الهيمنة الثقافية وتفاهة الشر، لماذا لم تُقاوِم الخرطوم/المركز مذابح الهامش؟

حين تُقاس الضمائر: درس كلفورنيا في حماية الديمقراطية وتاريخ النخب السودانية من الجرائم ضد الهامش

6/12/2025 خالد كودي، بوسطن

بين صورة الذات وصمت الضمير:

“ليس الشر في كونه استثنائيًّا؛ بل في كونه عاديًّا، مسموحًا به، مقبولًا، مألوفًا.

”- هانا آرنت، “تفاهة الشر”

كثيرًا ما نُردد في أحاديثنا العامة وفي الإعلام أن السودانيين “أطيب شعوب الأرض”، “أهل سلام وكرم ونخوة”، “لا نرضى بالظلم ولا نسكت عن الضيم”… الخ،

هذه صورة جميلة ومريحة لضميرنا الجمعي، لكنها تصطدم بواقع مؤلم لا يمكن إنكاره.

ففي البلد الذي يحب أن يفاخر بكرم أهله، قُتل وشُرّد مليوني سوداني من جنوب السودان، ثلاثمائة ألف من دارفور، ومئات الالاف من جبال النوبة، والنيل الأزرق، على مدى عقود طويلة.

ملايين من أهلنا يعيشون حتى اليوم في معسكرات النزوح واللجوء، منذ سنوات، بل منذ عقود!

والأدهى أن هذا الحال لم يتغير تحت الحكومات المتعاقبة، عسكرية كانت ام مدنية منتخبة بما في ذلك حكومة ما بعد ثورة ديسمبر، التي رفعت شعارات “حرية، سلام، وعدالة”، لكنها فشلت في وقف القتل أو إعادة الكرامة للنازحين واللاجئين، اوليس ثمة خطآ فادح؟

نفاخر بأننا “شعب الثورة”، لكن هذه الثورة لم تتحول إلى واقع ذات معني ضد استمرار التهميش، الموت والتشريد.

وهنا يحضر قول والتر بنيامين: “كل وثيقة حضارة تحمل وجهًا بربريًا.”

فمن يرفع القناع عن هذا الوجه؟ ليس القانون وحده، ولا النخب وحدها؛ بل الجماهير – في مدى قبولها أو مقاومتها لهذا القبح الذي يُلبَس قناع الضرورة.

في مجتمعات ما بعد الاستعمار، كما بيّن فرانز فانون، تكمن إحدى أخطر المعضلات في استمرار إنتاج وعي استعماري داخلي معكوس: حيث تنسج نخب المركز هويّتها على قهر “الآخر الداخلي”، باسم “الحضارة والتمدين” و “الوحدة الوطنية”، أو “الأمن”، أو “التفوق الاثني والديني” ومااليه.

أما الديمقراطية – كما تذكّرنا الكثير من الدراسات- لا تُختبَر في طقوس صناديق الاقتراع وحسب، بل في موقف المجتمع من المظلومين. الديمقراطية لا يُقاس صدقها في نصوص الدستور، بل في قدرة المجتمع على أن يقول “لا” حين يُسحق الآخر أمام عينيه. وهنا لا مفر من أن نُقارن بين مشهد الحراك المدني في كاليفورنيا، الولاية الاغني في امريكا هذه الايام، حيث تخرج الحشود دفاعًا عن مهاجرين بلا أوراق، وبين صمت معظم الجمهور السوداني في مدن المركز حين كانت قرى الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق تُباد، والنساء تُغتصب، والأطفال يُهجّرون الي معسكرات الذل…

كيف نوفّق بين هذه الصورة التي نرسمها عن أنفسنا كأهل نخوة وسلام، وبين تاريخ الصمت العميق أمام واحدة من أكبر مآسي بلدنا بل والعالم؟

كيف يمكن أن نبني “سودانًا ” دون مواجهة هذا التناقض المؤلم في ضميرنا الجمعي؟

هذا المقال ليست وعظًا. إنها دعوة إلى تفكيك المهاد الثقافي والأخلاقي الذي سمح بهذا الصمت.

