البناء الاقتصادي في سلطنة عُمان.. بين الطموح والتحديات
تاريخ النشر: 22nd, June 2025 GMT
في ظل التحديات الاقتصادية المتزايدة التي تواجه قطاع الإنشاءات، يبرز "البناء الاقتصادي" كأحد الحلول الفعّالة لتحقيق التوازن بين الجودة والتكلفة. وبينما تسعى سلطنة عُمان إلى تعزيز كفاءة المشروعات العمرانية وتطوير بيئة البناء، تثار تساؤلات حول مدى تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع، والمعوقات التي تحول دون استدامته؟
في هذا الاستطلاع نستعرض آراء عدد من المختصين والمهندسين حول واقع البناء الاقتصادي في سلطنة عُمان، ونرصد أبرز الإيجابيات والتحديات والدور الذي يمكن أن تلعبه العمارة التقليدية العُمانية في تقديم حلول مستدامة واقتصادية في آن واحد.
واقع البناء الاقتصادي
يوضح الدكتور ياسر الجابري مهندس مدني أن مفهوم "البناء الاقتصادي" في عالم المقاولات يعنى بتقليل التكلفة الإجمالية للمشروع دون المساس بجودة أو سلامة أو كفاءة الأداء، وذلك عبر تصميم ذكي واختيار مواد فعّالة وتطبيق تقنيات تنفيذ تسهم في تقليص الزمن والتكاليف.
وفي تقييمه لواقع البناء الاقتصادي في سلطنة عُمان، أوضح الجابري أن هناك تطورًا ملموسًا في هذا المجال، إلا أن التحديات المرتبطة بالتكاليف والكفاءة لا تزال قائمة، وأشار إلى أن هذا الواقع يمكن تحليله من خلال رصد عدد من الإيجابيات التي تعزز بيئة البناء، وفي المقابل بعض المعوقات التي تتطلب حلولا مبتكرة.
كما أوضح أن أبرز الإيجابيات في واقع البناء الاقتصادي بسلطنة عُمان هي توفر المواد الأساسية محليا، كوجود مصانع وطنية لإنتاج الإسمنت والطابوق والحديد مثل "حديد مسقط" و"حديد صلالة" و"جندال" أسهم في تقليل الاعتماد على الاستيراد وخفض تكاليف النقل، كذلك وجود كفاءات وخبرات محلية، حيث يوجد في السوق العُماني عدد كبير من المهندسين العُمانيين والمقيمين ذوي خبرة عالية في التصميم والتنفيذ، وهو ما يعزز جودة الإنشاءات ويزيد الاعتماد على الكفاءات المحلية.
كما أن تبنّي الأنظمة الحديثة في البناء يسهم في التحول تدريجيا نحو استخدام أنظمة مثل الهياكل المعدنية الجاهزة (Precast & Steel Structures)، والتي تساهم في تقليل مدة التنفيذ وخفض التكلفة الإجمالية، لا سيما في المشروعات الكبرى.
بالإضافة إلى وجود رقابة حكومية على الأسعار، حيث تمارس الجهات المعنية رقابة نسبية على الأسعار للحد من أي تلاعب من قبل الموردين أو المقاولين، خصوصا في مشروعات القطاع العام، ما يعزز من شفافية السوق ويحمي الميزانيات العامة.
كما أشار الجابري إلى أن تعزيز مفهوم "البناء الاقتصادي" يتطلب دعما مستمرا للتقنيات الحديثة وتطوير منظومة التدريب، وتحقيق توازن بين الجودة والتكلفة ضمن الأطر التنظيمية المعتمدة.
وأضاف الجابري أنه على الرغم من التطورات الإيجابية التي يشهدها قطاع البناء في سلطنة عُمان، إلا أن الواقع يكشف عن مجموعة من التحديات التي تؤثر بشكل مباشر على كفاءة البناء الاقتصادي واستدامته.
حيث إن أحد أبرز هذه التحديات يتمثل في ارتفاع تكلفة الأيدي العاملة، نتيجة للتشريعات المتعلقة بالحد الأدنى للأجور ومتطلبات التأمينات الاجتماعية، وهو ما أدى إلى زيادة الكلفة التشغيلية، لا سيما في قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، كما يواجه القطاع ضعفا في كفاءة بعض المقاولين، حيث يسهم غياب الخبرة الفنية لدى بعضهم في ارتفاع معدلات الهدر وتأخير الإنجاز، الأمر الذي ينعكس على التكلفة النهائية للمشروعات.
