أصبحت نماذج اللغة الضخمة مثل "شات جي بي تي" مساعدا فوريا للطلاب والكتاب والمبدعين، فبضغطة زر تتشكل المقالات وتصاغ الإجابات وتختصر ساعات من البحث والجهد. لكن، بينما نعجب بهذه السهولة التي تخفف الجهد والعبء المعرفي لحدوده الدنيا، تدق دراسات علمية حديثة ناقوس الخطر حول ثمن خفي قد ندفعه على الأمد الطويل، وهو ما يعرف بـ "الدين المعرفي".

تماما كما يتراكم "الدين التقني" في عالم البرمجة حين يتم اختيار حلول سهلة ومؤقتة، يتراكم "الدين المعرفي" في عقولنا عندما نعتمد على إجابات الذكاء الاصطناعي الجاهزة دون خوض رحلة التفكير والتحليل. يبدو الأمر مريحا في الحاضر، لكنه قد يخلف فجوة في مهاراتنا وقدراتنا المعرفية في المستقبل. فهل يتحول هذا المساعد الذكي، مع فرط الاعتماد عليه، إلى "عكاز معرفي" يضعف من قدرتنا على المشي فكريا بمفردنا؟

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الإسلاموفوبيا القاتلة.. كيف دفع خطاب اليمين المتطرف نحو سفك دماء المسلمين في أوروبا؟list 2 of 2محمد حليقاوي: الاستشراق الغربي والصهيوني اندمجا لإلغاء الهوية الفلسطينية عبر الكراهية والإقصاءend of list

للإجابة على هذا السؤال المقلق، سعت دراسة علمية لباحثين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الأميركي، لاستكشاف التكلفة المعرفية الحقيقية لاستخدام نماذج اللغة الكبيرة في مهمة تعليمية أساسية هي كتابة المقالات.

عندما أتيحت أداة الذكاء الاصطناعي لمن كتبوا بعقولهم فقط، أظهروا قدرة فائقة على الاستفادة منها دون أن يفقدوا انخراطهم الذهني (شترستوك) ماذا يحدث في الدماغ؟

صمم فريق من الباحثين تجربة دقيقة امتدت 4 أشهر، بمشاركة 54 متطوعا، بهدف قياس أثر هذه التقنية على الدماغ والأداء. تم تقسيم المشاركين منذ البداية إلى 3 مجموعات رئيسية، خاضت كل منها تجربة كتابة مختلفة.

وهذه المجموعات الثلاث هي: مجموعة الذكاء الاصطناعي (إل إل إم) التي استخدم أفرادها نموذج شات جي بي تي للمساعدة في كتابة مقالاتهم، ومجموعة البحث الإلكتروني واعتمد أفرادها على محركات البحث التقليدية لجمع المعلومات، دون مساعدة مباشرة في الصياغة، وأخيرا مجموعة "الدماغ فقط" التي كتب أفرادها مقالاتهم بالاعتماد الكلي على معارفهم وجهدهم الذهني، دون أي أداة مساعدة خارجية.

ولرصد التأثيرات الطويلة الأمد، استمر كل مشارك ضمن مجموعته 3 جلسات متتالية. أما الجلسة الرابعة، فقد حملت تغييرا مفاجئا وحاسما، حيث طلب من مجموعة الذكاء الاصطناعي التخلي عن مساعدهم الذكي والكتابة بعقولهم فقط، بينما منحت مجموعة "الدماغ فقط" فرصة استخدام شات جي بي تي لأول مرة. كان الهدف من هذا التبديل هو اختبار ما إذا كانت آثار الاعتماد على الذكاء الاصطناعي مؤقتة أم أنها تترك بصمة دائمة.

إعلان

اعتمدت الدراسة على منهجية شاملة، حيث تم قياس النشاط العصبي للمشاركين باستخدام تقنية تخطيط أمواج الدماغ (إي إي جيه) لرصد الانخراط الذهني، كما تم تحليل جودة النصوص بمساعدة معلمين وبنماذج تقييم آلية، بالإضافة إلى إجراء مقابلات شخصية مع المشاركين بعد كل جلسة لفهم تجربتهم الذاتية وشعورهم بملكية العمل.

عقل أقل اجتهادا ومحتوى أقل إبداعا

جاءت نتائج الدراسة لتكشف عن فروقات واضحة ومثيرة للقلق بين المجموعات الثلاث، وتؤكد وجود مقايضة حقيقية بين راحة الاستخدام الفوري وتكلفة التعلم الطويلة الأمد.