وهي تذكير بأن أي مشروع ديمقراطي في السودان القادم لا يمكن أن يقوم إلا على قاعدة الاعتراف بهذا الصمت، ومقاومة إعادة إنتاجه، وهذا ماقد يسمي بعملية عدالة تاريخية.

فالحرية لا تولد من مؤسسات معطاة؛ بل من جماهير ومجتمعات تعرف أن الحرية تُنتزع كل يوم، وأن الصمت – كما يقول ليفيناس – ليس براءة، بل تواطؤ عميق مع الجريمة.

بين ضمير الجمهور الأمريكي المنتفض وصمت الجمهور السوداني حينما كانت الحرب في مكان اخر:

بينما تنتفض شوارع كاليفورنيا اليوم دفاعًا عن مهاجرين بلا أوراق، علينا نحن السودانيين أن نواجه سؤالًا مؤجلًا: لماذا لم تتحول شوارع الخرطوم، ولا مدن السودان الأخرى، إلى ساحات احتجاج واعتصام حين كانت آلة الحرب المركزية تمطر الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق بالنار؟

لماذا لم تُغلق طرق الموت أمام قطارات الجنود؟

لماذا لم تُنشأ “مدن ملاذ” تحمي أبناء الهامش من القتل والنزوح واللجؤ، كما تفعل اليوم مدن أمريكية مع المهاجرين؟

ولماذا بقيت النخب السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية – بل حتى النقابية – في غالبيتها صامتة، متواطئة، أو شريكة في تبرير تلك الجرائم، تحت شعارات مثل “وحدة الدولة”، “أمن الوطن”، “سيادة القانون”، أو “تنظيف المدن من الوجوه الغريبة”؟

ما جرى – وما يزال يُعاد إنتاجه – هو تجلي “الوعي الاستعماري المعكوس” كما اشرنا، وقد اعادت نخب المركز ممارسة قمع المستعمر ضد شعوب الهامش، وغلفت القمع بخطاب قومي زائف.

والأخطر أن هذا الخطاب لاقى قبولًا ضمنيًا لدى قطاع واسع من الجمهور، الذي ظل غير معني بمصير ملايين السودانيين في الأطراف وفي أحزمة الفقر المحيطة بالمدن.

ماذا نتعلم من المشهد الأمريكي؟

في المقابل، حين واجهت كاليفورنيا حملات الاعتقال والترحيل، لم تصمت.

من المدن إلى الأرياف، من الجامعات إلى النقابات، من الكنائس إلى منظمات المجتمع المدني، من المحامين إلى الصحافيين – الجميع انتفض دفاعًا عن كرامة الإنسان

ظهرت “مدن ملاذ”، بات المحامون يبيتون في المطارات، والصحافة تشن حملات متواصلة لفضح الانتهاكات.

لم يكن هذا الدفاع بلا كلفة، لكنه جسّد وعيًا عميقًا: أن السكوت في وجه الظلم هو خيانة مباشرة للمواطنة وللديمقراطية.

جرائم في صمت: سجل النخب السودانية وثمن الغفلة:

في السودان، على مدى عقود، قُتل وهجر الملايين – لا في حرب سيادة، بل في حرب هوية: حرب استهدفت الإنسان لأنه من الهامش، مختلفٌ في اللون، اللغة، والجهة، وربما الدين.

وأمام هذا الجُرم، ماذا فعلت نخب السودان؟

في أفضل الأحوال، صمت بارد؛ وفي كثير من الحالات، تبرير وتواطؤ صريح. حتى الأفعال المحدودة والكلمات القليلة التي قيلت لم تلامس فداحة الجريمة ولا عُمق الدم المسفوح. لم تكن بحجم ماكان يجري في السودان. وكانت النتيجة الحتمية: فقد الجنوبيون الثقة في نخبة المركز، واختاروا الانفصال، محمّلين ضمير الأمة نصيبه من المسؤولية الأخلاقية والعار الازلي، وواصل بقية المهمشين نضالهم.

