في مشهد بدا كأنه عرض عسكري في السماء الإيرانية، نفذت الولايات المتحدة غارة جوية دقيقة وموسعة فجر الأحد، استهدفت مواقع رئيسية في البرنامج النووي الإيراني، وتحديدًا في فوردو وأصفهان ونطنز، بعد تسعة أيام من القصف الإسرائيلي المتواصل. العملية فاقت توقعات حتى بعض المسؤولين الإسرائيليين، وأظهرت أن الجيش الأمريكي، رغم فوضوية عهد ترامب، ما زال يمتلك القوة والدقة والقدرة التي لا تُضاهى.
ورغم أن ترامب تحدث بعد الغارة عن رغبته في تسوية سلمية عبر القنوات الدبلوماسية، إلا أن خطوته دفعت الولايات المتحدة إلى حافة هاوية خطيرة. ثلاثة رؤساء أمريكيين سابقين درسوا إمكانية ضرب المواقع النووية الإيرانية، لكنهم جميعًا امتنعوا عن التنفيذ، لعلمهم أن أي تدخل عسكري في الشرق الأوسط لم يؤتِ ثماره منذ ثمانينيات القرن الماضي.
في خطابه المتلفز بعد ساعتين من الغارة، طالب ترامب فعليًا باستسلام إيران، قائلاً: «إيران، متنمّر الشرق الأوسط، عليها الآن أن تصنع السلام. وإن لم تفعل، فالهجمات القادمة ستكون أعنف وأسهل بكثير». مثل هذا الخطاب المتغطرس لم يكن يومًا مجديًا مع القيادة الإيرانية. لكن نائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس، اختار نبرة أكثر هدوءًا في ظهوره صباح الأحد على قناة (آي. بي. سي) قائلاً: «لسنا في حرب مع إيران، بل مع برنامجها النووي».
وأوضح: «الرئيس يريد الآن الدخول في عملية دبلوماسية- ما نريده هو أن تأتي إيران إلى طاولة التفاوض، وأن تتخلى عن برنامجها النووي على المدى الطويل. وإذا أقدمت على ذلك، ستجد شريكًا راغبًا في الولايات المتحدة الأمريكية».
منذ فبراير، مارس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضغوطًا على ترامب للانضمام إلى حملة عسكرية ضد المواقع النووية الإيرانية. لكن ترامب فضل لعدة أشهر محاولة التوصل إلى اتفاق يضمن إيقاف البرنامج دون استخدام القوة. وأشار فانس إلى أن البيت الأبيض كان متفائلًا بإمكانية التوصل إلى اتفاق في مارس، عندما بدت إيران وكأنها تقدم تنازلات.
لكن مع مرور الوقت، اقتنع ترامب، بحسب فانس، أن «الإيرانيين يماطلون». وحتى الأسبوع الماضي، كان ترامب يبدو مترددًا، معلنًا أنه سيمنح نفسه أسبوعين لاتخاذ القرار. ربما كانت هذه مهلة مخادعة. فقد أكد فانس أن قرار القصف لم يُتخذ إلا قبل التنفيذ بلحظات.
طرح ترامب على إيران عرضًا ضمنيًا مفاده إذا تخلّت إيران عن برنامجها النووي بموجب تعهّد يمكن التحقق منه، فإن التجارة والاستثمار من الولايات المتحدة ودول الخليج ستزدهر بسرعة. وربما، في سيناريو متفائل، تنتهي الثورة الإسلامية التي بدأت عام 1979 إلى مصالحة مع أمريكا والغرب، بما في ذلك إسرائيل.
لكن الواقعية تفرض نفسها، فأغلب الظن أن إيران مقبلة على مرحلة من الفوضى الداخلية، تحاول خلالها القيادة الدينية، مدعومة بالحرس الثوري، إعادة فرض السيطرة على بلد أُهين بفعل الهجمات الإسرائيلية والأمريكية، وفقد قادته العسكريين الأبرز. قد يغضب الشعب الإيراني من ضعف قيادته، لكن النظام ما زال يمتلك شبكات بنتها على مدار عقود.
ما ينتظر المنطقة ليس حربًا لا تنتهي، بل حلقة جديدة من الفوضى التي لا تهدأ. وفي الشارع الإسلامي، الذي يتألم أصلًا من المأساة الفلسطينية في غزة، سيكون لهذه الضربة الأمريكية سبب إضافي للامتعاض، حتى وإن شعر بعض قادة المنطقة سرًّا بالارتياح لتراجع الخطر النووي الإيراني.
ويبقى عنصر الغموض الأكبر: هل ستتجه إسرائيل نحو اغتيال المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي؟ أم ستتخذ خطوات لتسريع تغيير النظام؟ أي مشروع إسرائيلي لتغيير النظام لن يجلب بالضرورة حكومة معتدلة في طهران، بل ربما مزيدًا من الفوضى.
