الجزيرة:
2025-06-27@03:47:21 GMT

عصر الضبابية.. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط

تاريخ النشر: 27th, June 2025 GMT

عصر الضبابية.. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط

ماذا يحدث حين يبلغ الإنسان ذروة فهمه للطبيعة، ثم يكتشف أن هذا الفهم نفسه يحمل في أعماقه بذور الكارثة؟ كيف يتحول العقل إلى سلاح ذي حدين: طريق إلى النجاة، وفي الوقت ذاته درب إلى الهلاك؟ وكيف يغدو العلماء -الذين لطالما اعتُبروا مشاعل للنور- شهودا على كوارث صنعوها بأيديهم؟ وهل تكون أكثر لحظات البشرية نورا هي نفسها أشدها عتمة؟

وفي كتابه "عصر الضبابية: سنوات الفيزياء الساطعة والمظلمة 1895-1945" يأخذنا توبياس هورتر في رحلة فريدة تمتد بين مختبرات الفيزياء وأعماق النفس البشرية، بين بريق الاكتشافات النووية والانفجارات الأخلاقية التي رافقتها.

ويرسم الكاتب مشهدا لحقبة استثنائية لا تتكرر، ما تزال تلقي بظلالها الثقيلة على حاضرنا حتى اليوم.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل الاقتصاد ساحة صراع فكري وأيديولوجي؟ كتاب يكشف خفايا نظريات الاقتصادlist 2 of 2كيف تُغيّرنا الكلمات؟ علم اللغة البيئي ورحلة البحث عن لغة تنقذ الكوكبend of list

وبداية، ليس من السهل -بلا شك- كتابة تاريخ علمي من دون الوقوع في فخ الجفاف الأكاديمي، لكن هورتر ينجح هنا في كتابه بالإمساك بخيط رفيع، ينسج به سردا متماسكا، يمزج به بين الحديث عن البراعة الفيزيائية والعواصف السياسية.

وقد صدر الكتاب في نسخته الأصلية بالألمانية عام 2021، وصدرت ترجمته العربية عن دار عصير الكتب عام 2024، بتوقيع المترجم محمد رمضان حسين.

لكن هذا العمل ليس مجرد حكاية نظريات ومعادلات، بل قصة رجال ونساء عاشوا في قلب الانفجار المعرفي والأخلاقي. فكانت سيرهم شهادة على 50 عاما من العبقرية المتقدة والضمائر القلقة.

أما مؤلف الكتاب فهو كاتب وصحفي ألماني وُلد عام 1972، ويحمل دكتوراه في الفلسفة، ويتميّز بأسلوب تحليلي عميق في تناول القضايا العلمية والفكرية. وقد كتب في مجلات وصحف مرموقة، ويشتهر بقدرته على الربط بين التحولات الكبرى في العلم والفلسفة وبين الأسئلة الإنسانية الوجودية.

ملامح الحقبة: من الأشعة السينية إلى القنبلة الذرية

ينطلق هورتر من 1895 العام الذي اكتُشفت فيه الأشعة السينية على يد رونتغن، وهو الاكتشاف الذي مثل شرارة الدخول في عصر جديد من الفيزياء. وتبع هذا الكشف عن النشاط الإشعاعي، ثم سلسلة من الثورات النظرية التي زعزعت يقين الفيزياء الكلاسيكية، ودفعت البشرية إلى أعتاب عصر الكم والنسبية.

إعلان

وخلال نصف قرن، تسارعت الاكتشافات بوتيرة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل حيث ظهر ماكس بلانك بنظريته حول الكم، وتبعه نيلس بور، وهايزنبرغ، وشرودنغر، وأخيرا أينشتاين الذي وضع نظرية النسبية الخاصة عام 1905 ثم العامة عام 1915. وهذه الأسماء لم تكتب تاريخ الفيزياء فحسب، بل أعادت تعريف حدود الواقع وإمكانات المعرفة.

