الهيمنة الثقافية وتفاهة الشر، لماذا لم تُقاوِم الخرطوم/المركز مذابح الهامش؟

حين تُقاس الضمائر: درس كلفورنيا في حماية الديمقراطية وتاريخ النخب السودانية من الجرائم ضد الهامش

6/12/2025 خالد كودي، بوسطن

بين صورة الذات وصمت الضمير:

“ليس الشر في كونه استثنائيًّا؛ بل في كونه عاديًّا، مسموحًا به، مقبولًا، مألوفًا.

”- هانا آرنت، “تفاهة الشر”

كثيرًا ما نُردد في أحاديثنا العامة وفي الإعلام أن السودانيين “أطيب شعوب الأرض”، “أهل سلام وكرم ونخوة”، “لا نرضى بالظلم ولا نسكت عن الضيم”… الخ،

هذه صورة جميلة ومريحة لضميرنا الجمعي، لكنها تصطدم بواقع مؤلم لا يمكن إنكاره.

ففي البلد الذي يحب أن يفاخر بكرم أهله، قُتل وشُرّد مليوني سوداني من جنوب السودان، ثلاثمائة ألف من دارفور، ومئات الالاف من جبال النوبة، والنيل الأزرق، على مدى عقود طويلة.

ملايين من أهلنا يعيشون حتى اليوم في معسكرات النزوح واللجوء، منذ سنوات، بل منذ عقود!

والأدهى أن هذا الحال لم يتغير تحت الحكومات المتعاقبة، عسكرية كانت ام مدنية منتخبة بما في ذلك حكومة ما بعد ثورة ديسمبر، التي رفعت شعارات “حرية، سلام، وعدالة”، لكنها فشلت في وقف القتل أو إعادة الكرامة للنازحين واللاجئين، اوليس ثمة خطآ فادح؟

نفاخر بأننا “شعب الثورة”، لكن هذه الثورة لم تتحول إلى واقع ذات معني ضد استمرار التهميش، الموت والتشريد.

وهنا يحضر قول والتر بنيامين: “كل وثيقة حضارة تحمل وجهًا بربريًا.”

فمن يرفع القناع عن هذا الوجه؟ ليس القانون وحده، ولا النخب وحدها؛ بل الجماهير – في مدى قبولها أو مقاومتها لهذا القبح الذي يُلبَس قناع الضرورة.

في مجتمعات ما بعد الاستعمار، كما بيّن فرانز فانون، تكمن إحدى أخطر المعضلات في استمرار إنتاج وعي استعماري داخلي معكوس: حيث تنسج نخب المركز هويّتها على قهر “الآخر الداخلي”، باسم “الحضارة والتمدين” و “الوحدة الوطنية”، أو “الأمن”، أو “التفوق الاثني والديني” ومااليه.

أما الديمقراطية – كما تذكّرنا الكثير من الدراسات- لا تُختبَر في طقوس صناديق الاقتراع وحسب، بل في موقف المجتمع من المظلومين. الديمقراطية لا يُقاس صدقها في نصوص الدستور، بل في قدرة المجتمع على أن يقول “لا” حين يُسحق الآخر أمام عينيه. وهنا لا مفر من أن نُقارن بين مشهد الحراك المدني في كاليفورنيا، الولاية الاغني في امريكا هذه الايام، حيث تخرج الحشود دفاعًا عن مهاجرين بلا أوراق، وبين صمت معظم الجمهور السوداني في مدن المركز حين كانت قرى الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق تُباد، والنساء تُغتصب، والأطفال يُهجّرون الي معسكرات الذل…

كيف نوفّق بين هذه الصورة التي نرسمها عن أنفسنا كأهل نخوة وسلام، وبين تاريخ الصمت العميق أمام واحدة من أكبر مآسي بلدنا بل والعالم؟

كيف يمكن أن نبني “سودانًا ” دون مواجهة هذا التناقض المؤلم في ضميرنا الجمعي؟

هذا المقال ليست وعظًا. إنها دعوة إلى تفكيك المهاد الثقافي والأخلاقي الذي سمح بهذا الصمت.

وهي تذكير بأن أي مشروع ديمقراطي في السودان القادم لا يمكن أن يقوم إلا على قاعدة الاعتراف بهذا الصمت، ومقاومة إعادة إنتاجه، وهذا ماقد يسمي بعملية عدالة تاريخية.