الغفلة المؤسِّسة: من وهم الاستثناء إلى امتداد الحريق:

لم يكن الخطر الأكبر في ما وقع من جرائم قبل الانفصال، بل في ما تلاها من إنكار وتراكم أخلاقي مدمّر.

فبعد ذهاب الجنوب، تبنّى كثير من السودانيين – نخبًا وجمهورًا – سردية مريحة مفادها أن “الحرب انتهت”، وأن “المشكلة كانت هناك فقط” وذهبت مع ذهاب الجنوب.

ولم يدرك هؤلاء أن أسباب الحرب ما زالت قائمة في بنية الدولة نفسها: في التهميش، والتمييز، والإنكار المتواصل لحقوق الشعوب المهمّشة – في الظلم والفساد والاستبداد.

لكن الخطير أن هذا الإنكار لم يقتصر على النخب، بل شمل شرائح واسعة من الجمهور الذي آمن بوهم “الاستثناء الآمن”، أي أن الخرطوم، ومدني، وبورتسودان، وغيرها من مدن المركز، في منأى عن النيران ما دامت مشتعلة في دارفور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق.

وهكذا، بُنيت “الطمأنينة الكاذبة” على مأساة غيرهم، وجرى تجاهل أن النار التي لا تُطفأ في الهامش، لا تلبث أن تصل إلى القلب، وقد كان.

لكن كما تقول الحكمة القديمة: “أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض.”

وما لم يُدفَع من ثمن آنذاك، يُدفَع اليوم للأسف – مضاعفًا في شوارع المدن التي لم تكترث حين أُضرمت النار في ديار غيرها… وها هو الدمار الشامل طال ويطال الجميع!

وكما تحذر الحكايات الإفريقية القديمة:

“إن لم تحتج اليوم على ظلم جارك، فغدًا سيحين دورك، ولن تجد من يدافع عنك”

جورج أورويل عني:

“الحرية تعني الحق في قول ما لا يريد الآخرون سماعه. والصمت هو أول انتصار للسلطة القامعة.”

وفي السودان، انتصر الصمت حين احترق الهامش.

لم تُغلق شوارع الخرطوم. لم تُعلَن “مدن ملاذ”. لم تنهض النقابات، لم تتحرّك الجامعات كما ينبغي . لم تُبنَ مقاومة شعبية توقف آلة القتل الذي استمر لأكثر من ثلاث عقود.

واليوم، حين وصلت النيران إلى قلب المركز، لم يكن ذلك “انفجارًا مفاجئًا”، بل النتيجة الطبيعية لذلك التاريخ الطويل من الصمت واللامبالاة.

الحرب التي تعصف بالسودان اليوم ليست بداية الحكاية، بل خاتمة تأخّرت – لكنها لم تكن لتغيب.

لهذا، فإن المعيار الأخلاقي ليس فيما تقوله النخب اليوم، بل فيما صمتت عنه بالأمس.

ومن لا يعترف بجرائم الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة حين وقعت، لن يكون قادرًا على بناء وطن جديد – حتى وإن صار هو نفسه اليوم ضحية في دورة العنف التالية!

وقد قيل: “من واجبنا الأخلاقي أن نمنع إضفاء طابع العادي على ما هو غير مقبول.” وقيل

“من لا يستطيع البكاء على ضحايا الأمس، سيصفق لجلادي الغد.” !

في مواجهة عنف الدولة الحديثة سواء كان عاريًا أو مقنّعًا بلغة القانون والسيادة – لا تُقاس شرعية النظام بما تقرّه الدساتير أو صناديق الاقتراع وحدها، بل أولًا بشرعية الضمير العام.

فالسلطة القمعية لا تحتاج إلى تبرير دائم بقدر ما تحتاج إلى جمهور يصمت، أو يشيح بوجهه، أو يتواطأ.