العلم بين النبوغ والشك المنهجي

يبين هورتر في كتابه أن التصورات التقليدية للعلم، بوصفه نشاطا عقلانيا خالصا قائما على الحتمية واليقين، قد تعرضت لزعزعة عميقة مع نشوء ميكانيكا الكم أوائل القرن العشرين. إذ إن المفاهيم الفيزيائية الكلاسيكية -التي كانت تفترض أن الكون يعمل مثل آلة دقيقة يمكن التنبؤ بحركتها- استُبدلت بنظرة جديدة ترى الواقع بوصفه مجالا غير حتمي، تحكمه قوانين الاحتمال، ومبادئ الشك، والتراكب الكمومي، مما قاد إلى إعادة النظر في أسس المعرفة العلمية ذاتها.

وكان نيلس بور من أبرز المدافعين عن التفسير الاحتمالي للواقع الكمومي، بل إنه وضع أسس ما عُرف لاحقا بـ"تفسير كوبنهاغن". وبحسب هذا التصور، لا يمكن الحديث عن خواص الجسيمات أو مواقعها إلا لحظة رصدها، أما قبل ذلك فهي في حالة "تراكب" احتمالي، تجمع بين جميع الحالات الممكنة في آنٍ واحد. وقد كان لهذا التفسير أثر فلسفي عميق، إذ قبل بأن تكون الجسيمات دون الذرية في أكثر من حالة في آن واحد، إلى أن تُرصَد، وهو ما بدا لكثير من العلماء تجاوزا للمعقول الفيزيائي.

وقد عارض شرودنغر هذا التفسير بمثاله الشهير "قطة شرودنغر" وهي تجربة فكرية تهدف إلى إظهار الطابع المربك لتفسير كوبنهاغن. إذ تُظهر كيف أن القَبول بأن الجسيمات قد توجد في حالتين متراكبتين -كأن تكون القطة حية وميتة في آنٍ واحد- يؤدي إلى نتائج عبثية عند تطبيقها على الواقع العياني. وكان اعتراض شرودنغر تعبيرا عن رفضه لاختزال الواقع إلى مجرد احتمالات لا تكتسب صفة "الواقعية" إلا حين تدخّلِ الراصد.

في حين رفض أينشتاين الطابع الاحتمالي الذي جاءت به ميكانيكا الكم، متمسّكًا بفكرة أن الكون تحكمه قوانين دقيقة، حتى إن لم نستطع رصدها بعد. ولم يكن اعتراضه تعصبا للحتمية الكلاسيكية، بل الإيمان بأن ما يبدو فوضويا في الظاهر قد يخفي نظاما أعمق لم يُكتشف بعد. ولهذا قال عبارته الشهيرة "الله لا يلعب النرد" دلالةً على رفضه لفكرة أن أساس الكون يقوم على المصادفة واللايقين.

علماء فيزياء بارزون انخرطوا في مشاريع عسكرية كبرى خلال القرن العشرين من بينهم هايزنبرغ (أسوشيتد برس) الفيزياء والسياسة

في القسم الأشد إثارة من الكتاب، يرصد هورتر تداخل الفيزياء مع السياسة في زمن النازية والحرب العالمية الثانية. فمع صعود الأنظمة الشمولية، وجد العلماء أنفسهم أمام أسئلة وجودية: هل يبقى العالِم في معمله، أم يفر بضميره؟ هل يشارك في سباق التسلح أم يعارض؟ وهل يمكن أصلا الفصل بين "العلم النقي" و"الاستخدام السياسي"؟

فقد انخرط عدد من علماء الفيزياء البارزين في مشاريع عسكرية كبرى خلال القرن العشرين. من بينهم فيرنر هايزنبرغ -الذي قاد البرنامج النووي الألماني في ظل الحكم النازي- في دور لا يزال محط جدل بين المؤرخين حول مدى دعمه الفعلي لصناعة القنبلة، وكذلك روبرت أوبنهايمر الذي أشرف على مشروع مانهاتن الأميركي، فقد مثّل التناقض بأوضح صوره: عالِم بارع، ومثقف إنساني، انخرط في صنع القنبلة بكل طاقته، ثم قضى ما تبقى من عمره محاطا بالندم والتساؤلات.

