كانت لزيارة المستشار الألماني، فريدريش ميرتس، إلى باريس في أول زيارة له إلى الخارج إبان تنصيبه رسميا، دلالة رمزية لإعادة الدفء إلى المحور الفرنسي الألماني القديم، فهي تأتي بعد 4 سنوات من الركود في محرك الاتحاد الأوروبي، مما يجعل الآمال الآن كبيرة بتغييرات محتملة على جانبي نهر الراين الذي يربط الحدود بين البلدين.

على النقيض من فترات الانسجام التي ميزت العلاقات بين البلدين في عهد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وقبلها جيرهارد شرودر وحتى هيلموت كول، لم يكن التكامل السياسي في أفضل أحواله بين الإليزيه والمستشارية في برلين خلال ولاية أولاف شولتس.

ويتطلع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الآن إلى "صحوة إستراتيجية" كما سماها، حيث أعلن البلدان عن إطلاق المجلس الألماني-الفرنسي للدفاع، مما يعكس رغبة متبادلة لتقوية الاتحاد الأوروبي.

وبينما يريد ماكرون العمل "يدا بيد" مع ألمانيا لتعزيز سيادة الاتحاد وقدرته التنافسية وأمنه، كما كتب في مقال نشر في صحيفة "لوفيغارو"، ركزت تصريحات المستشار ميرتس على منح الأولوية الكاملة لإعادة بناء القدرات العسكرية الألمانية لتكوين "أقوى جيش تقليدي في أوروبا".

التكامل السياسي بين فرنسا وألمانيا لم يكن في أحسن أحواله في عهد المستشار شولتس (الفرنسية) تسليح ألمانيا يغادر دائرة المحظور

في ضوء ذلك، تنوي ألمانيا تخصيص المزيد من الاستثمارات لقطاع الدفاع وإعادة بناء الجيش بما يتوافق مع حجم أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي وأكبر دولة من حيث تعداد السكان. ويأتي هذا الهدف المعلن استجابة أيضا لتطلعات الشركاء الأوروبيين لألمانيا، وهو ما ذكره بوضوح المستشار ميرتس.

إعلان

ولم يعد خطاب التسليح من المحظورات في ألمانيا، وهو تحول بدأ يقطع تدريجيا مع إرث الماضي ويتجه إلى توظيف الخبرات والتكنولوجيا الألمانية لخدمة أوروبا بدل أن تكون بعبعا لها.

ومن المتوقع أن يتحول هذا الهدف إلى حقيقة في غضون 4 سنوات وفق الخطط الألمانية، حيث كشفت وكالة رويترز عن محتوى وثيقة وقعها في 19 مايو/أيار رئيس هيئة الأركان، كارستن بروير، تتضمن أوامر بتجهيز الجيش بالأسلحة والعتاد اللازم بحلول عام 2029.

وبحسب الوثيقة التي تحمل عنوان "أولويات توجيهية لتعزيز الاستعداد"، ستتمكن ألمانيا من تحقيق هذا الهدف بمساعدة الأموال التي أتاحتها عملية تخفيف أعباء الديون عن البلاد في وقت سابق من هذا العام.

لكن خطط ألمانيا في مجال الدفاع لن تكون بمعزل عن فرنسا، الحليف الإستراتيجي داخل الاتحاد الأوروبي، حيث من المتوقع أيضا أن يتيح صعود المستشار ميرتس إعادة إحياء المشاريع العسكرية المشتركة مع وزارة القوات المسلحة الفرنسية، بجانب مفاوضات توسيع غطاء المظلة النووية الفرنسية لتشمل ألمانيا ودولا أخرى داخل التكتل الأوروبي.

ملامح للتكامل الدفاعي

وقعت فرنسا وألمانيا في بداية 2025 "اتفاقية مساهمين" بين شركات التصنيع العسكري في البلدين والمعنية بمشروع "النظام الرئيسي للقتال البري"، وهو مشروع أطلق في عام 2017 ويخص بالأساس تصنيع "دبابة المستقبل" لتحل محل الدبابة الفرنسية "لكلير" والألمانية "ليوبارد" عام 2040، كما هو مخطط له.

وعرف المشروع مسارا متعثرا في فترة حكم المستشار الألماني أولاف شولتس، بسبب تباين وجهات النظر مع باريس حول تقاسم المسؤوليات. لكن بعد إمضاء الاتفاقية، سيتشارك البلدان بالتساوي في المسؤوليات وتكاليف التصنيع، حيث سيكون المشروع محاكاة لـ"نظام القتال الجوي المستقبلي" المرتبط بتصنيع "طائرة المستقبل".