وهنا تكمن مأساة الشعوب: ليس فقط في فقدان الحقوق، بل في اللحظة التي يُمحى فيها “وجه الآخر”، كما يقول ليفيناس، من الفضاء الأخلاقي العام، ويُعاد تقديمه كـ”خطر”، أو “عبء”، أو “تهديد للوطن”.

من هنا، فإن بناء دولة ديمقراطية في السودان لا يمكن أن يبدأ بمجرد تعيين رئيس وزراء وان كان دمية للعسكر او بتعديلات دستورية جديدة أو شعارات فارغة؛ بل يجب أن يبدأ بتحرير الضمير الجمعي من ثقافة الصمت، والتواطؤ، والتطبيع مع القمع والدم.

فلا يمكن لجمهورية عدالة أن تُقام على ذاكرة صامتة تجاه مذابح الجنوب، واغتصابات دارفور، وحرق قرى جبال النوبة والنيل الأزرق.

لهذا بالضبط تكتسب رؤية السودان الجديد التي تبناها تحالف “تأسيس” للعدالة التاريخية قيمتها الجوهرية اليوم.

فالعدالة هنا ليست مجرد تصفية ملفات الماضي، بل هي شرط تأسيسي لبناء وطن جديد.

وهي ليست تعويضًا رمزيًا للضحايا، بل إعادة تعريف لما تعنيه المواطنة في السودان: أن لا يُعاد إنتاج “مواطن من الدرجة الثانية او مادونها”، ولا يُبرر القمع ضد أي مجموعة باسم “وحدة الدولة” أو “أمنها”…

بدون هذا الاعتراف العميق بالجرائم التاريخية، وبدون إعادة الاعتبار الكامل للضحايا ماديا ومعنويا كشرط للمواطنة المتساوية، لن يكون مشروع الدولة الجديدة إلا قشرة قانونية تخفي استمرار القمع بثياب جديدة.

إن مشروع تحالف “تأسيس” في طرحه للعدالة التاريخية يُذكّرنا بحقيقة بديهية أخلاقية:

أن من لا يعترف بجراح الأمس، لن يُنتج سوى مزيد من الضحايا غدًا.

وأن من لم يُدن بصوت واضح ما ارتُكب في الجنوب ودارفور وجبال النوبة، والنيل الازرق لن يكون أهلاً للمشاركة في تأسيس وطنٍ يتساوى فيه الجميع أمام القانون والكرامة.

النضال مستمر والنصر اكيد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الوسومالجرائم ضد الهامش الهيمنة الثقافية وتفاهة الشر تاريخ النخب السودانية حماية الديمقراطية خالد كودي درس كلفورنيا لماذا لم تُقاوِم الخرطوم/المركز مذابح الهامش؟

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: تاريخ النخب السودانية حماية الديمقراطية خالد كودي

إقرأ أيضاً:

تراجع الهيمنة الأمريكية في سباق الذكاء الاصطناعي

صراحة نيوز- قال تحليل نشرته “فورين أفيرز” إن ريادة الولايات المتحدة العالم في مجال الذكاء الاصطناعي ربما بدأت تتلاشى.

أفاد التحليل بأنه على مدى السنوات القليلة الماضية، قادت الولايات المتحدة العالم في تطوير الذكاء الاصطناعي؛ حيث لعبت شركات أمريكية مثل OpenAI وGoogle وAnthropic وMeta دوراً محورياً في دفع عجلة الابتكار بفضل الجمع بين التميز الأكاديمي، والاستثمار الخاص، والتنظيم الحكومي الخفيف نسبياً. وحققت النماذج الأساسية الأمريكية مثل GPT وGemini تقدماً سريعاً في قدرات الاستدلال والمعالجة متعددة الوسائط وحل المشكلات العلمية، مما عزز حصتها في الأسواق العالمية وتفوقها على نظيراتها الصينية.