فالحرية لا تولد من مؤسسات معطاة؛ بل من جماهير ومجتمعات تعرف أن الحرية تُنتزع كل يوم، وأن الصمت – كما يقول ليفيناس – ليس براءة، بل تواطؤ عميق مع الجريمة.

بين ضمير الجمهور الأمريكي المنتفض وصمت الجمهور السوداني حينما كانت الحرب في مكان اخر:

بينما تنتفض شوارع كاليفورنيا اليوم دفاعًا عن مهاجرين بلا أوراق، علينا نحن السودانيين أن نواجه سؤالًا مؤجلًا: لماذا لم تتحول شوارع الخرطوم، ولا مدن السودان الأخرى، إلى ساحات احتجاج واعتصام حين كانت آلة الحرب المركزية تمطر الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق بالنار؟

لماذا لم تُغلق طرق الموت أمام قطارات الجنود؟

لماذا لم تُنشأ “مدن ملاذ” تحمي أبناء الهامش من القتل والنزوح واللجؤ، كما تفعل اليوم مدن أمريكية مع المهاجرين؟

ولماذا بقيت النخب السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية – بل حتى النقابية – في غالبيتها صامتة، متواطئة، أو شريكة في تبرير تلك الجرائم، تحت شعارات مثل “وحدة الدولة”، “أمن الوطن”، “سيادة القانون”، أو “تنظيف المدن من الوجوه الغريبة”؟

ما جرى – وما يزال يُعاد إنتاجه – هو تجلي “الوعي الاستعماري المعكوس” كما اشرنا، وقد اعادت نخب المركز ممارسة قمع المستعمر ضد شعوب الهامش، وغلفت القمع بخطاب قومي زائف.

والأخطر أن هذا الخطاب لاقى قبولًا ضمنيًا لدى قطاع واسع من الجمهور، الذي ظل غير معني بمصير ملايين السودانيين في الأطراف وفي أحزمة الفقر المحيطة بالمدن.

ماذا نتعلم من المشهد الأمريكي؟

في المقابل، حين واجهت كاليفورنيا حملات الاعتقال والترحيل، لم تصمت.

من المدن إلى الأرياف، من الجامعات إلى النقابات، من الكنائس إلى منظمات المجتمع المدني، من المحامين إلى الصحافيين – الجميع انتفض دفاعًا عن كرامة الإنسان

ظهرت “مدن ملاذ”، بات المحامون يبيتون في المطارات، والصحافة تشن حملات متواصلة لفضح الانتهاكات.

لم يكن هذا الدفاع بلا كلفة، لكنه جسّد وعيًا عميقًا: أن السكوت في وجه الظلم هو خيانة مباشرة للمواطنة وللديمقراطية.

جرائم في صمت: سجل النخب السودانية وثمن الغفلة:

في السودان، على مدى عقود، قُتل وهجر الملايين – لا في حرب سيادة، بل في حرب هوية: حرب استهدفت الإنسان لأنه من الهامش، مختلفٌ في اللون، اللغة، والجهة، وربما الدين.

وأمام هذا الجُرم، ماذا فعلت نخب السودان؟

في أفضل الأحوال، صمت بارد؛ وفي كثير من الحالات، تبرير وتواطؤ صريح. حتى الأفعال المحدودة والكلمات القليلة التي قيلت لم تلامس فداحة الجريمة ولا عُمق الدم المسفوح. لم تكن بحجم ماكان يجري في السودان. وكانت النتيجة الحتمية: فقد الجنوبيون الثقة في نخبة المركز، واختاروا الانفصال، محمّلين ضمير الأمة نصيبه من المسؤولية الأخلاقية والعار الازلي، وواصل بقية المهمشين نضالهم.

الغفلة المؤسِّسة: من وهم الاستثناء إلى امتداد الحريق:

لم يكن الخطر الأكبر في ما وقع من جرائم قبل الانفصال، بل في ما تلاها من إنكار وتراكم أخلاقي مدمّر.

فبعد ذهاب الجنوب، تبنّى كثير من السودانيين – نخبًا وجمهورًا – سردية مريحة مفادها أن “الحرب انتهت”، وأن “المشكلة كانت هناك فقط” وذهبت مع ذهاب الجنوب.