ويأمل البلدان الآن أن يحصل هذا التعاون على دفعة مع صعود حكومة جديدة في برلين، تمهيدا لعرضه على موافقة البرلمان العام الجاري.

إعلان

من الناحية السياسية، ينظر الخبراء في البلدين إلى المشروع ليس فقط كانعكاس للعلاقات الوثيقة بين ألمانيا وفرنسا، ولكن أيضا كتعزيز لدور هذا المحور في قيادة قاطرة الدفاع الأوروبية، في ظل السياسات المشككة للولايات المتحدة داخل حلف شمال الأطلسي والمخاطر المهددة للأمن الأوروبي من جانب روسيا.

ويمكن رؤية ملامح هذه السياسة بشكل واضح مع احتفاء ألمانيا بتأسيس أول كتيبة لها مدرعة تضم 5 آلاف جندي في ليتوانيا تحسبا لغزو محتمل من موسكو لدول البلطيق الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

وقد وصف وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس، هذه الخطوة بمثابة "رسالة تضامن واستعداد قوية".

وفي الوقت نفسه تخوض فرنسا، التي تركز في خطاباتها على تعزيز مسؤوليات دول الاتحاد الأوروبي في قضايا الأمن والدفاع والتصنيع العسكري والحد من التبعية الإستراتيجية، مفاوضات مع شركاء أوروبيين لتوسيع مظلتها النووية مثل بولندا.

ويشمل ذلك الشريك الألماني بالأساس، وهو مقترح كان أثاره المستشار الألماني مباشرة بعد فوزه بالانتخابات، دون أن يعني ذلك وفق تصريحاته، تخليا عن المظلة الأطلسية.

متاعب اقتصادية واتجاهات مختلفة

تصطدم طموحات باريس وبرلين في إحياء دورهما القيادي داخل الاتحاد الأوروبي، بتحديات اقتصادية ترتبط بالركود والإصلاحات الهيكلية والديون.

ففي ألمانيا، يستبعد "مجلس الخبراء الاقتصاديين"، وهو لجنة حكومية استشارية، حدوث انتعاش سريع في 2025، بينما تشير التوقعات إلى نمو لن يتجاوز في أفضل الحالات 1% في عام 2026 مع رؤية غير واضحة على المدى المتوسط والبعيد.

ومع أن أحزاب الائتلاف بعثت بإشارات إيجابية عقب الانتخابات، حيث تعهدت بضخ ما يناهز 500 مليار يورو لتحديث البنية التحتية القديمة، فإن النقاش يدور حول مصادر تمويل تلك السيولة، حيث سيجري توفيرها عبر القروض، على غرار الإنفاق الدفاعي الضخم، وقد يؤدي ذلك إلى خرق أهداف الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالديون.

إعلان

أما فرنسا التي تعد اليوم ثالث أكبر دولة في منطقة اليورو من حيث الديون بعد اليونان وإيطاليا، فإن أكبر المخاطر الداخلية ترتبط بالاستقرار السياسي والغموض الذي يحيط بمستقبل الحكومة الحالية، بسبب الافتقاد إلى الأغلبية لأي من التكتلات السياسية الثلاثة في الجمعية الوطنية، وهي التجمع الوطني اليميني، والجبهة الشعبية الجديدة اليسارية، وكتلة الرئيس إيمانويل ماكرون المنتمية لتيار الوسط.

ومن شأن هذا الوضع غير المريح للحكومة أن يعطل التزامات فرنسا ودورها في تمويل الإنفاق الدفاعي المشترك بشكل خاص. ولا يمكن توقع تغيير على المدى القصير، إذ وفقا للدستور الفرنسي، لا يمكن إجراء انتخابات جديدة قبل يوليو/تموز 2025.

ويقف البلدان على طرفي نقيض أيضا من حيث السياسات المالية والتجارية، فألمانيا تواجه ضغوطا لزيادة الإنفاق على البنية التحتية المتهاوية، بينما تحتاج فرنسا أكثر من أي وقت مضى إلى سياسة تقشف لمجابة الديون الكبيرة.

وعلى مستوى التجارة الخارجية، تتباين مواقف الدولتين تجاه الاتفاق السياسي الذي توصل إليه الاتحاد الأوروبي مع منطقة السوق المشتركة لأميركا الجنوبية (ميركوسور) لتأسيس أكبر منطقة تجارة حرة في العالم تضم 700 مليون شخص، إذ أبدت باريس معارضتها لهذا الاتفاق، مما قد يعيق فرص الاتحاد الأوروبي في المنافسة التجارية دوليا.