وفي المقابل، ستضطر إسرائيل إلى مراقبة الوضع باهتمام بالغ، خوفًا من أن تعيد إيران بناء برنامجها النووي بسرعة، أو الأسوأ من ذلك، أن تسعى لصنع «قنبلة قذرة» باستخدام يورانيوم مخصب قرب المستوى المستخدم في الأسلحة النووية. إيران لديها خيارات أخرى غير تقليدية، فبعد ظهر الأحد، أعلن البرلمان الإيراني نيته إغلاق مضيق هرمز. قد يكون ذلك تهديدًا فارغًا، لكنه كافٍ لرفع أسعار النفط. وإذا أقدمت إيران على تنفيذ تهديدها، فكيف سترد الولايات المتحدة وحلفاؤها؟
هذا النوع من العواقب غير المتوقعة هو ما جعل رؤساء سابقين يترددون في استخدام القنابل الخارقة للتحصينات.
سيعترض الديمقراطيون على تجاهل ترامب للكونجرس وعدم طلب تفويضه قبل الهجوم. لكن السؤال الأخطر هو: لماذا اختار ترامب أن يثق بالمعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية بدلًا من المعلومات الأمريكية؟ فعندما سأله صحفي يوم الجمعة: «ما هي الأدلة على أن إيران تبني سلاحًا نوويًا؟ أجهزة استخباراتك تقول إنه لا توجد أدلة»، أجاب ترامب: «حسنًا، إذًا أجهزتي الاستخباراتية مخطئة». وعلى أي أساس قال ذلك؟
أحد كبار أعضاء الكونغرس قال لي الأحد إن لجان الاستخبارات في مجلسي النواب والشيوخ ستفتح تحقيقًا في هذا الأمر. وأضاف: «إذا كانت أجهزتنا مخطئة، فعلينا أن نعرف السبب. وإذا كان الرئيس قد اختار الوثوق بمعلومات استخباراتية أجنبية بدلًا من معلومات بلده، فعلينا أن نفهم لماذا».
على ترامب أن يخفف من لهجة النصر، لأن المشهد الراهن لا يزال غير واضح. تصريحاته تذكّرنا بعبارة الرئيس جورج بوش الابن عام 2003: «المهمة أنجزت»، التي ثبت لاحقًا أنها كانت سابقة لأوانها وخاطئة.
الخلاصة الواقعية هي أن ترامب كسب، بغض النظر عن النتائج القادمة، نفوذًا غير ملموس يأتي من استخدام القوة العسكرية. فمع تفاقم الأزمة الإيرانية خلال الأسبوع الماضي، لم تقم روسيا ولا الصين بدور حاسم، وكذلك أوروبا. وعلى عكسهم، اتخذ ترامب القرار. وسيسجّل هذا التحرك في حسابات بكين وموسكو، وأيضًا في عواصم الحلفاء مثل طوكيو وتايبيه وأبو ظبي، التي تتابع باهتمام قدرة أمريكا على الاستمرار في لعب دورها العالمي.
ديفيد إغناتيوس كاتب مقال في الشؤون الخارجية في صحيفة واشنطن بوست. وأحدث رواياته بعنوان المدار الشبحي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة برنامجها النووی
إقرأ أيضاً:
العودة المفاجئة لصانع النووي الإيراني.. لاريجاني يطل من بوابة الأمن القومي وسط تصاعد المواجهة مع الغرب
في خطوة أثارت اهتمام المراقبين، أصدر الرئيس الإيراني مرسوماً بتعيين السياسي المخضرم علي لاريجاني أميناً عاماً للمجلس الأعلى للأمن القومي، ما يعيد أحد أبرز رجال الدولة في طهران إلى واجهة القرار الأمني، في وقت تشتعل فيه ملفات المنطقة، وعلى رأسها التوترات في غزة وتصاعد المواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة.
ويُعيد هذا التعيين لاريجاني إلى المنصب الذي شغله بين عامي 2005 و2007، حيث لعب حينها دوراً رئيسياً في إدارة ملف المفاوضات النووية مع القوى الكبرى، قبل أن يغادر بسبب صراعات داخلية على الرؤية الاستراتيجية.
ورغم محاولاته المتكررة لدخول السباق الرئاسي، كان آخرها بعد وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي في 2024، واجه لاريجاني الإقصاء السياسي من قبل مجلس صيانة الدستور، في إشارة لضعف نفوذ التيار المحافظ المعتدل الذي ينتمي إليه، أمام تصاعد التيار المتشدد.
ويمتلك لاريجاني سجلاً طويلاً في مفاصل الحكم، حيث تقلّد مناصب بارزة شملت رئاسة البرلمان، ووزارة الثقافة، ورئاسة هيئة الإذاعة والتلفزيون، فضلاً عن تمثيله المباشر للمرشد الأعلى في محطات مفصلية.
وينتمي إلى عائلة ذات ثقل ديني وسياسي، أبرزها شقيقه صادق لاريجاني، الرئيس السابق للسلطة القضائية.
ويُعتبر المجلس الأعلى للأمن القومي من أقوى مراكز القرار في إيران، خاصة فيما يتعلق بالأمن الإقليمي والسياسة النووية، وتخضع قراراته لموافقة المرشد الأعلى قبل دخولها حيز التنفيذ.
وتأتي عودة لاريجاني في توقيت دقيق، ما يفتح الباب لتأويلات حول تحوّلات داخل بنية النظام الإيراني، وسعيه لإعادة التوازن باستخدام شخصيات ذات خبرة وشبكة علاقات قوية لمواجهة التحديات المتفاقمة في الداخل والخارج.