إعلان

وعلى النقيض من الانخراط المباشر في المشاريع العسكرية، فقد اتخذ أينشتاين موقفا أخلاقيا من الحروب والتسلح، وقد غادر ألمانيا مبكرا بعد صعود النازية، وارتبط اسمه لاحقا بالدعوة إلى السلام ونزع السلاح النووي.

ومع ذلك، وفي لحظة فارقة من القلق العالمي، وقع عام 1939 رسالة موجهة إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت حذر فيها من احتمال أن تكون ألمانيا النازية بصدد تطوير قنبلة ذرية. ولم تكن الرسالة دعوة مباشرة إلى التسلح، بل كانت تحذيرا وقائيا ينبه إلى خطر سباق نووي محتمل. لكنها اشتملت ضمنا على توصية بتسريع الأبحاث الأميركية بهذا المجال، وهو ما مهد لاحقا لانطلاق مشروع مانهاتن.

ورغم أن أينشتاين لم يشارك في المشروع ذاته، فقد شعر بندم عميق إزاء مساهمته غير المباشرة، وصرح لاحقا بأسى "لو كنت أعلم أن الألمان لن ينجحوا، لما كنت وقعت الرسالة قط". لقد مثل موقفه هذا مأزقا أخلاقيا بالغ التعقيد، يعكس التوتر بين الالتزام الإنساني ومخاوف اللحظة التاريخية.

بعدما أُسقطت القنبلتان الذريتان على هيروشيما وناغازاكي صار العلم مشروعا قد ينقذ أو تدمر (ويكيبيديا) من المعمل إلى العالم: انهيار المسافة بين النظرية والتاريخ

ما يميز الكتاب أنه لا يحصر الفيزياء في إطارها العلمي، بل يرصد تحوّلها إلى قوة حضارية، تؤثر في السياسة، والاقتصاد، وحتى في الفلسفة. فالاكتشافات الذرية لم تبق في المختبر، بل خرجت إلى العالم حقائق لا يمكن تجاهلها، وصارت مصدرا للرهبة والتأمل معا.

ومما يجدر ذكره أن توقف الكتاب عند عام 1945 لم يكن قرارا زمنيا عشوائيا، بل كان اختيارا رمزيا دقيقا. ففي ذلك العام، أُسقطت القنبلتان الذريتان على هيروشيما وناغازاكي، لتُعلَن نهاية الحرب وبداية عصر جديد. لكنه لم يكن إعلانا عن هذا فحسب بل كان أيضا إعلانا عن نهاية البراءة العلمية إذ لم يعد العلم سعيا خالصا نحو الحقيقة بل صار مشروعا ذا تبعات كونية، قد تنقذ أو تدمر.

ويمتاز أسلوب هورتر بالسرد المتداخل، حيث يربط بين السياق الزمني، والتطورات العلمية، والحكايات الشخصية، دون أن يُفقد القارئ توازنه.

إن "عصر الضبابية" ليس مجرد تاريخ للفيزياء الحديثة، بل هو تأريخ لعصر فاض بالعبقرية، لكنه افتقر إلى الطمأنينة، وأشعل النور من قلب الذرة، لكنه أحرق به نفسه أيضا. إنها إذن دعوة للتفكر في معنى التقدم، وفي ثمن الحقيقة، وفي هشاشة الضمير العلمي حين يُزاح من سياقه الإنساني. إن هذا الكتاب يذكرنا أن وراء كل معادلة عقلا قلقا، ووراء كل اكتشاف مسؤولية قد تغير العالم إلى الأبد.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات اجتماعي

إقرأ أيضاً:

الجزيرة تنشر صور الكمين الذي نفذته القسام ضد ناقلتي جند في خان يونس

عرضت الجزيرة مشاهد لعملية استهداف ناقتلي جند إسرائيليتين نفذتها كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- أمس الثلاثاء في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.