ولم يدرك هؤلاء أن أسباب الحرب ما زالت قائمة في بنية الدولة نفسها: في التهميش، والتمييز، والإنكار المتواصل لحقوق الشعوب المهمّشة – في الظلم والفساد والاستبداد.

لكن الخطير أن هذا الإنكار لم يقتصر على النخب، بل شمل شرائح واسعة من الجمهور الذي آمن بوهم “الاستثناء الآمن”، أي أن الخرطوم، ومدني، وبورتسودان، وغيرها من مدن المركز، في منأى عن النيران ما دامت مشتعلة في دارفور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق.

وهكذا، بُنيت “الطمأنينة الكاذبة” على مأساة غيرهم، وجرى تجاهل أن النار التي لا تُطفأ في الهامش، لا تلبث أن تصل إلى القلب، وقد كان.

لكن كما تقول الحكمة القديمة: “أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض.”

وما لم يُدفَع من ثمن آنذاك، يُدفَع اليوم للأسف – مضاعفًا في شوارع المدن التي لم تكترث حين أُضرمت النار في ديار غيرها… وها هو الدمار الشامل طال ويطال الجميع!

وكما تحذر الحكايات الإفريقية القديمة:

“إن لم تحتج اليوم على ظلم جارك، فغدًا سيحين دورك، ولن تجد من يدافع عنك”

جورج أورويل عني:

“الحرية تعني الحق في قول ما لا يريد الآخرون سماعه. والصمت هو أول انتصار للسلطة القامعة.”

وفي السودان، انتصر الصمت حين احترق الهامش.

لم تُغلق شوارع الخرطوم. لم تُعلَن “مدن ملاذ”. لم تنهض النقابات، لم تتحرّك الجامعات كما ينبغي . لم تُبنَ مقاومة شعبية توقف آلة القتل الذي استمر لأكثر من ثلاث عقود.

واليوم، حين وصلت النيران إلى قلب المركز، لم يكن ذلك “انفجارًا مفاجئًا”، بل النتيجة الطبيعية لذلك التاريخ الطويل من الصمت واللامبالاة.

الحرب التي تعصف بالسودان اليوم ليست بداية الحكاية، بل خاتمة تأخّرت – لكنها لم تكن لتغيب.

لهذا، فإن المعيار الأخلاقي ليس فيما تقوله النخب اليوم، بل فيما صمتت عنه بالأمس.

ومن لا يعترف بجرائم الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة حين وقعت، لن يكون قادرًا على بناء وطن جديد – حتى وإن صار هو نفسه اليوم ضحية في دورة العنف التالية!

وقد قيل: “من واجبنا الأخلاقي أن نمنع إضفاء طابع العادي على ما هو غير مقبول.” وقيل

“من لا يستطيع البكاء على ضحايا الأمس، سيصفق لجلادي الغد.” !

في مواجهة عنف الدولة الحديثة سواء كان عاريًا أو مقنّعًا بلغة القانون والسيادة – لا تُقاس شرعية النظام بما تقرّه الدساتير أو صناديق الاقتراع وحدها، بل أولًا بشرعية الضمير العام.

فالسلطة القمعية لا تحتاج إلى تبرير دائم بقدر ما تحتاج إلى جمهور يصمت، أو يشيح بوجهه، أو يتواطأ.

وهنا تكمن مأساة الشعوب: ليس فقط في فقدان الحقوق، بل في اللحظة التي يُمحى فيها “وجه الآخر”، كما يقول ليفيناس، من الفضاء الأخلاقي العام، ويُعاد تقديمه كـ”خطر”، أو “عبء”، أو “تهديد للوطن”.

من هنا، فإن بناء دولة ديمقراطية في السودان لا يمكن أن يبدأ بمجرد تعيين رئيس وزراء وان كان دمية للعسكر او بتعديلات دستورية جديدة أو شعارات فارغة؛ بل يجب أن يبدأ بتحرير الضمير الجمعي من ثقافة الصمت، والتواطؤ، والتطبيع مع القمع والدم.

فلا يمكن لجمهورية عدالة أن تُقام على ذاكرة صامتة تجاه مذابح الجنوب، واغتصابات دارفور، وحرق قرى جبال النوبة والنيل الأزرق.

