائيل، رغم أن التأثير لا يزال محدودًا.