كما أضاف: إن الاعتماد على الأساليب التقليدية في البناء لا يزال شائعا، مثل الصبّ اليدوي واستخدام البلوك الإسمنتي، وهو ما يحد من الاستفادة الكاملة من تقنيات البناء الحديثة التي تُعد أكثر توفيرا من حيث الوقت والتكلفة. كما يلاحظ ضعف في ثقافة "القيمة مقابل التكلفة" لدى بعض الملاك، حيث يتم التركيز على تقليل التكاليف في المراحل الأولى من المشروع دون النظر إلى التكاليف المستقبلية التي قد تنجم عن استخدام مواد منخفضة الجودة تتطلب صيانة متكررة.
مشيرا إلى أنه لا يمكن إغفال محدودية التنافس الحقيقي في بعض الولايات، حيث يؤدي نقص المقاولين والموردين في هذه المناطق إلى ضعف في الخيارات المتاحة واحتكار نسبي في السوق، مما ينعكس سلبا على الأسعار وجودة الخدمات المقدمة.
كما أكد الجابري أن المهندسين في قطاع المشروعات العمرانية اليوم يواجهون مجموعة من التحديات الاقتصادية المتزايدة، تؤثر بشكل مباشر على قدرة التنفيذ ضمن الإطار الزمني والمالي المحدد، ومن أبرز هذه التحديات ارتفاع أسعار المواد الأساسية مثل الحديد والأسمنت والخرسانة ومواد التشطيب، حيث تتأثر هذه الأسعار بعوامل خارجية مثل تقلبات السوق العالمية وسعر صرف العملات، ما يضيف عبئا إضافيا على ميزانيات المشروعات.
كما تشكل أزمة السيولة وتأخر صرف مستحقات المقاولين والاستشاريين إحدى أبرز العراقيل التي تؤثر على استمرارية العمل، وتضاعف من احتمالات تعثر أو توقف بعض المشروعات، حيث إن تكلفة الأيدي العاملة سواء نتيجة لزيادتها أو لندرتها أصبحت من العوامل المقلقة، خاصة في ظل السياسات الجديدة التي تقنن استقدام الأيدي العاملة الوافدة، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع التكاليف التشغيلية.
وأوضح الجابري أن المهندسين يجدون أنفسهم في كثير من الأحيان تحت ضغط كبير من قبل الملاك لتقليص التكاليف إلى أدنى مستوى ممكن، في وقت يتطلب فيه الحفاظ على جودة وسلامة التنفيذ، ما يضعهم أمام معادلة صعبة بين الالتزام بالميزانية وضمان المعايير الفنية.
كما أن التضخم وتغير الأسعار أثناء مراحل التنفيذ، خاصة في العقود طويلة الأمد يشكلان تحديا حقيقيا، إذا لم تتضمن العقود بنودا للمراجعة السعرية، ما يعرض بعض الشركات لخسائر غير متوقعة. كما لا يغيب عن المشهد ضعف التخطيط المالي أو سوء إدارة الميزانية في بعض المشروعات، حيث تُهمل أحيانا الدقة في توزيع الميزانيات على البنود المختلفة، ما يؤدي إلى استنزاف الموارد قبل اكتمال الأعمال.
وأضاف الجابري: "في ظل تقلبات السوق العقاري وتذبذب الطلب على المشروعات السكنية أو التجارية، تبرز الحاجة إلى دراسات جدوى دقيقة لتفادي الاستثمار في مشروعات قد تفتقر إلى الاستدامة، حيث إن أية تغييرات مفاجئة في الضرائب أو الرسوم الحكومية، مثل تطبيق ضريبة القيمة المضافة أو تعديل المتطلبات الرسمية، يمكن أن ترفع الكلفة الإجمالية وتربك حسابات التنفيذ".
العمارة التقليدية
من جانبه أكد المهندس المعماري عيسى بن صالح البهلاني مدير الموارد البشرية والإدارة والقيمة المحلية المضافة في شركة الصاروج للإنشاءات أن العمارة العُمانية التقليدية كانت فعّالة بشكل لافت في مقاومة الحرارة، بفضل اعتمادها على مواد طبيعية مثل الطين والحجر والجص، التي تتميز بقدرتها العالية على العزل الحراري، كما أن تصميماتها كانت تراعي التهوية الطبيعية وتوجيه المباني بشكل يقلل من التعرض المباشر لأشعة الشمس.