لهذا بالضبط تكتسب رؤية السودان الجديد التي تبناها تحالف “تأسيس” للعدالة التاريخية قيمتها الجوهرية اليوم.

فالعدالة هنا ليست مجرد تصفية ملفات الماضي، بل هي شرط تأسيسي لبناء وطن جديد.

وهي ليست تعويضًا رمزيًا للضحايا، بل إعادة تعريف لما تعنيه المواطنة في السودان: أن لا يُعاد إنتاج “مواطن من الدرجة الثانية او مادونها”، ولا يُبرر القمع ضد أي مجموعة باسم “وحدة الدولة” أو “أمنها”…

بدون هذا الاعتراف العميق بالجرائم التاريخية، وبدون إعادة الاعتبار الكامل للضحايا ماديا ومعنويا كشرط للمواطنة المتساوية، لن يكون مشروع الدولة الجديدة إلا قشرة قانونية تخفي استمرار القمع بثياب جديدة.

إن مشروع تحالف “تأسيس” في طرحه للعدالة التاريخية يُذكّرنا بحقيقة بديهية أخلاقية:

أن من لا يعترف بجراح الأمس، لن يُنتج سوى مزيد من الضحايا غدًا.

وأن من لم يُدن بصوت واضح ما ارتُكب في الجنوب ودارفور وجبال النوبة، والنيل الازرق لن يكون أهلاً للمشاركة في تأسيس وطنٍ يتساوى فيه الجميع أمام القانون والكرامة.

النضال مستمر والنصر اكيد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الوسومالجرائم ضد الهامش الهيمنة الثقافية وتفاهة الشر تاريخ النخب السودانية حماية الديمقراطية خالد كودي درس كلفورنيا لماذا لم تُقاوِم الخرطوم/المركز مذابح الهامش؟

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: تاريخ النخب السودانية حماية الديمقراطية خالد كودي

إقرأ أيضاً:

كنت شاهدا على مذابح الفرنسيين في مصر

يُعدّ عبد الرحمن الجبرتي أحد آخر المؤرخين المصريين الذين حافظوا على تقاليد الكتابة التاريخية الكلاسيكية التي اشتهر بها المقريزي، إذ يتجلى في أعمالهما حضور عميق للهوية المصرية في توصيف المكان والعادات والمجتمع.

ورغم هذا التوازي فإن السياق الذي كتب فيه كل منهما يختلف جذريا؛ فقد عايش المقريزي مرحلة ازدهار الدولة المملوكية وسطوتها على المجالين المحلي والإسلامي، بينما كتب الجبرتي تحت وطأة الانحدار العثماني والتراجع المصري، في لحظة مفصلية سبقت صدمة الاحتلال الفرنسي، حيث برزت الهوة الحضارية والعسكرية بين الداخل المصري و"الآخر" الأوروبي.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف واجه العثمانيون وحشية دراكولا مصاص الدماء؟list 2 of 2المدفع العثماني الذي غيّر الصناعة العسكرية الأوروبيةend of list

ومع أن الواقع الذي رصده الجبرتي كان مثقلا بمظاهر الانهيار، فإن وعيه بما يدور حوله لم يكن مغيبا، بل اتسم برؤية نافذة لما تحمله الحملة الفرنسية (1798–1801م) من "خطر" يتجاوز مجرد الاحتلال العسكري والقهر والبطش الذي تعرض له المصريون على يد نابليون وجنوده إلى تهديدات ثقافية وتاريخية عميقة، إذ أدرك منذ البداية -بوصفه أحد أبناء النخبة المثقفة- أن هذا الوافد الجديد أبهر العيون بتقدمه العسكري والعلمي، وذلك ما جعله يتوجّس من آثاره على مصير البلاد والعباد.

تخلف وانكسار!

نظر الجبرتي إلى دخول الفرنسيين مصر بوصفه كارثة شاملة ألمّت بالبلاد، وهو ما يظهر جليا في نبرة كتاباته التي يطغى عليها الحزن والخوف من هول الحدث، فقد وصف كما في كتابه "عجائب الآثار" السنة التي بدأت فيها الحملة الفرنسية عام 1798 بأنها "أول سِنيّ الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".