ألمانيا تبدي انفتاحا على توسيع المظلة النووية الفرنسية في أوروبا (الفرنسية) تنسيق السياسات الأوروبية

على غرار اتفاق "الميركوسور"، تعتبر مسألة تنسيق السياسات معضلة حقيقية تواجهها العاصمتان. وقد صدرت انتقادات داخل ألمانيا نفسها بسبب التباعد بين سياسات المستشار السابق أولاف شولتس والرئيس الفرنسي ماكرون.

وجاءت الانتقادات من السياسي المعارض، رئيس حكومة ولاية شمال الراين-ويستفاليا، هندريك فوست، الذي طالب الحكومة الاتحادية بالانفتاح أكثر على أطروحات ماكرون، من أجل تماسك الاتحاد الأوروبي ودعم قدرته على تقديم إجابات مشتركة تجاه التحديات الكبرى.

إعلان

وفي مسعى لتجاوز هذه الفجوة، عدد الرئيس ماكرون بصحيفة "لوفيغارو"، النقاط الملحة التي تنتظر ألمانيا وفرنسا مع استلام زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي لمنصب المستشارية خلفا لشولتس، وقد لخصها كالتالي:

مواصلة تعزيز القدرات الدفاعية للاتحاد الأوروبي، ودعم الركيزة الأوروبية لحلف شمال الأطلسي. زيادة الإنفاق على الأمن والدفاع، ودعم القاعدة الصناعية والتكنولوجية الدفاعية الأوروبية، والبناء على مقترحات المفوضية بشأن أدوات الاستثمار العامة والخاصة. التقليص من الاعتماد الإستراتيجي الخارجي ومن عدد أنظمة الدفاع الموجودة في أوروبا، وتطوير التنسيق العملياتي البيني، ومواصلة العمل على حلول التمويل ذات الصلة. الحاجة الماسة إلى خفض الأعباء الإدارية في الاتحاد الأوروبي التي تعوق النمو من خلال مراجعة كافة القواعد الأوروبية، وإزالة القيود مع الحفاظ على الطموحات التي تم التخطيط لها. الشرق الأوسط

حتى الآن، مكنت المحاولات الأولى لتنسيق السياسات بين البلدين من إحداث اختراق نادر، يتجاوز المسألة الأوروبية والقضايا المرتبطة بأوكرانيا والخطر الروسي والعلاقات التجارية مع الولايات المتحدة، إلى قضايا حساسة في الشرق الأوسط.

ويمثل الموقف الرسمي الألماني المنتقد لحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة ومبرراتها والتحفظ عن "التضامن الإجباري"، تحولا في السياسة الخارجية الألمانية كما يتفق في الوقت نفسه مع التحفظات الفرنسية المعلنة من جانب الرئيس ماكرون ضد الانتهاكات الإسرائيلية المروعة في القطاع المنكوب.

مع ذلك، فإنه من السابق لأوانه، في تقدير الخبراء، الحديث عن دور مؤثر للمحور الألماني الفرنسي في إعادة توجيه السياسات الأوروبية تجاه قضايا العالم، لا سيما تجاه قضايا الشرق الأوسط، رغم ما يظهر من تغير في لهجة برلين.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الحج حريات الحج الاتحاد الأوروبی

إقرأ أيضاً:

ما الذي يُفسر الارتفاع المفاجئ في وفيات الرضع بدول الاتحاد الأوروبي؟

تشهد معدلات وفيات الرضع في الاتحاد الأوروبي ارتفاعًا مقلقًا، مع تفوقها على المستويات المتوسطة في عدة دول، بينما تُعزى الزيادة إلى نقص الكوادر الصحية وتدهور ظروف العمل وانتشار حالات الحمل المتعدد. اعلان

ارتفع معدل وفيات الرضع في ثماني دول على الأقل من دول الاتحاد الأوروبي خلال عام 2024، وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن مكاتب الإحصاء الوطنية.

يُعرف معدل وفيات الرضع بأنه عدد وفيات الأطفال دون سن السنة لكل ألف مولود حي.

في عام 2024، تجاوزت كل من فرنسا ورومانيا المعدل المتوسط لوفيات الرضع في الاتحاد الأوروبي، الذي بلغ 3.3 حالات وفاة لكل ألف مولود حي في عام 2023.

سجَّلت رومانيا ارتفاعًا ملحوظًا في معدل وفيات الرضع، حيث ازداد من 2.1 حالة لكل ألف مولود حي في عام 2023 إلى 6.4 حالات في عام 2024.