لكن بحلول أواخر عام 2024، بدأ هذا التفوق الأمريكي بالتلاشي. فقد حققت شركات الذكاء الاصطناعي الصينية مثل DeepSeek وBaidu وAlibaba وTencent تقدماً هائلاً، وقلصت الفجوة مع النماذج الأمريكية إلى بضع نقاط مئوية. ويعزى هذا التقدم إلى استراتيجية الصين المدفوعة من الدولة والتي تشمل استثمارات ضخمة في أشباه الموصلات والبنية التحتية للطاقة، وتنسيقاً وثيقاً بين القطاعين العام والخاص، ونظاماً تعليمياً يخرج كوادر متخصصة في الذكاء الاصطناعي، إلى جانب دمج الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات، من التصنيع إلى الخدمات العامة.

وكانت شركة Xiaomi في بكين أحد أبرز الأمثلة على ذلك. ومصنع الشركة يستخدم أكثر من 700 روبوت مدعوم بالذكاء الاصطناعي لإنتاج سيارة كهربائية كل 76 ثانية. كما تستخدم المدن الصينية الذكاء الاصطناعي لإدارة حركة المرور والمراقبة والتنفيذ القانوني، وتقوم الحكومات المحلية بتجريب تطبيقات جديدة في التعليم والرعاية الصحية. وفي الوقت نفسه، قامت الشركات الصينية بتحسين برمجياتها لزيادة كفاءة استخدام العتاد المتوفر، مما خفف من تأثير القيود الأمريكية على تصدير الرقائق المتقدمة.

نتيجة لذلك، تواجه الولايات المتحدة واقعاً جديداً: تفوقها في الذكاء الاصطناعي لم يعد مضموناً. وقد أدركت إدارتا الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن والرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب هذه الحقيقة، فاتبعتا استراتيجيات لتأخير أو منع هذا التراجع من خلال فرض قيود على التصدير وتكثيف الابتكار المحلي عبر استثمارات في أشباه الموصلات والبنية التحتية واعتماد الذكاء الاصطناعي في الحكومة، خصوصاً في الأمن القومي والصحة ومكافحة الاحتيال.

ومع ذلك، لم يعد التفوق الأمريكي مسألة محسومة. ويبدو سباق الذكاء الاصطناعي الآن وكأنه ماراثون طويل الأمد. لذا، على صانعي السياسات في واشنطن أن يستعدوا لعالم تتقاسم فيه الولايات المتحدة الريادة مع قوى أخرى، أو حتى تحتل المرتبة الثانية. لكن هذا لا يعني تكرار أخطاء سباق الجيل الخامس (5G)، حيث تقدمت الصين بسرعة بينما عانت أمريكا من اللحاق بها. لكن بدلاً من ذلك، يجب أن تركز الاستراتيجية الأمريكية على المرونة والقدرة على التكيف والتعاون.

استراتيجية أكثر ذكاءً

ونصح التقرير بأنه بدلاً من التمسك بهيمنة غير مضمونة، يجب على الولايات المتحدة الاستثمار في أطر جديدة تبرز جاذبية نماذجها حتى لو لم تعد الأفضل في المقاييس التقليدية. يمكن لوكالة المعايير الوطنية (NIST) ومعهد سلامة الذكاء الاصطناعي تطوير معايير تقييم جديدة تتجاوز دقة الأداء إلى معايير مثل الشفافية، والأمان، وتكلفة التشغيل، وسهولة التعديل. هذه المعايير قد تكون أكثر أهمية للأسواق الناشئة، حيث تُفضل النماذج القابلة للتكيف والمضمونة والثابتة الكلفة على الأداء التقني البحت.

كما إنه يمكن لواشنطن الترويج لتوافق النماذج المختلفة على المستوى العالمي. فمع تزايد عدد النماذج الأساسية، سيبحث المستخدمون عن حرية التنقل بينها دون قيود أو تكاليف باهظة. ويمكن للشركات الأمريكية تسهيل هذا التحول عبر تقليل تكاليف التبديل، وتبسيط التهيئة، وتخفيض متطلبات التدريب والتجهيزات. كما يمكن للحكومة الأمريكية أن تقود جهوداً دولية لتوحيد بروتوكولات واجهات البرمجة (APIs) لجعل التكامل والتنقل بين النماذج أسهل، مما يقلل من الاعتماد على نموذج أو بلد واحد.