وقال البهلاني إن تصاميم البيوت القديمة كانت أكثر كفاءة في هذا المجال مقارنة بالمباني الحديثة، حيث كانت تعتمد على الإضاءة والتهوية الطبيعية، مما يقلل الحاجة إلى أجهزة التكييف والإضاءة الاصطناعية، وبالتالي يؤدي إلى خفض استهلاك الطاقة بشكل ملحوظ.
وأضاف البهلاني إن دمج بعض عناصر العمارة القديمة في المباني الحديثة، مثل الأفنية الداخلية والنوافذ المرتفعة، يمكن أن يساعد في تحسين التهوية وتقليل الحاجة إلى التكييف، مما يساهم في تقليل التكاليف التشغيلية.
كما أوضح البهلاني أن استخدام مواد البناء التقليدية مثل الحجر والجص في العصر الحالي لا تزال تتمتع بقيمة اقتصادية كبيرة، خاصة في المناطق الحارة، فهي تتمتع بعمر افتراضي أطول وتتطلب صيانة أقل، مما يقلل من التكاليف على المدى الطويل.
ويؤمن البهلاني بأن التوجه نحو البناء المستدام المستوحى من التراث العُماني يمكن أن يكون مجديا اقتصاديا على المدى الطويل، حيث يقلل من استهلاك الطاقة ويحسن جودة الحياة داخل المباني، كما يعزز الهُوية الوطنية ويزيد من جاذبية المشروعات السكنية والتجارية والسياحية.
أما عن التحديات التي قد تواجه تطبيق عناصر العمارة التقليدية في مشروعات البناء الحديثة، فيشير البهلاني إلى أن أبرز هذه التحديات تكمن في ارتفاع كلفة بعض المواد التقليدية، وقلة الكوادر المتخصصة في هذا النوع من البناء وكذلك غياب بعض التشريعات التي تشجع على الدمج بين التراث والتقنيات الحديثة.
كما يرى البهلاني أن هناك جهودا مبذولة من بعض الجهات الحكومية والمستثمرين لدعم هذا التوجه، خاصة في مشروعات السياحة والتراث، ولكن هناك حاجة إلى مزيد من الدعم من خلال السياسات والحوافز التي تشجع على الابتكار وتعزز الدمج بين التراث والتقنيات الحديثة في مشروعات البناء.
وأوصى بتبني تصاميم معمارية مستوحاة من التراث العُماني في المشروعات القادمة، مؤكدا أن هذا النوع من التصميم لا يقتصر فقط على تقديم حلول بيئية واقتصادية، بل يساهم في ترسيخ الهُوية العمانية وإعطاء المشروعات طابعا فريدا ومميزا.
فوائد البناء التراثي
من جانب آخر، يعتبر المهندس المعماري عثمان بن خلفان الحبسي أن العمارة العُمانية القديمة كانت تملك القدرة الفائقة على مقاومة الحرارة، رغم التحديات البيئية القاسية التي كانت سائدة في تلك الفترة، إذ تمتاز المباني العُمانية بجدران سميكة تصل سماكتها إلى 50 سم ونوافذ صغيرة وأفنية مركزية، وهي جميعها عناصر صممت خصيصا لتقليل درجات الحرارة وزيادة تدفق الهواء داخل المباني، مما يعزز الراحة ويقلل من الحاجة لاستخدام الطاقة.
وفيما يتعلق بتصاميم البيوت القديمة، يرى الحبسي أن هذه المباني كانت تساهم بشكل كبير في تقليل استهلاك الطاقة، فالبيوت الطينية كانت تمنع امتصاص الحرارة، مما يساعد في الحفاظ على درجات حرارة معتدلة بداخلها دون الحاجة لاستهلاك الطاقة الكهربائية.
وأكد الحبسي أن البناء التقليدي المتأثر بالتصاميم القديمة العُمانية يعد أعلى تكلفة مقارنة بالبناء الحديث، ويعود ذلك إلى التفاصيل المعمارية الدقيقة مثل الأقواس والزخارف، إضافة إلى الحاجة للعمل اليدوي المتقن في تنفيذ هذه التصاميم.
ويعتقد الحبسي أن دمج بعض العناصر التقليدية في المباني الحديثة يمكن أن يساهم بشكل كبير في تقليل التكاليف التشغيلية مثل الكهرباء والتكييف، فعلى سبيل المثال استخدام الحجر كطبقة خارجية أو الطين والجص كعازل خارجي يساعد في تقليل انتقال الحرارة من الخارج إلى الداخل، مما يساهم في تقليل استهلاك الطاقة.