من جهتها، شهدت فرنسا زيادة في المعدل من 2 حالة لكل ألف مولود حي في عام 2023 إلى 4.1 حالات في عام 2024.

وبحسب المعهد الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE)، فإن هذا المعدل يعني وفاة طفل واحد من بين كل 250 طفلًا قبل بلوغه عامه الأول.

منذ عام 2015، يُسجل معدل وفيات الرضع في فرنسا تفوقًا مستمرًا على المتوسط المسجل في دول الاتحاد الأوروبي.

ويشير الإحصاء إلى أن احتمال وفاة الذكور قبل بلوغهم سن العام الواحد يزيد بمقدار 1.2 مرة مقارنة بالإناث، كما أن الأطفال المولودين توائم أو توائم ثلاثية أكثر عرضة لخطر الوفاة قبل سن العام بنسبة تصل إلى خمس مرات مقارنة بالأطفال الآخرين.

وبين عامي 2023 و2024، سجلت البرتغال زيادة بلغت نسبتها 20% في معدل وفيات الرضع، وهو ارتفاع يخرج عن النمط العام لتطور معدلات الوفاة في البلاد.

ما زالت الأسباب الحقيقية وراء هذا الارتفاع غير واضحة، لكن يُعتقد أن عوامل عدة قد تسهم في ذلك، من بينها تقدم عمر الأمهات، وازدياد حالات الحمل المتعدد، وعدم تساوي الفرص الجغرافية في الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية للأمهات، وفقًا لتقديرات خبراء الصحة.

من ناحية أخرى، تحتل لاتفيا والسويد المرتبتين الأدنى من حيث معدل وفيات الرضع داخل الاتحاد الأوروبي.

في الوقت الحالي، لا تزال البيانات المتعلقة بهذا المؤشر في كل من ليتوانيا وأيرلندا ولوكسمبورغ والدانمرك وسلوفينيا أرقامًا تقديرية فقط.

Relatedالاشتباه في ممرضة ألمانية حقنت 5 أطفال رضع بالمورفينفرنسا تحظر التدخين في كل الأماكن التي يتواجد فيها الأطفال بدءًا من يوليومقتل 10 أطفال رضع بحريق اندلع في مستشفى هنديكيف تبدو الصورة الصحية في الاتحاد الأوروبي؟

شهد عام 2024 تراجعًا في أعداد الكوادر الصحية وإغلاقًا لبعض مستشفيات الولادة في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، من بينها البرتغال وألمانيا وفرنسا.

خلال صيف العام الماضي، تم إما إغلاق 10 أقسام للولادة في البرتغال أو فرض قيود على عملها، وذلك قبل أن تُعلن الحكومة عن خطة طوارئ للتحول الصحي يُنتظر تنفيذها خلال ثلاثة أشهر لتعزيز ضمان الوصول إلى الرعاية الصحية.

وفي فرنسا، أُغلقت 15% من وحدات الأمومة الصغيرة خلال العقد الماضي.

على مدى العقدين الماضيين، سجلت غالبية دول الاتحاد الأوروبي ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الأطباء والممرضات بالنسبة لكل فرد.

مع ذلك، تواجه هذه القطاعات تحديات كبيرة، إذ تتمثل في تقدم سن القوى العاملة الحالية، وتراجع الاهتمام بالمهن الصحية لدى الشباب، نتيجة الرواتب المنخفضة وظروف العمل غير الملائمة.

انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة

مقالات مشابهة

  • القاهرة الإخبارية: ملفات مهمة على جدول أول زيارة للمستشار الألماني للولايات المتحدة
  • خطة ما بعد الحرب.. الاتحاد الأوروبي يمدد الحماية المؤقتة للأوكرانيين حتى 2027
  • ما الذي يُفسر الارتفاع المفاجئ في وفيات الرضع بدول الاتحاد الأوروبي؟
  • الوزير الشيباني: الاتحاد الأوروبي يتابع الأحداث في سوريا عن كثب ويدعم حكومتها التي تمثل شعبها.
  • أكبر إجلاء منذ الحرب العالمية الثانية.. ألمانيا تجلي الآلاف بعد اكتشاف قنابل أمريكية
  • الاتحاد الأوروبي يمدد الحظر المفروض على الخطوط الجوية العراقية لستة أشهر أخرى
  • المستشار الألماني يقوم بزيارة رسمية إلى واشنطن
  • حزب الاتحاد: الإفراج عن 50 محبوسًا احتياطيًا يُدعّم صون الحقوق والحريات
  • المستشار الألماني يطالب الكيان الإسرائيلي بإدخال المساعدات إلى قطاع غزة