من جانب آخر، ينبغي على الولايات المتحدة تطوير طبقات وسيطة للبرمجيات تفصل بين التطبيقات والنماذج الأساسية. هذه الطبقات تقلل من التبعية لنموذج معين، وتتيح مرونة أكبر في التبديل إذا تغير النموذج أو ظهرت بدائل أفضل. وفي حال تفوقت النماذج الصينية، ستكون هذه الطبقات أداة حيوية لتقليل المخاطر مثل الرقابة أو تعطيل الخدمة.

وبالإضافة لذلك، سيكون من الضروري تطوير أنظمة “تحكيم” برمجية تقارن مخرجات نماذج مختلفة. ففي تطبيقات حرجة مثل التشخيص الطبي أو اكتشاف الاحتيال، يمكن لتلك الأنظمة تقييم الإجابات من نماذج موثوقة محلياً وأخرى أكثر كفاءة ولكن أجنبية، وتحذير المستخدم من الإجابات غير الدقيقة. ورغم أن هذا يضيف تكلفة ويبطئ الأداء، إلا أنه يضمن السلامة والموثوقية في مجالات حساسة.

أصعب التحديات

ووفقا للتحليل، فإنه من أصعب التحديات التي ستواجهها الولايات المتحدة هو تحديد متى وكيف تشارك بياناتها. ففرض حظر شامل على مشاركة البيانات مع الصين قد يبدو خياراً آمناً، لكنه قد يضر بالمصلحة العامة. فإذا أثبت نموذج صيني أنه أكثر فعالية في تشخيص الأمراض أو توقع الكوارث، فإن منع استخدامه قد يضر الصحة العامة أو الاقتصاد.

والحل الأمثل هو اعتماد سياسة مدروسة لمشاركة البيانات بناءً على تحليل الفوائد والمخاطر. ويمكن استخدام تقنيات مثل إخفاء الهوية، وتشفير البيانات، والخصوصية التفاضلية لتقليل خطر التسريب مع الحفاظ على الفائدة. ويجب على واشنطن وضع إرشادات واضحة لمتى تكون مشاركة البيانات مقبولة، وتدريب الحلفاء والشركاء، خاصة في الدول النامية، على الاستخدام الآمن والتنقل بين النماذج.

وشدد التقرير على أنه رغم أن شركات الخدمات السحابية الأمريكية مثل أمازون ومايكروسوفت وغوغل ما زالت تهيمن على أكثر من 60% من السوق العالمي مقارنة بـ4% فقط لعلي بابا، إلا أن هذه الهيمنة قد تتراجع. فالابتكار في الذكاء الاصطناعي قد يصبح أبطأ وأكثر تكلفة، مما يمنح الصين ذات التنسيق المركزي ميزة تنافسية.

والخطة الوطنية الجديدة للذكاء الاصطناعي التي ستُصدر في يوليو/تموز يجب أن تعكس هذا الواقع المتغير. وينبغي على أمريكا أن تعترف بأن الريادة مهمة ولكنها ليست مضمونة.

مقالات مشابهة

  • السودان.. مخاطر تهدد عودة 19 مليون طالب لفصول الدراسة
  • لوتان: غزة هي مسرح دموي لتفاهة الشر
  • صراع خفي.. لماذا تتأخر تشكيلة الوزراء في السودان؟
  • حالة الجمود التي يعاني منها خريجي مدرسة الحركات المسلحة في فهم وتفسير الأحداث
  • المعجزة التي يحق لكل سوداني أن يفتخر بها
  • لماذا قلصت إيران عدد الصواريخ التي تطلقها على إسرائيل؟
  • الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم
  • خالد سرحان يتحدث عن علاقته بـ عادل إمام: "وشه كان حلو عليا"
  • تراجع الهيمنة الأمريكية في سباق الذكاء الاصطناعي
  • لماذا لم يبدأ تسليم سلاح المخيمات اليوم؟