أظهرت بيانات تخطيط الدماغ أن مجموعة "الدماغ فقط" سجلت أقوى وأوسع ترابطات عصبية، مما يشير إلى انخراط ذهني مكثف وعميق في عملية الكتابة. في المقابل، كانت مجموعة الذكاء الاصطناعي هي الأضعف نشاطا على الإطلاق. بعبارة أخرى، كلما زاد الدعم الخارجي قل اجتهاد العقل، فالاعتماد على شات جي بي تي ولّد أضعف تفاعل دماغي، مما يعني "عقل أقل اجتهادا مع المساعدة الخارجية".

وخلال المقابلات، أفاد المشاركون الذين استخدموا شات جي بي تي بأن شعورهم بملكية ما كتبوه كان ضعيفا، وكأن النص ليس نتاج أفكارهم الحقيقية. وقد انعكس ذلك على قدرتهم على التذكر، حيث واجه الكثير منهم صعوبة في استرجاع أو اقتباس أجزاء من مقالات صاغوها قبل دقائق معدودة. في المقابل، شعر أفراد مجموعة الكتابة الذاتية بملكية وفخر أعلى تجاه نصوصهم، وتذكروا تفاصيلها بشكل أفضل، وهو ما يعني -وفق الدراسة- تجربة "تذكر باهت وملكية منقوصة" لمن استخدموا نماذج الذكاء الصناعي.

وكذلك لاحظ الباحثون أن مقالات مجموعة الذكاء الاصطناعي كانت متشابهة إلى حد كبير في الأسلوب والأفكار، مما يشير إلى أن استخدام الأداة نفسها يولد نتاجا نمطيا ويقضي على التنوع. فالنموذج اللغوي يميل إلى تقديم صياغات موحدة للمستخدمين، مما يقلل من مساحة الإبداع الفردي. على النقيض، جاءت مقالات مجموعة "الدماغ فقط" أكثر تباينا وأصالة، وعكست الصوت الفريد لكل كاتب.

ولم تتوقف المفاجآت عند هذا الحد، فقد جاء الدليل الأقوى على تراكم "الدين المعرفي" عندما حرم المشاركون الذين اعتادوا على دعم شات جي بي تي منه فجأة، أظهروا نشاطا دماغيا أضعف وأداء أقل. لقد بدا كأن عقولهم، التي اعتادت على "العكاز المعرفي"، تجد صعوبة في العمل بمفردها. في المقابل، عندما أتيحت أداة الذكاء الاصطناعي لمن كتبوا بعقولهم فقط، أظهروا قدرة فائقة على الاستفادة منها دون أن يفقدوا انخراطهم الذهني، إذ ظلت أجزاء الدماغ المسؤولة عن الذاكرة والتفكير النقدي نشطة.

هناك حاجة ملحة لرفع وعي المستخدمين بمخاطر الاعتماد الكلي على الذكاء الاصطناعي، وتشجيعهم على التحقق من المعلومات وإعادة صياغة المخرجات (شترستوك) توصيات لعصر الذكاء الاصطناعي

لا تدعو الدراسة إلى إقصاء التقنية، بل إلى استخدام حكيم ومدروس. بناء على هذه النتائج، يقدم الباحثون رؤى مهمة لصناع القرار في التعليم والثقافة، أولها هو مبدأ "التعلم أولا، المساعدة ثانيا"، أي يجب أن يظل التعلم النشط هو العمود الفقري، خاصة في المراحل الأساسية. ينبغي تمكين الطلاب من بناء مهاراتهم ذاتيا قبل تقديم الأدوات المساعدة، لتكون التقنية معززة للتعلم لا بديلة عنه.

إعلان

وأيضا أوصت الدراسة أن تكون أدوات الذكاء الصناعي تحفز التفكير لا تستبدله، وقالت الدراسة إنه على المطورين تصميم أدوات ذكاء اصطناعي تطرح أسئلة إرشادية وتلميحات، بدلا من تقديم حلول جاهزة، للحفاظ على تفاعل المستخدم الذهني.

وطلبت الدراسة الحفاظ على التنوع الثقافي، وحثت المؤسسات الثقافية والإعلامية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي أن تضع آليات مراجعة بشرية لضمان عدم إنتاج محتوى نمطي وموحد، وللحفاظ على ثراء وتعددية الأصوات.