ووفقا للمشاهد التي حصلت عليها الجزيرة فقد وقعت العملية في منطقة مسجد علي بن أبي طالب بخان يونس بعبوتين من طراز "شواظ" و"العمل الفدائي".

وأظهرت المشاهد رصد الآليتين اللتين كانتا تتحركان وسط أنقاض بيوت مهدمة قبل أن يبدأ المنفذان الاقتراب منهما والتخفي بين حطام البيوت.

وسمعت أصوات إطلاق رصاص كثيف قبل أن يخرج المنفذان -في وضح النهار- من على مسافة أمتار قليلة جدا متجهين نحو الآليتين. حيث قام أحدهما بإلقاء العبوة داخل إحدى الآليتين وعاد أدراجه دون غطاء.

في الوقت نفسه، كان المقاتل الثاني يفجر الناقلة الثانية التي كانت تقف على بعد أمتار قليلة جدا من الناقلة الأولى، حيث انفجرتا في وقت واحد تقريبا، فيما التقط المنفذان صور احتراق الآليتين وهما ينسحبان من المكان، ويتعهد أحدهما بالعودة مجددا.

وأظهر الفيديو جنديا إسرائيليا يقف إلى جانب إحدى الآليتين ولا يستطيع التحرك، كما أظهر تحليق مروحية يبدو أنها وصلت لإنقاذ الجرحي.

7 قتلى بينهم ضابط

وأسفرت العملية عن مقتل ضابط و6 جنود وإصابة عدد كبير من الجنود بعدما عجز الجيش عن إطفاء النار التي اشتعلت في ناقلة جند بعدما ألصق بها أحد المقاتلين عبوة ناسقة.

وتم استدعاء قوات إطفاء عسكرية إلى المكان، وبذلوا جهودا لإطفاء الناقلة المشتعلة، لكنها لم تتمكن من فعل شيئ كما قالت إذاعة جيش الاحتلال.

كما تم إحضار جرافة من نوع "دي 9" (D9) إلى الموقع وغطت الناقلة بالرمال في محاولة لإطفائها، لكن كل محاولات الإطفاء باءت بالفشل.

وإزاء ذلك، تم اتخاذ قرار في الميدان بسحب ناقلة الجنود وهي ما تزال مشتعلة، وبالفعل تم جرها أولا إلى شارع صلاح الدين في خان يونس، ومن هناك إلى خارج قطاع غزة، بينما كان العسكريون السبعة لا يزالون بداخلها.

إعلان

ووفقا لإذاعة جيش الاحتلال، فلم يتم إطفاء ناقلة الجند إلا بعد وصولها إلى داخل إسرائيل، بينما تم استدعاء قوات إنقاذ ومروحيات إلى المكان، لكن لم يبقَ أحد من الجنود على قيد الحياة، ولم يكن هناك من يمكن إنقاذه من العربة العسكرية المحترقة.

وتعليقا على الحادث، نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن ضابط كبير بالجيش أن مشاهد كمين القسام في خان يونس مخزية ولا تضفي احتراما للجيش الإسرائيلي.

مقالات مشابهة

  • الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي على مبنى التلفزيون الإيراني
  • قصة الممثل المصري المسيحي الذي ألقى خطبة الجمعة على زملائه
  • "القسام" تنشر فيديو كمين خان يونس الذي هزّ إسرائيل
  • الجزيرة تنشر صور الكمين الذي نفذته القسام ضد ناقلتي جند في خان يونس
  • روته يشيد بـ"دادي" ترامب الذي أوقف حرب إسرائيل وإيران
  • مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية
  • بيان ملتقى مشايخ ووجهاء اليمن بشأن القصف الإيراني الذي طال دولة قطر
  • العرباوي: نندد بالعدوان الوحشي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني
  • هيئة الكتاب تصدر رواية «جبل الشوع» لـ زهران القاسمي