وأشار الحبسي إلى أن استخدام المواد التقليدية مثل الحجر والجص يعد خيارا صديقا للبيئة، ويقدم العديد من الفوائد الاقتصادية على المدى الطويل، فالجص الجيري يسمح بمرور الرطوبة عبر الجدران، مما يحافظ على صحة المبنى ويمنع نمو العفن، كما أن هذه المواد تدوم طويلا وتساعد في تقليل تكاليف الترميم والصيانة.
أما فيما يخص البناء المستدام المستوحى من التراث العُماني، فيعتقد الحبسي أنه سيكون مجديا اقتصاديا على المدى الطويل خاصة مع توفر المواد المحلية بأسعار أقل مقارنة بالمواد الحديثة المستوردة، ومع ذلك يواجه هذا التوجه بعض التحديات الاقتصادية منها تكاليف العمل اليدوي المرتبطة بالتفاصيل الدقيقة للمباني التقليدية، وكذلك صعوبة توفر بعض المواد المحلية.
ويؤكد الحبسي أن الجهات الحكومية والمستثمرين قد بدأوا في دعم هذا التوجه نحو العمارة المستدامة المستوحاة من التراث العُماني، ولكن هناك حاجة أكبر لتعزيز الوعي حول الفوائد الاقتصادية والبيئية لهذا التوجه.
وأكد الحبسي أنه يعتزم الاستمرار في استخدام التصاميم المعمارية المستوحاة من التراث العُماني، نظرا لما تحمله من جمال فني وابتكار ثقافي خاصة في العناصر المعمارية مثل المداخل والأقواس والمشربيات التي تضفي على المباني طابعا مميزا يعكس الهُوية العُمانية.
كما اقترح الحبسي عددا من المبادرات لتعزيز الوعي حول أهمية العمارة العُمانية في تقليل الأعباء الاقتصادية الناتجة عن الحرارة مثل إنشاء مساحات خضراء داخل المدن لتقليل تأثير الاحتباس الحراري، وتشجيع استخدام الطاقة الشمسية لتقليل استهلاك الطاقة، وأيضا تعزيز استخدام المواد التقليدية مثل الحجر والجص في البناء لتحقيق استدامة اقتصادية وبيئية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: البناء الاقتصادی على المدى الطویل استهلاک الطاقة فی مشروعات هذا التوجه الحبسی أن الع مانیة فی تقلیل یمکن أن ما یعزز یقلل من خاصة فی کما أن إلى أن فی هذا
إقرأ أيضاً:
كيف استمدت الخلايا القديمة طاقتها بعصر ما قبل البناء الضوئي؟
نجح فريق من الباحثين في جامعة لودفيغ ماكسيميليان الألمانية في إعادة محاكاة بيئة الأرض العتيقة داخل المختبر، مما أتاح لهم إعادة تمثيل أحد أقدم المسارات الأيضية التي يُعتقد أنها أسهمت في تكيف الحياة على كوكب الأرض قبل نحو 4 مليارات سنة. وقد نشر الفريق نتائج دراسته في دورية "نيتشر إيكولوجي أند إيفوليوشن".
ويعتقد أن أول صور الحياة انتشارا على سطح الأرض كانت في أعماق المحيطات، وسط بيئة ساخنة وغنية بالمعادن، وتقول مي مبروك، أستاذة برنامج المعلوماتية الحيوية بجامعة النيل المصرية وهي غير المشاركة في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت إن هذه الدراسة تقدم دليلًا عمليا على أن صور الحياة الأولى على الأرض ربما لم تحتج للضوء أو الأكسجين.
لإعادة تمثيل هذه البيئة، اعتمد الباحثون على ما تعرف بـ"الحدائق الكيميائية"، وهي تراكيب معدنية تتشكل عند تفاعل محاليل كيميائية مختلفة، وقد استخدم الفريق مزيجًا من كلوريد الحديد وكبريتيد الصوديوم لتشكيل معدنين يعتقد أنهما كانا شائعين في محيطات الأرض القديمة، وهما الماكيناويت والغرايغيت.
تقول مي "ركزت التجربة على محاكاة بيئة المحيطات العميقة في الأرض القديمة، التي كانت غنية بالحديد، وخالية من الأكسجين، ودرجة حرارتها مرتفعة بفعل النشاط البركاني والينابيع الحارة".