ودعت كذلك إلى توعية المستخدمين، فهناك حاجة ملحة لرفع وعي المستخدمين بمخاطر الاعتماد الكلي، وتشجيعهم على التحقق من المعلومات وإعادة صياغة المخرجات بلغتهم الخاصة لضمان حدوث تعلم حقيقي.

وأكدت الدراسة الرائدة أننا أمام عصر يتطلب موازنة ذكية بين الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي الهائلة وحماية وتنمية ملكات العقل البشري التي لا غنى عنها، فالرسالة واضحة يمكننا تسخير التقنية لتعظيم إمكاناتنا، ولكن فقط إذا حرصنا على ألا نفقد في خضم ذلك ما يجعلنا مبدعين ومفكرين مستقلين.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فكر مجموعة الذکاء الاصطناعی شات جی بی تی الدماغ فقط

إقرأ أيضاً:

الذكاء الاصطناعي “يفكّر” كالبشر دون تدريب!

#سواليف

كشف فريق علمي في #الصين أن نماذج #الذكاء_الاصطناعي، مثل ChatGPT، تعالج المفاهيم بطريقة تشبه تفكير الإنسان، حتى من دون تدريب مسبق على ذلك.

وتوصل علماء الأكاديمية الصينية للعلوم وجامعة جنوب الصين للتكنولوجيا إلى أن نماذج اللغة الكبيرة متعددة الوسائط (LLMs)، مثل ChatGPT-3.5 من OpenAI وGemini Pro Vision من غوغل، تظهر تمثيلات مفاهيمية تقارب إلى حد كبير آلية فهم البشر للأشياء والعلاقات بينها.

وأجرى العلماء تجربة تعرف باختبار (Odd-One-Out)، حيث طُلب من النماذج تصنيف كائنات أو مفاهيم بحسب مدى ترابطها ضمن مجموعات، واستخلاص العنصر الأقل صلة.

مقالات ذات صلة تعديل جديد على واتساب سيسمح بالإعلانات لمليارات المستخدمين 2025/06/18

وأنشأت هذه النماذج تلقائيا 66 بُعدا مفاهيميا لتصنيف الأشياء. وقد وصف الفريق هذه الأبعاد بأنها “قابلة للتفسير”، ما يعكس قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة الأنماط الإدراكية البشرية.

وبحسب ما نُشر في مجلة Nature Machine Intelligence، فإن تمثيلات هذه النماذج “ليست مطابقة تماما للتمثيلات البشرية، لكنها تظهر تشابها أساسيا يعكس جوانب جوهرية من الإدراك المفاهيمي لدى الإنسان”.

ويمكن لهذه النتائج أن تمهّد الطريق لتطوير أنظمة #ذكاء_اصطناعي تتفاعل بشكل أكثر مرونة وتفهّما مع البشر، وتشترك معهم في آليات التفكير والتنظيم المفاهيمي.

وفي سياق مواز، تعمل شركات ناشئة على دفع حدود الدمج بين البيولوجيا والذكاء الاصطناعي. فقد طورت شركة Cortical Labs الأسترالية أول حاسوب بيولوجي تجاري في العالم يحتوي على خلايا دماغية بشرية حية.

ويحمل الجهاز اسم “DishBrain”، وهو نظام هجين يدمج خلايا عصبية من البشر والفئران مع شريحة إلكترونية، لتكوين ما يشبه دماغا مصغرا قادرا على التعلم. وقد أظهرت إحدى التجارب أن نحو 800 ألف خلية عصبية حيّة داخل الجهاز استطاعت تعلم لعب لعبة الفيديو “Pong” من تلقاء نفسها.

وأشارت دراسة نشرت في مجلة Cell إلى أن هذه الخلايا تظهر “وعيا أوليا” عند تفاعلها مع بيئة افتراضية.

مقالات مشابهة

  • عواقب صحية خطيرة لإدمان المواد الإباحية
  • ميتا تستقطب علماء الذكاء الاصطناعي من المنافسين
  • تحذير طبي: عزيزي المجتهد.. الإفراط بالعمل يسبب تغيرات خطيرة في الدماغ
  • الذكاء الاصطناعي ولصوصية الإبداع
  • الذكاء الاصطناعي “يفكّر” كالبشر دون تدريب!
  • الأراجيف في زمن الذكاء الاصطناعي
  • تقنيات الذكاء الاصطناعي.. تحد حتمي
  • صحة كوردستان تكشف حقيقة وفاة شخص بسبب الذكاء الاصطناعي
  • تمكين الكفاءات السعودية في عصر الذكاء الاصطناعي