إعلان

والجبرتي حين يقف على أسباب هذه المحن الكبرى التي وقعت في مصر مع دخول الاحتلال الفرنسي، وهو مع اعترافه بتفوقهم العسكري والعلمي لا يراهم إلا محتلين منكّلين بأبناء وطنه، ثم لا يركن الأسباب إلى التفوق العسكري الفرنسي فقط، بل ينتقد حكام وأمراء عصره ممن تقاعسوا عن إدراك ما يدور حولهم، وأهملوا التطور العسكري والحضاري، فهو يقول في كتابه الآخر "مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس":

"إن من أعظم الدلائل على ما رُميت به مصر، وحلّ لأهلها تنوع البؤس والإصر بحلول كفرة الفرنسيس، ووقوع هذا العذاب البئيس …كان هؤلاء الأقوام (الفرنسيون والصليبيون) وأمثالهم ممن لهم في الخروج مشارك، ولروم الإفساد متربص متدارك، كل يريد الحلول بأرضها، والتفيؤ بظلال خصبها وروضها، فيرجع بخُفّي حُنين، ولم تزل (مصر).. محمية عن تطرق أيدي المفسدين، مصانة عن أن يطرق حماها عصابة المعتدين .. كثيرا ما قهرتهم جند القاهرة، وباؤوا عند توجههم إليها بصفة خاسرة .. وإن الدولة العثمانية، أبقاها الله وأشادها، كانت وسّدت أمور مصر لمن بها من الحكّام (المماليك)، اعتمادا على شُهرة شجاعتهم، وحماستهم السائرة بين الخاص والعام، و(لكن) تلك الحكام اعتمدوا على سابق الشهرة، وركنوا إلى الدهر ولم يأمنوا غدره، فخرّبوا الثغور، وأشادوا القصور، واستبدلوا بأبطال الرجال ربّات الخدور"!

هذا الإهمال الحضاري، والركون إلى الدعة والكسل وعدم متابعة ما يدور في العالم، وخاصة التحديات الكبرى التي كانت تواجهها مصر من الطامعين فيها، جعل اقتحام الفرنسيين لعقبة البلاد مهمة تبدو سهلة في نظر الجبرتي الذي يقول في "مظهر التقديس": "فلما دهمت الفرنسيس ثغرها الخالي، ووقفت منه على طلل بال، سهُل عليهم الحال فاقتحموه، ودخلوا من باب الإقليم بدون أن يفتحوه، وتقاعدت العساكر المصرية عن التسارع لاستنقاذ الثغر فعظُم البلا، وأخذ العدو يطوي بساط الأرض حتى إذا التقى الجمعان لم يسع القوم إلا الفرار في الفلا"!

كان الجبرتي واعيا تماما بمدى فساد المماليك في عصره لا فقط من ناحية السلوك الأخلاقي، بل من حيث العجز الإدراكي عن فهم التحولات السياسية والعسكرية من حولهم، وقد رأى أن هذا العمى الإستراتيجي أسهم إسهاما مباشرا في سقوط مصر أمام الحملة الفرنسية، ومن أبرز الأمثلة التي رصدها، تلك الواقعة التي سبقت الغزو الفرنسي بأيام حين عرض الأسطول الإنجليزي المساعدة على مصر درءا للخطر الفرنسي، ليس حبا بالمصريين بل بدافع الصراع الأوروبي وسعيا للحفاظ على توازن القوى، غير أن حاكم الإسكندرية وقتئذ محمد كُريّم رفض ذلك العرض رغم ما سيترتب عليه من نتائج وخيمة، أولها أنه كان من أوائل من أُعدموا بأمر من نابليون عند دخوله المدينة.

وثّق الجبرتي بدقة الممارسات القمعية والوحشية التي تعرّض لها الشعب المصري تحت الاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون (بيكسلز)

وفي خضم هذه التحولات الخطيرة، ظل المماليك أصحاب السلطة العسكرية في البلاد في حالة لامبالاة، مفرطين في ثقتهم بقوتهم، كما ينقل الجبرتي: "وردَ في ثالث يوم بعد ورود المكاتيب الأولى، مكاتبات مضمونها أن المراكب التي وردت الثغر عادت راجعة، فاطمأنّ الناسُ، وسكن القيل والقال، وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك، ولم يكترثوا به، اعتمادا على قوّتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم، وأنهم يدوسونهم بخيولهم".

