يرتفع صوت تيار يروّج لفكرة أن إنهاء إيران على يد الكيان الإسرائيلي يمثل “فرصة تاريخية”. هذا الطرح يكشف قراءة ساذجة وخطيرة للواقع الجيوسياسي، ويؤسس لتسليم كامل بموازين الهيمنة الصهيونية، في لحظة تفتقر فيها الأمة إلى مشروع تحرري فعّال.
إن زوال إيران أو تدمير قوتها الإقليمية لا يُنتج استقرارا، وإنما يمنح (إسرائيل) موقع السيادة المنفردة على الإقليم، فالتوازن القائم بين قوتين متخاصمتين مهما اختلفت دوافعهما يشكّل حاجزا أمام تفرد أحدهما بالقرار الإقليمي، وتكافؤ الخصوم يوسّع هامش المناورة للقوى الضعيفة، بينما يؤدي اختلال المعادلة إلى شلل القدرة على الصمود والمقاومة.
لا ينتظر الكيان الإسرائيلي إذنا ليتوسع لكنه يتحرك حين يتوفر له الفراغ، وتراجع إيران أو اختفاؤها يخلق بالتأكيد هذا الفراغ؛ إذ ستتقدم تل أبيب لفرض هندسة أمنية شاملة على منطقتنا في ظل أنظمة عربية كثيرة أظهرت استعدادها الكامل للانبطاح أمام الإرادة الصهيونية. ومع غياب القوة التي تثير قلقها، ستتوسع دون عوائق وتفرض نفوذها بلا مقاومة.
المشروع الإسرائيلي يمتد في خطة مدروسة للهيمنة والتفكيك. وهذه الخطة بدأت قبل الثورة الإيرانية، وتواصلت مع تعاظم نفوذ طهران، وتتسارع عند كل فراغ؛ إذ نجد الكيان الإسرائيلي يضرب غزة ويخترق بيروت ويوجه رسائل نارية إلى دمشق وبغداد وينسق مع أنظمة عربية سرا وعلانية رغم بقاء الخصم الإيراني.. فكيف سيكون المشهد إذا اختفى هذا الخصم من الميدان؟
إن المراهنة على اكتفاء (إسرائيل) بزوال إيران وهم سياسي.. هذا الكيان يتغذى على الضعف، ويتقدم كلما غاب التهديد.. وزوال إيران لا يحرر العواصم العربية لكنه يسلّمها للاختراق الصهيوني الشامل والهيمنة المتفردة.. وعندما تفقد أقطارنا قوة الردع الخاصة بها تتحول أنظمتها إلى وكلاء طيعين ضمن منظومة الهيمنة والتبعية.
إيران، رغم مشروعها الطائفي القبيح وتمددها الخبيث لا تمثل العقبة الوحيدة أمام النهضة.. العقبة الكبرى تكمن في غياب المشروع العربي المستقل، وفي افتقاد الإرادة السياسية الرافضة للارتهان بين مطرقة التمدد الإيراني وسندان التبعية الغربية.. والأمة لا تحتاج إلى (عدو واحد)، ولكن إلى معادلة توازن تسمح بنشوء قوة ثالثة تعيد تعريف الاستقلال القومي وتحرر القرار السياسي.
إن الاحتماء بعدو لتصفية عدو آخر لا يصنع سيادة لكنه يرسّخ الاستلاب والتبعية. والخروج من هذا الحصار لا يمر عبر نيران العدو الإسرائيلي، وإنما عبر بناء القوة الذاتية، وتحشيد الإرادة الشعبية، واستعادة القرار السيادي من قبضة الارتهان المزدوج.
ستفقد الأمة ما تبقى من قدرتها على المقاومة والمواجهة حين يتفرد الكيان الإسرائيلي بالسيادة على الإقليم، وتتحول الأنظمة العربية إلى أدوات تنفيذ لا تملك من أمرها شيئا.. تنفذ ما يملى عليها من مراكز القرار الأجنبية، وتضطلع بدور الوكيل المحلي في مشروع الهيمنة، وتسخر مواردها لحماية المصالح الخارجية بدلا من حماية شعوبها، إسهاما في ترسيخ الضعف، وقمعا لأي نزوع نحو التحرر أو المقاومة حتى تصبح الدولة الوطنية مجرد واجهة شكلية لسلطة بلا إرادة أو قرار أو سيادة.
الصراع الحقيقي لا يقتصر على إيران أو إسرائيل، إنما يدور مع بنية الهيمنة التي تحاصر أمتنا وشعوبنا منذ لحظة الاستقلال وقيام الدولة العربية الحديثة.
— ومن يراهن على الكيان الإسرائيلي لتحقيق الخلاص، فإنه بذلك يسلّم المفاتيح، ويوقّع على بياض، ويخسر نفسه قبل أن يخسر عدوه!
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق كتابات خاصةأنا طالبة علم حصلت معي ظروف صعبة جداً و عجزت اكمل دراستي و أ...
نحن اقوياء لاننا مع الحق وانتم مع الباطل...
محمد عبدالخالق سعيد محمد الوريد مدير بنك ترنس اتلنتيك فليوري...
قيق يا مسؤولي تعز تمخض الجمل فولد فأرة تبا لكم...