وفي بيئة خالية من الأكسجين وبدرجة حرارة تقارب 80 درجة مئوية، بدأت هذه المعادن في إنتاج غاز الهيدروجين بشكل طبيعي. هذا الغاز، الذي لم يكن مسؤولًا عن إنتاجه أي كائن حي، قد شكّل مصدر طاقة حيوية لبكتيريا بدائية تُعرف باسم "ميثانوكالدوكوكس جاناشي" أو بكتيريا الميثان الأحمر المغلي.
رغم أن التجربة لم تتضمن أي مغذيات إضافية أو فيتامينات أو معادن أثرية، فإن البكتيريا المستخدمة، التي تعيش عادة في ظروف قاسية، لم تكتف بالبقاء فقط، بل نمت وتكاثرت. تعلق مي مبروك "هذا يعني أن الهيدروجين الناتج عن المعادن كان كافيًا لتزويدها بالطاقة اللازمة".
إعلانلكن، لم تكن الأمور سهلة، فمع تسخين السوائل تشكلت فقاعات غازية تسببت في انهيار التراكيب المعدنية. تضيف مي "نمو البكتيريا كان أبطأ بنسبة 30% مقارنة بالنمو في بيئة مخبرية مثالية تحتوي على كل المغذيات. ومع ذلك، يعتبر مجرد نمو البكتيريا في بيئة تفتقر للعناصر الحيوية أمرا مذهلًا، ويُظهر أن الحياة قد تنشأ في ظروف صعبة وبموارد محدودة".
تكمن الأحجية الأساسية في هذه التجربة في المسار الأيضي الذي استخدمته تلك البكتيريا لتوليد الطاقة اللازمة لنموها. فكما تسير السيارات بالبنزين، تعتمد غالبية الكائنات الحية التي تعيش على ظهر الأرض في الوقت الحالي على الأكسجين والضوء. لكن في غياب كليهما في بيئة الأرض العتيقة، يتعقّد اللغز ويظهر السؤال: كيف تمكنت البكتيريا من مد نفسها بالطاقة بالهيدروجين؟
في ظل تلك الظروف القاسية في التجربة، فعّلت البكتيريا مجموعة من الجينات بداخلها مرتبطة بمسار كيميائي حيوي هو أحد أقدم المسارات المعروفة لإنتاج الطاقة في الخلية.
وتقول مي مبروك "التعبير الجيني أعطى أدلة قوية على تنشيط المسار البدائي. الجينات المرتبطة بمسار "أسيتيل كو إنزيم أ" كانت أكثر نشاطًا في البيئة المحاكية مقارنة بالبيئات الأخرى حتى تلك المثالية للنمو، مما يشير إلى أن المعادن ساعدت في تحفيز هذا المسار الحيوي".
يُنتج هذا المسار الطاقة بطريقة طاردة للحرارة، أي أنه يولد الطاقة دون الحاجة إلى مدخلات خارجية، وهي ما يصفها العلماء بـ"وجبة مجانية مدفوعة الثمن مسبقًا". المعادن نفسها، الماكيناويت والغرايغيت، تُشبه من الناحية التركيبية مراكز التفاعل في بعض الإنزيمات الحديثة، مما قد يشير إلى أن الإنزيمات الحالية قد نشأت من تراكيب معدنية طبيعية وجدت في بيئة الأرض العتيقة.
تضيف مي مبروك "هذا المسار قادر على تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى طاقة ومركبات عضوية".
ولا تقتصر أهمية هذه الدراسة على إعادة فهم أقدم صور الحياة على الأرض فحسب، بل تمتد إلى الفضاء. تقول مي "تشير الدراسة إلى أن البيئات الغنية بمعادن الكبريتيد الحديدي والمياه، مثل تلك التي يُعتقد بوجودها على قمر إنسيلادوس، قد تكون مؤهلة لدعم الحياة حتى في غياب الضوء".
إذ يُعد القمر "إنسيلادوس"، التابع لكوكب زحل، من أبرز الأماكن التي قد تحتوي على بيئات مشابهة، حيث يُعتقد أن تحت سطحه الجليدي محيطًا مالحًا نشطًا حراريا. ويخطط الفريق البحثي لمحاكاة ظروف هذا القمر في المختبر للكشف عن قدرة الكائنات البدائية على البقاء فيه، في خطوة جديدة نحو استكشاف الحياة خارج كوكبنا.