إعلان

لكن تلك الثقة الزائفة لم تصمد أمام صدمة الواقع، إذ هُزم المماليك سريعا أمام التفوق العسكري الفرنسي، وسقطوا في الأسر، وعاشوا ذلا لم يعرفوه من قبل، وقد نقل الجبرتي صورة مُهينة لحالهم بعد إطلاق سراحهم بوساطة من المصريين، إذ "دخل الكثير منهم إلى الجامع الأزهر، وهم في أسوأ حال، وعليهم الثياب الزرق المقطّعة، فمكثوا به يأكلون من صدقات الفقراء المجاورين به، ويتكففون المارين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين"، مشهدٌ بليغٌ لخاتمة طبقة حاكمة فرّطت في مسؤولياتها حتى تقوّضت تحت أقدام المحتل.

كان الجبرتي على وعي تام بانحدار الدولة العثمانية في عصره، فلم يكن ينتظر منها نصرة أو عونا يُعوَّل عليه، بل رأى فيها كيانا واهنا مثقلا بالأزمات الداخلية والتحديات الخارجية التي نخرَت جذوره.

وقد عبّر عن هذا الإدراك مبكرا، حين أشار في سرده لوفيات سنة 1168هـ/1754م إلى أن "آخر سلاطين بني عثمان في حسن السيرة والشهامة والحرمة، واستقامة الأحوال والمآثر الحسنة" قد غاب، إيذانا بنهاية عصر القوة العثمانية، أي قبل الحملة الفرنسية على مصر بنحو نصف قرن.

ولهذا لم يكن غريبا أن يسخر من إرسال المصريين لسفير إلى إسطنبول يطلب النجدة في وجه الحملة، وعلّق بتهكُّم لاذع على تلك الخطوة قائلا إنهم أرسلوا "بالترياق من العراق"، في إشارة رمزية إلى عبثية انتظار الشفاء من جسد مريض.

فظائع الفرنسيين في عيون الجبرتي

ولكن كما يقول الكاتب محمد جلال كشك في كتابه "ودخلت الخيل الأزهر" كان الجبرتي يدرك حين دخل الفرنسيون مصر أين يقف، إنه لا ينقم على المماليك والعثمانيين سوى تقاعسهم وتأخرهم عن نجدة الناس وإنقاذ مصر، وتخلفهم العسكري، وإلا فإنه كثيرا ما مدح أبطالهم وأصحاب البأس والشجاعة فيهم ممن قاوموا الفرنسيين وبذلوا في سبيل ذلك أموالهم وأرواحهم مثل ذلك الجندي المملوكي الذي انغمس في قلب الجيش الفرنسي يقول عنه:

"واقتحم مصاف الفرنساوية، وألقى نفسه في نارهم واستُشهد في ذلك اليوم، وهي منقبة اختصّ بها دون أقرانه بل دون غيرهم من جميع أهل مصر". كما أثنى على أمير مملوكي آخر اسمه حسن بك الجداوي وقتاله وشجاعته في ثورة القاهرة الثانية، ودعا له بالمغفرة.

لم يقتصر وعي الجبرتي التاريخي وإدراكه لخطورة وفاجعة الاحتلال الفرنسي الذي شبهه تارة بالأسر وتارة بالخسوف على تسجيل الوقائع، بل امتد ليشمل متابعة دقيقة لتأثير الحملة على المصريين، في المدن كما في القرى، كما وثّق بدقة الممارسات القمعية والوحشية التي تعرّض لها الشعب المصري تحت الاحتلال الفرنسي، ومن ذلك المصادرات المتكررة التي نالت من أرزاق الناس وممتلكاتهم، ولم يقتصر رصده على الجوانب الاقتصادية بل نقل تفاصيل ثورة القاهرة الأولى، بما تضمنته من مقاومة شعبية شرسة، واشتباكات دامية، وردّ عنيف من الفرنسيين بلغ ذروته في قصفهم العنيف للجامع الأزهر مركز الحركة الثورية.

المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي (ناشطون)

ويصف الجبرتي في "عجائب الأخبار" واقعة اقتحام الأزهر بصورة صادمة، قائلا إن الجنود الفرنسيين دخلوا "وهم راكبون خيولهم، وَولجوه من الباب الكبير وخرجوا من الباب الثاني حيث موقف الحمير، وداس فيه المشاة بالنعالات، وهم يحملون السلاح والبندقيات، وتفرّقوا في صحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والبحرات، وكسروا القناديل والسهّارات، وهشّموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشّتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالاتهم داسوها"، في مشهد يكشف عن حجم الانتهاك الذي تعرّض له أقدس رموز العلم والدين في مصر، بما مثّله ذلك من إهانة متعمدة للكرامة الدينية والوطنية.

إعلان

كما رصد استشهاد العديد من طلبة الأزهر ممن قادوا المواجهة ضد الفرنسيين، إذ وقع كثير منهم في الأسر، واقتادوهم إلى سجن قلعة القاهرة، يقول عن بعضهم: "مات الشاب الصالح والنبيه الفالح الفاضل الفقيه الشيخ يوسف المصيلحي الشافعي الأزهري حفظ القرآن والمتون .. ولم يزل ملازما على حاله حتى اتهم أيضا في حادثة الفرنسيس وقتل مع من قتل شهيدا بالقلعة".

ويقول عن أحد علماء الأزهر الآخرين: "ومات الشيخ الإمام العمدة الفقيه الصالح القانع الشيخ عبد الوهاب الشبراوي الشافعي الأزهري … ولم يزل ملازما على حالته حتى اتُّهم في إثارة الفتنة وقتل بالقلعة شهيدا بيد الفرنسيس في أواخر جمادى الأولى من السنة (نوفمبر/تشرين الثاني 1798) ولم يُعلم له قبر".

كما رصد الجبرتي فسادهم في الأرياف، وتعذيبهم الناس بالضرب والإهانة وتغريمهم الأموال الضخمة، يقول عن نزولهم لإحدى القرى في دلتا مصر: "فلما وصلوا إلى دورهم طلبوهم فلم يمكنهم التغيب خوفا على نهب الدور، فأخذوهم إلى خارج البلد وقيّدوهم، وأقاموا نحو خمسة أيام خارجها يأخذون في كل يوم ستمائة ريال سوى الأغنام والكُلَف".

ويقول عن اعتقالهم لرجل اسمه مصطفى الخادم إن الفرنسيين "طالبوه بالمال، وفي كل وقت ينوّعون عليه العقاب والعذاب والضرب حتى على كفوف يديه ورجليه، ويربطونه في الشمس في قوة الحر والوقت مصيف، وهو رجل جسيم كبير الكرش فخرجت له نفاخات (انتفاخات وأورام) في جسده".

ويكشف الجبرتي عن حجم الظلم الذي أوقعه الفرنسيون على أهالي طنطا والمحلة ومنوف وغيرها من مدن وقرى الدلتا بشمال مصر فضلا عن جنوبها، بل وما فعلوه في العديد من أحياء القاهرة؛ ففي كتابه "مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس"، الذي دوّنه خلال وجود الحملة ونقّحه بعد رحيلها، قدّم الجبرتي توثيقا بالغ الأهمية لمظاهر التدمير التي لحقت بالقاهرة، تلك المدينة التي كانت تزهو بحضارتها وتنوّع أحيائها.

وقد أشار إلى حجم الخراب الذي امتد إلى مناطق مثل الأزبكية وبولاق وبركة الفيل، التي كانت "من أجمل مُتنزّهات مصر قديما وحديثا"، لكنها تحوّلت بفعل القصف والمواجهات "تلالا وخرائب وكيمان أتربة"، في مشهد يعكس مدى العنف الذي مارسه الاحتلال الفرنسي لا ضد المقاومة فقط، بل ضد عمران المدينة وهويتها أيضا.