المتحاربة عفوًا...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: الکیان الإسرائیلی فی الیمن
إقرأ أيضاً:
مأزق تساوي كلف الحرب والصفقة على الكيان وداعميه
نقلت الصحافة العبرية عن رئيس اركان جيش الاحتلال إيال زامير؛ قوله خلال اجتماعه بقادة الأركان يوم الخميس: "مستمرون في العمل من أجل ضمان أمن طويل المدى لبلدات جنوب إسرائيل وغلاف غزة، وكذلك أمن البلدات عند الحدود كلها، وبمقدورنا اليوم الحفاظ على حدود أمنية جديدة، من خلال استهداف مستمر للعدو".
زامير بذلك حدد استراتيجيته المفضلة للحرب ألا وهي الحفاظ على يد جيش الاحتلال مطلقة في استهداف مصادر التهديد وعدم الاكتفاء باحتوائها، إذ قال: لن نسمح بالاحتواء بعد الآن، وسنحبط التهديدات لدى نشوئها في جميع الجبهات، ونواصل العمل من أجل تحقيق أهدافنا. كما نقل عنه موقع أكسيوس الأمريكي والصحافة العبرية أنه يفضل عملية محدودة في قطاع غزة يشدد فيها الحصار والعمليات العسكرية دون الاحتلال المباشر لقطاع غزة. فزامير يكافح لتجنب التورط في حرب استنزاف طويلة وعميقة الأثر في بنية جيشه وأهداف كيانه السياسية وتحالفاته.
لا تعد هذه الرؤية خاصة بزامير، إذ أقدم ما يقارب 600 جنرال وضابط على توجيه رسالة لإدارة دونالد ترامب يدعونه فيها للضغط على نتنياهو للذهاب إلى صفقة مع المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، وتجنب توسيع نطاق العمليات العسكرية في القطاع بحجة الحفاظ على حياة الأسرى، فيما تخفي التفاصيل رغبة جامحة لقادة الجيش الحاليين والسابقين بتجنب التورط في حرب استنزاف تفضي إلى تآكل الرصيد الاستراتيجي والأخلاقي المتبقي للكيان الإسرائيلي.
كلفة الحرب وتوسعتها بحسب تصورات المستوى السياسي الذي يتزعمه نتنياهو؛ تتساوى مع كلفة التوصل إلى صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، فالحرب ستقود إلى استنزاف عسكري وسياسي واستراتيجي يمتد أثره إلى القارة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية والساحة الدولية، في حين ن توقيع اتفاق وإنهاء الحرب وإن كان مؤقتا فإنه سيعزز من مكانة المقاومة وحركة حماس، وروايتها ويحرج الولايات المتحدة أمام خصومها وأمام حلفائها وشركائها في الإقليم؛ الذين ورطتهم في مواقف وإجراءات للضغط على الفلسطينيين ومقاومتهم دون جدوى.
الكلف المتساوية تزيد من صعوبة عملية اتخاذ القرار إسرائيليا وأمريكيا، فالحرب لن تقود إلى نجاح كبير، بل هي تكرار لعملية السيوف الحديدة، وخطة الجنرالات، وعربات جدعون، في حين أن الذهاب لصفقة لن يحقق أهداف الحرب وسقوفها المرتفعة، مظهرا العجز كهزيمة وانتكاسة للاحتلال أمام المقاومة في الإقليم، يعتقد زامير والقادة العسكريين إمكانية معالجتها عبر الحصار والتجويع وإطلاق يد جيش الاحتلال بين الحين والآخر لتحييد التهديدات لا احتوائها، كما الحال في لبنان وسوريا وإيران واليمن والعراق، بحسب تلميحاته وتوجهاته التي أفصح عنها وسربتها الصحافة الأمريكية والعبرية.
أخيرا، جاءت تصريحات دونالد ترامب بترك قرار الحرب والصفقة لنتنياهو وأعضاء حكومته لتعبر عن مأزق تساوي الكلف والمنفعة المترتبة عن الحرب ووقفها، فترامب يسعى إلى تجنب تحمل تبعات القرار الذي يزداد إشكالية وتعقيدا بعد أن تساوت فيه الكلف والمنافع على نحو حرج يوحي بإمكانية انقلاب المعايير والنتائج سريعا، سواء كان ذلك بسبب الاستنزاف العسكري، أو بسبب تصاعد الغضب والحراك العالمي ضد الاحتلال وداعميه، خصوصا أن الاستنزاف العسكري للاحتلال وهندسة التجويع التي يتبعها يغذيان الحراك العالمي ويقويه.
ختاما.. الحراك العالمي المناهض للاحتلال تجاوز القيود والخطوط الحمراء بالإعلان عن إرسال 50 سفينة يتوقع انطلاقها من أوروبا في 31 من آب/ أغسطس الحالي باتجاه قطاع غزة لكسر الحصار، ومن خلال تصاعد العداء للاحتلال ومواطنيه ومستوطنيه على نحو يهدد برفع كلفة سيطرة الاحتلال ليس فقط على قطاع غزة بل والضفة وما وراءهما، وصولا إلى نفوذه في أوروبا وأمريكا، حيث أصبحت أساليب التعبير عن الغضب أكثر عنفا وأكثر تشددا ووضوحا من أي وقت مضى، وهي ظاهرة يمكن أن تنتقل للمنطقة العربية على هيئة عدوى سياسية وأخلاقية تحرج الاحتلال والولايات المتحدة وشركاءها.
x.com/hma36