رصد الجبرتي استشهاد العديد من طلبة الأزهر ممن قادوا المواجهة ضد الفرنسيين (الجزيرة)ثورات المصريين

ولهذا السبب سرعان ما اشتعلت الثورة في القاهرة وتبعتها بقية الأقاليم الأخرى ضد الوجود الفرنسي في البلاد في الدلتا والصعيد، وكما يرصد عبد الرحمن الرافعي في كتابه "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" ردود أفعال المصريين المختلفة، ففي المنوفية "ثار أهل غمرين وتتا شمالي منوف يوم 13 أغسطس/آب 1798 وحملوا السلاح، وأغلقوا الأبواب في وجه الجنود، فحاول الجنرال فوجيير عبثا أن يُكره البلدينِ على فتح أبوابهما فلم يستطع، ولما أعيته الحيل طلب المدد من الجنرال زايونشك الذي كان مرابطا بمنوف فأمدّه بقوة من جنوده، وتعاونت القوتان على إخضاع القريتين بعدما دافع أهلها دفاعا شديدا، واشتد القتال خاصة في غمرين، واشتبك الأهالي والجنود في طرقاتها، فانهمرت فيها الدماء، وغطيت الأرض بجثث القتلى".

وقد وصف الكابتن الفرنسي فيروس هذا الدفاع بقوله: "جاءنا المدد وتعاونت الكتيبتان على مهاجمة قرية غمرين فأخذناها عنوة بعد قتال ساعتين، وقتلنا من الأعداء (الأهالي) من أربعمائة إلى خمسمائة بينهم عدد من النساء كُنّ يهاجمن جنودنا بكل بسالة وإقدام".

وفي المحلة الكبرى في الدلتا كمن الفرنسيون للأهالي الغاضبين في هذه الثورة، وأطلقوا عليهم المدافع والبنادق فقتلوا منهم بضعا وستين إنسانا كان منهم قاضي البلد وغيره، وسنرى تكرر هذه الحوادث في طول مصر وعرضها والوحشية التي تعامل بها الفرنسيون مع سكان البلاد بهدف الإخضاع والتبعية المطلقة.

وفي صعيد مصر سنرى المشهد ذاته، فقد حاول أهالي طهطا النيل من الحامية والعساكر الفرنسية في مناطقهم، فأمر الجنرال دافو بإطلاق النار عليهم ففتكت بهم فتكا ذريعا وخسر الأهالي عددا كبيرا من القتلى قدرهم أحد الضباط المشاركين في هذه المعارك بـ150 شهيدا من الفرسان و800 من المشاة، وانتقم الفرنسيون انتقاما فظيعا من القرى التي أطلقت عليهم النار، فقتلوا من أهلها خمسمائة رجل وأحرقوها، وكما يذكر كرستوفر هيرولد في كتابه "بونابرت في مصر" فإن الجنرال بليار كان يسمح لجنوده باغتصاب النساء في هذه المعارك "ليرفع معنوياتهم، ويأمر بإتلاف المحاصيل ليهبط بمعنوية المماليك".

إعلان

تلك بعض من مشاهد القمع والوحشية التي رصدها الجبرتي في كتابيه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" و"مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس"، وهي مشاهد تكشف لنا صورة لطالما حاول البعض إخفاءها، مركزين جام اهتمامهم على المطبعة والعلماء الفرنسيين ممن رصدوا أحوال مصر الحضارية من خلال مجموعة "وصف مصر"، فضلا عن تقدمهم العلمي والتكنولوجي، وتجاهلوا تماما ردود فعل المصريين في ثوراتهم المتعاقبة، وأنواع البطش والقوة التي استخدمها الفرنسيون إبان احتلالهم للبلاد.

مقالات مشابهة

  • جنرال إسرائيلي: لماذا لم تُهزم حماس بعد كل الضربات التي تلقتها؟
  • الوجه الآخر لحرب السودان.. مرتزقة وراء البحار
  • شاهد بالفيديو.. شيبة ضرار: (المصباح وأخوانه حرروا الخرطوم وعدد من الولايات ويستحق أن ينصب له تمثال)
  • عناوين الصحف السودانية الصادرة اليوم الإثنين 11 أغسطس 2025م
  • كنت شاهدا على مذابح الفرنسيين في مصر
  • مقابر الحرب العشوائية.. مأساة وحكايات لم تُروَ في قلب الخرطوم
  • تم احتواء الكوليرا في الخرطوم والوفيات صفر
  • عناوين الصحف السودانية الصادرة اليوم الأحد
  • السودان.. تخطيط جديد للعاصمة وشارع النيل بمعايير عالمية
  • مسؤولة “أممية”: الخرطوم مدينة أشباح مدمّرة منهوبة.. والشعب السوداني يملك روح الصمود